فرنسا كرة الثلج المتدحرجة
تاريخ النشر: 16/01/15 | 11:08أعلنت فرنسا حالة الطوارئ استعدادا لمزيد من الهجمات، والانباء تتحدث عن أنها حركت حاملة الطائرات «ديغول» لوجهة غير معلومة، كما انها ستستعين بخبرة (الشاباك والموساد) بحسب أنباء اخرى، فهل هذا هو المسار الصحيح للتعامل مع الازمة السياسية والامنية التي فجرتها «أحداث باريس» الاخيرة؟ وهل امتداد الازمة سيبقى مقتصرا على البعد الامني والسياسي أم سيكون له تداعيات اقتصادية واجتماعية؟
بالعودة الى الحملة العسكرية التي قادتها فرنسا في مالي وافريقيا الوسطى نكتشف حدود القدرات العسكرية الفرنسية، فالجيش الفرنسي يعاني من نقص حاد في قدراته على توفير الدعم اللوجستي لقواته لدرجة اضطرته في (مالي) الى الاستعانة بسلاح الجو الامريكي، وبلغت كلفة ساعة الطيران الامريكية (50 الف دولار) دفعتها فرنسا لامريكا فلا شيء مجانيا، الغريب ان فرنسا احتاجت الى دعم كبير من دول الاقليم وامريكا لشن حملتها رغم الحضور والنفوذ الفرنسي التقليدي في القارة السمراء، كما ان الحملة أخفقت في تحقيق الاستقرار ولم تمنع من تجدد الازمة وتمددها باتجاه النيجر والكاميرون ولم توقف المعارك شمال مالي.
لم تتوقف فرنسا عند هذه الحدود بل ازداد انخراطها في الازمات بشكل لافت، حيث حشدت اكثر من 2000 جندي على الحدود الجنوبية لليبيا في خطوة لم تكن مفهومة خصوصا وان التهديد للمصالح الفرنسية يأتي من الجنوب من نيجيريا والنيجر والكاميرون (بوكو حرام) واندفعت بحماسة للانخراط في التحالف الدولي لمكافحة الارهاب في المشرق العربي، وعملت على بناء قواعد عسكرية في الخليج، هذه الاعباء الجديدة كـكرة الثلج لم تعد فرنسا قادرة على وقف تدحرجها، الامر الذي دفع وزير الدفاع الفرنسي «لودريان» الى دعوة الرئيس الفرنسي «اولاند» الى وقف الخطط لتخفيض موازنة الدفاع الفرنسي التي تمثل 1,5% من حجم الناتج المحلي الاجمالي المقدر بـ(2،4 ترليون دولار) ما سيقود الى تسريح 35 الف موظف يعملون في وزارته، موازنة الدفاع الفرنسية تعد موازنة متواضعة اذا ما قورنت بموازنة الدفاع الامريكية التي يقدر ناتجها القومي الاجمالي بـ(14،6 ترليون دولار) ما اتاح لها تحمل الخسائر الكبيرة الناجمة عن غزو العراق وافغانستان التي قدرت باكثر من (3 ترليونات دولار)، فكيف لفرنسا التي يعادل ناتجها القومي حجم ما خسرته امريكا فيما يسمى بحربها على الارهاب ان تخوض حربا بهذه الضخامة، ام انها ستكتفي بغارات جوية محدودة هنا وهناك على نمط استراتيجية الطائرات بدون طيار الامريكية لتخفيض النفقات وهي استراتيجية لم توقف كرة الثلج الامريكية المتدحرجة في المنطقة، غير ان امريكا تعلمت الدرس ولم تعد تسعى الى التدخل بل تلقي بكرة النار بأحضان الاخرين وبالتأكيد فإنها لن تقاتل في سبيل فرنسا.
حقيقة اخرى عن حرب امريكا العالمية على ما يسمى (الارهاب) يدركها الفرنسيون اذا انها خاضت الحرب مستعينة بالمموليين العرب والنفط العربي الذي قارب في حينها سعر البرميل الـ(150 دولارا) ولم تستطع رغم ذلك تحمل التكاليف العسكرية والسياسية والامنية والاقتصادية فماذا عن فرنسا الان في ظل بيئة جديدة، فالنفط يقارب الان حاجز الاربعين دولارا ونمو التجارة العالمية في تراجع من 7% الى 3.5% بحسب صندوق النقد، والقارة الاوروبية تعمل بأقصى طاقتها لمواجهة ازمات دول الاتحاد ومديونيتها.
