شعوذة في الصيدلية
تاريخ النشر: 20/01/15 | 8:20السيدة البدينة المتلفعة في بلوزتها البيضاء الناصعة.. تسحب قصاصة ورقية ملفوفة بإحكام عشر لفة ولفة، من قمطر المتجر المحاذي لركبتيها.. تسحبها باحتراس شديد وقرأت في عينيها مايعني “سري للغاية”.
كنت في تلك اللحظة مشغولا بدس حفنة الدريهمات المتبقية من الورقة الزرقاء في جيب سروال الدجين الضيق، المشوب بمسحة بالية عند الفتحة التي إنتفشت خيوطها من كثرة السحب والدس.. السحب والدس، في إقتناء أمور يومية بعضها عادي وأغلبها تافه جدا…
وقبل أن آخذ علب الدواء المحشوة في كيس بلاستيكي صغير، مدموغ بعلامتي الهلال والصليب المتعانقتين، وأقذف بجسدي العليل الذي أنهكته الحمى الليلية إلى الشارع الرئيسي، فاجأني صوت الصيدلانية قائلة:
مهلا.. مهلا سيدي، هل لديك وقت.. لا تنصرف قبل أن أحدثك في أمر هام جدا!!
اعترتني دهشة واستغراب بالغين، إذ كنت قد سويت كل ما بذمتي في الفاتورة وعبأت مطبوع ورقة المرض بتدقيق مجهري ودمغتها الصيدلانية في كل مواضع الأختام والأرقام والمرفقات البيانية.. إلخ
تساءلت في السر ماذا تبقي إذن بعد كل هذه الإجراءات الروتينية التي حفظتها عن ظهر قلب كلما ترددت على الصيدلية في أول كل شهر..؟؟ ورأيت السيدة تفتح بتوأدة وحرص شديدين القصاصة الملفوفة في عشر لفات حتى لا يقع ما بأحشائها على الأرض وقالت وهي تتطلع إلي باستغراب:
ـــ بالله عليك سيدي.. أنت كاتب ومثقف معروف.. يعني أشوف صورتك في الجورنال مرة مرة.. أخبرني عما يكون هذا الشيء الغريب والغامض الملفوف في حشوة هذه القصاصة.. رجاءا أسعفني.. أسعفني قبل أن تنصرف.. فقد تاهت بي الحيرة ودوختني سبل التفكير؟
وانحنيت مطأطئا برأسي قليلا وطفقت أتفحص ذلك الشئ الغريب والغامض المدسوس بين طيات القصاصة التي تشبه تميمة.. بحلقت وحملقت وأمعنت النظر كثيرا حتى جحظت عيناي لعلني أتبين ما بداخلها.. هناك شيء ولا شئ في نفس الآن.. لم أفهم.. تملكتني حيرة عظمى ما بعدها حيرة.. وصوت الصيدلانية البدينة ما يزال يتردد في مسمعي: بالله عليك قل لي ما هو هذا الشئ المدسوس هنا؟؟
أخيرا وبعد أن تعبت حدقتاي من فرط التحديق حاولت أن أجمع أشلاء ذلك الشيء الغريب والغامض دون أن أجرؤ على لمسه ببنان سبابتي أو حتى أن أشمه مخافة أن تشفطه أنفاس خياشيمي التي أوسعتها الحمى والزكام الحاد ثم أسقط في نوبة عطسات لا تنتهي…
طفقت أفكك ثم أجمع تلك الأشلاء بنظراتي مرات ومرات علني أضفر في النهاية بتحديد كنه الشيء وشكله… وظهر لي أخيرا وبعد عناء تفكير وتحديق تارة في الشيء الغامض وتارة في وجه الصيدلانية وأنا أطرح عشرات الفرضيات أنه لم يكن في أحشاء هذه القصاصة اللغز سوى أشلاء حشرة متيبسة ومتقاعدة في الموت منذ زمن بعيد.. ساقان متخشبتان وجناح مقصوف ورأس مسطح، مدعوس من دون شعيرتيه القائمتين اللتين يتحسس برادارها مخاطر الأحذية المتربصة…
قلت للصيدلانية وعلامات الاستغراب ترتسم على قسمات وجهي:
ـــ هذه أشلاء حشرة لربما صرصار أو جعل أو يعسوب.. لست أدري وليس هناك من عيب إن كانت بصيدليتكم صراصير، فالحشرات توجد في كل مكان حتى في المطاعم الفاخرة هناك بجواركم أوفي الفندق ذي خمس نجوم من فوقكم.. إلخ
لملمت الصيدلانية القصاصة من جديد على طياتها السابقة بعناية ووضعتها جانبا وقالت وهي تنفث زفرة قوية من صدرها العريض:
الحمد لله.. الحمد لله.. ظهر الحق وزهق الباطل..
قلت لها في إنبهار: أي حق ظهر وأي باطل زهق في أشلاء صرصار مسحوق ومات في قبر هذه القصاصة منذ زمن بعيد؟
إسترخت الصيدلانية على الكرسي الجلدي الأسود العالي ثم شبكت راحتيها خلف رأسها وقالت:
ـــ حمدا لله.. أعتبرك شاهدا وأي شاهد مقتدر..
قلت: أوضحي سيدتي لم أفهم ما تعنينه؟
القصة وما فيها أن زميلتي تلك ـــ وأومأت لي في تلك اللحظة برأسها وبغمزة من عينها اليسرى إلى زميلتها التي تجلس في الجانب الآيسر قرب السلم المتحرك ـــ زميلتي تلك.. المسمومة.. النحيلة مثل جرادة القحط التي تعتصر غيظا وحسدا من حظوتي في الصيدلية قد إدعت أن هذه القصاصة هي طلسم سحري نصبته كمينا لها بين أغراضها حتى أتمكن من السيطرة على عواطف المدير وأضفر منه ب”القبول” والمفاضلة والمكانة العالية.. هل يعقل أن أقترف مثل هذا الدجل.. ثم هل أنا في حاجة يالسي عبده إلى مثل هذه الشعوذة لأسيطر على قلب المدير؟.. ألا ترى هذه الجرادة أنني أجمل منها حسنا وقدا ووسامة ولست في حاجة إلى تسخير قربان حشرة بريئة وبئيسة للضفر بقلوب المدير وزبناء الصيدلية..؟
وما إن أنهت سرد حكايتها، حتى شعرت بدوار ثم زلزال يميد الأرض من تحت قدماي وشككت في وجودي إن كنت في تلك اللحظة داخل صيدلية في قلب المدينة الجديدة ال”نيو تاون” أم في حانوت مشعوذ من أسواق القرون الظلامية؟
ودعت الصيدلانية.. كنت أمشي في الشارع وأنا أتطلع إلى العمارات الشاهقة والمتاجر العصرية وسيارات الكات كات وأتسمع إلى اللغو الدارجي المشوب بلغة فرنسية هجينة وفي ذهني تقرع أجراس فكرة ظلت تشغلني طيلة اليوم كم من التمائم والتعويذات والطلاسم مدسوسة في أذهان هؤلاء العابرين والعابرات وفي زاوية ومخابئ وتحت عتبات هذه العمارات الشاهقة؟؟
عبده حقي