اقتحام السفارات وقتل الدبلوماسيين
تاريخ النشر: 13/09/12 | 11:08اقتحام السفارتين الامريكيتين في كل من القاهرة ومدينة بنغازي، وانزال علم الاولى، ومقتل اربعة دبلوماسيين احدهم رئيس البعثة في الثانية، هو اعادة تذكير للإدارة الامريكية بأن بلادها ما زالت مكروهة وسط قطاع عريض من الأمتين العربية والاسلامية رغم ادعاءاتها، واحيانا تدخلاتها، الى جانب بعض ثورات الربيع العربي.
لا احد يستطيع ان يجزم بوجود تنسيق بين الاقتحامين، لاختلاف الجهات التي اقدمت على هذه الخطوة، ففي مصر كان اقتحام السفارة الامريكية عفويا، ونتيجة فورة غضب من إقدام مجموعة من الاقباط المتطرفين المقيمين في امريكا على انتاج فيلم يسيء الى الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما كان اقتحام القنصلية الامريكية في بنغازي مخططا له قبل مدة، ويتضح ذلك من ان اختيار الذكرى الحادية عشرة لهجوم الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) كموعد للتنفيذ.
تنظيم ‘القاعدة’ موجود في ليبيا، ولا احد يستطيع نكران ذلك، واعترف التنظيم رسميا بشنّ هجوم على القنصلية الامريكية في بنغازي في شهر حزيران (يونيو) الماضي، بعد الاعلان عن اغتيال الشيخ ابو يحيى الليبي الرجل الثاني فيه، في غارة لطائرة بدون طيار في منطقة القبائل على الحدود الباكستانية ـ الافغانية.
ولم يكن من قبيل الصدفة ان يتزامن الهجوم على القنصلية الامريكية في بنغازي مع اصدار الدكتور ايمن الظواهري زعيم التنظيم شريطا يؤكد فيه استشهاد الشيخ الليبي، ويتوعد بالانتقام من قاتليه الامريكان.
الادارة الامريكية تباهت في اكثر من مناسبة بإنهاء تنظيم القاعدة بعد اغتيال زعيمه الشيخ اسامة بن لادن في منزله الذي كان يقيم فيه مع اسرته في مدينة ابوت اباد الباكستانية، ولكن هذا التباهي لم يكن في محله تماما، فالتنظيم بات اقوى مما كان عليه في السابق، وها هو يستأنف تفجيراته بقوة في العراق، ويفتح فروعا في سورية، ويحتل مع حلفائه ثلاثة ارباع مالي جنوبي ليبيا، ويعزز سيطرته على منطقة الصحراء الافريقية الكبرى، وبعض مناطق المغرب الاسلامي.
‘ ‘ ‘
النظام الليبي يرفض الاعتراف بوجود تنظيم القاعدة على اراضيه، رغم ان أعلامه، اي التنظيم، ترفرف في احياء اكثر من مدينة، وبعض المؤمنين بعقيدته وأدبياته يدمرون الاضرحة والمساجد المبنية فوقها.
المفارقة ان هذا النظام الذي ما زال في طور التأسيس بعد الانتخابات البرلمانية الاخيرة، فاجأنا بتحميل مسؤولية الهجوم على القنصلية الامريكية لأنصار العقيد معمر القذافي، وظهر كأنه يستجير من الرمضاء بالنار.
نشرح هذه الجملة بالقول بأن القاء التهمة على النظام السابق وانصاره هو تهمة خطيرة، بل اخطر من وجود تنظيم القاعدة على الارض الليبية، لأن تنظيم القاعدة يحارب الامريكان والأضرحة مثلما يقول في بياناته، بينما انصار النظام السابق يريدون خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وتقويض قاعدة النظام الجديد تمهيدا للاطاحة به، مضافا الى ذلك ان هؤلاء يملكون اسلحة واموالا، وبعضهم مدربون تدريبا جيدا، وينتمون الى قبائل ليبية كبرى مثل الورفلّة والمقارحة والقذاذفة والترهونة وغيرها.
ان افضل حليف للتنظيمات الجهادية الاسلامية هو العداء المستشري في اوساط بعض الجماعات اليمينية المسيحية الامريكية ضد الاسلام والمسلمين، وسيطرة جماعات يهودية موالية لاسرائيل على مقدرات السياسة الخارجية الامريكية.