فرنسا تعيش مأزقا خطيرا اقتصاديا وسياسيا وأمنيا واجتماعيا، فهي تتحمل مع ألمانيا قيادة الاتحاد الاوروبي وصياغة خطط الانقاذ وتتحمل جزءا مهما من هذا العبء، وفي نفس الوقت تواجه تصاعد قوة اليمين المتطرف بقيادة «لوبن» المعارضة للاتحاد الاوروبي، كما تواجه فرنسا تحولات اجتماعية مهمة قاومتها على مدى عقود تتمثل بانخفاض نسبة الخصوبة وارتفاع سن الشيخوخة، فـ70% من السكان هم فوق سن الاربعين، في المقابل فهي بحاجة ملحة للمهاجرين وهو ما انعكس على الديمغرافيا الفرنسية فهناك (7 ملايين مسلم) في فرنسا اي ما يعادل عدد سكان الاردن مطاردين ثقافيا في المدارس والجامعات بحجة الدفاع عن العلمانية عبر خطوات ساذجة كمنع الحجاب وكأنه عائق كبير امام الاندماج، ففرنسا تقاوم التحولات الاجتماعية والقبول بالتعددية الدينية بشكل سطحي جدا وكان التاريخ توقف عند العام 1789.
الأبعاد الثقافية والتاريخية حاضرة بقوة في صناعة القرار الفرنسي، فالإخفاق الفرنسي الكبير في (جمهورية افريقيا الوسطى)عقب التدخل العسكري أدى الى هجمات انتقامية ضد المسلمين في واحدة من اكبر المجازر التي تعرض لها المسلمون في تاريخ القارة الافريقية منذ القرن السادس عشر، اذ تذكرنا بأحداث وقعت في القرن السادس عشر عندما استعانت البرتغال بالقبائل الافريقية (الاكلة للحوم البشر) لمحاصرة الموانئ الافريقية الخاضعة للعرب والمسلمين في القرن الافريقي وأدت الى وقوع مذبحة تم تدوينها في التاريخ، الامر الذي دفع المماليك والاتراك للتعاون لانشاء اسطول بحري لمواجهة هذه الكارثة الناجمة عن التدخل البرتغالي، فالبعد الحضاري والثقافي والتاريخي سيبقى حاضرا في اي عملية تدخل عسكري اوروبي في افريقيا او العالم العربي.
مراكمة الاخطاء عملية سهلة جدا والتورط في صراعات وحروب لدول تملك امكانات عسكرية عملية يسيرة ولكن الخروج من المأزق يحتاج الى شجاعة كبيرة من الساسة، فالعالم العربي يعاني من الاستبداد وهدر كبير للموارد خدمت الغرب لمدة من الزمن إلا انه الان تحول الى مستنقع كبير يهدد الجميع بالغرق، ما يحتاجه العالم العربي ليس المزيد من الحروب بل الى تقوية المجتمع المدني لمواجهة الاستبداد والتطرف، واصلاح سياسي حقيقي يوقف هدر الموارد ويبعدنا عن شبح القرون الوسطى، حيث حلت الجيوش والقلاع والامراء محل العلم والمعرفة والتنمية وفرضوا إيقاعهم السخيف لعقود بل قرون، أمر اصبح من الماضي في ظل العولمة الاقتصادية والثقافية التي نعيشها، امر سيحطم بنية الاقتصاد الدولي المعولم اذا اطلق العنان للمستبدين وهي كلفة سيتحملها الغرب قبل غيره، ما يحتاجه العالم العربي الاصلاح العميق وليس المزيد من الحروب والحملات العسكرية التي ستنعش امراء الحرب وستبني المزيد من الحصون استعدادا لجولة جديدة من المواجهة وما تحتاجه فرنسا مزيد من التسامح وعدم مقاومة التحولات الاجتماعية والثقافية والقبول بالتعددية الدينية بشرعنتها وتنظيمها وقوننتها وليس مقاومتها.
حازم عياد