الإدارة الامريكية منعت تيري جونز قس ميامي العنصري الحاقد على الاسلام من الاقدام على جريمة احراق القرآن الكريم، وكان بإمكانها ،بالحسنى ام بالقانون، منع حلفائه الاقباط من انتاج فيلم يسيء للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واطلاقه في ذكرى الهجوم على برج التجارة العالمي بهدف الفتنة وخلق قلاقل وصدامات بين المسيحيين والمسلمين في مصر لضرب الوحدة الوطنية.
لا تستطيع هذه الادارة واجهزتها التذرع بالقانون وحرية التعبير لعدم الاقدام على هذه الخطوة، فقد اخترقت المباحث الفيدرالية الامريكية كل القوانين والاعراف عندما اثارت الرعب في اوساط الامريكيين المسلمين بعد احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، وحققت واستجوبت اكثر من عشرة آلاف منهم، بعض هذه التحقيقات كان مهينا، طابعه الاذلال.
ما زالت الاجهزة الامنية الامريكية، وبعد 11 عاما من احداث ايلول (سبتمبر) تعامل معظم الامريكيين المسلمين والزائرين العرب والمسلمين، بطريقة تمييزية تعتبر كل انسان مسلم موضع شبهات، ويتعرض لاستجواب المجرمين في المطارات الامريكية، حتى ان الكثير من الزوار العرب، وانا واحد منهم، قرر عدم زيارة امريكا، ورفض دعوات عديدة لإلقاء محاضرات في جامعاتها.
مقتحمو السفارتين الامريكية في القاهرة وبنغازي لم يفعلوا ذلك عندما تعمّد رسام كاريكاتير نرويجي الاساءة للرسول الكريم، بل ذهب اقرانهم في اكثر من عاصمة اسلامية للاحتجاج امام السفارتين النرويجية والدنماركية.
‘ ‘ ‘
التعلل بحماية المتطاولين على الاسلام والانبياء والمسلمين بحرية التعبير اكذوبة لا يمكن ان تنطلي على أحد، لأن السيدة انجيلا ميركل مستشارة المانيا التي كرمت صاحب الرسم الكاريكاتوري المسيء اوقفت رسما مماثلا مسيئا للمسيح. كما منعت القناة الرابعة البريطانية بث شريط وثائقي مماثل، بل اكثر اساءة تحت دواع امنية وبعد احتجاجات وتهديدات.
تصعيد الكراهية وحملات الاستفزاز الموجهة للاسلام والمسلمين هي التي تخدم التشدد وجماعاته، واحتضان جماعات عنصرية طائفية قبطية من قبل الادارة الامريكية هو الذي سيؤدي الى تعرّض السفارات والمصالح الامريكية للمزيد من الهجمات، فالتطاول على الرسول الكريم خط احمر، بل شديد الاحمرار لدى مليار ونصف المليار مسلم من اتباعه، معتدلين كانوا ام متشددين.
ندرك جيدا ان الذين انتجوا هذا الفيلم المسيء لا يمثلون اقباط مصر، بل يشكلون خطرا عليهم اكثر من المسلمين انفسهم، فهؤلاء الذين ما زالوا يعيشون الى جانب اشقائهم المسلمين، ويعتزون بانتمائهم الى التراب المصري، ويتمسكون بالوحدة الوطنية لوطنهم، ولهذا ادانوا بشدة هذا الفيلم المشبوه واصحابه وتبرأوا منهم.
مصر مستهدفة في ديمقراطيتها ووحدتها الوطنية الديموغرافية والجغرافية، وثورتها اكثر استهدافا لأنها تريد اعادة الكرامة لتسعين مليون مصري، واستعادة مكانة مصر وسيادتها ودورها وقرارها المستقل، ومن الطبيعي ان يجد من يقفون خلف هذا الاستهداف من هم مستعدون لإشعال فتيل الفتنة الطائفية.
التدخلات الامريكية في الشؤون العربية والاسلامية لمصلحة اسرائيل واحتلالها وتهويدها للمقدسات، واحتضانها لجماعات معادية للاسلام والمسلمين، كلها تشكل اساس البلاء وعدم الاستقرار بل والحروب في بلادنا، ولذلك يجب وقف هذا الاستفزاز فورا اذا كانت امريكا تريد ضمان مصالحها وأمن سفاراتها ومواطنيها.
بقلم عبد الباري عطوان