قراءة في "يوميّات شفق الزّغلول" لمنى ظاهر

تاريخ النشر: 26/09/12 | 0:33

في محاولة للفصل ما بين قراءة النّص وما بين نقده يوجد بون شاسع، وما أحاوله هنا هو القراءة على طريقة د.عادل سمارة في تعامله مع روايتي ” امرأة عائدة من الموت”، محاولاً تجاوز الاختلاف ما بين القراءة والنّقد. وقد تركّز تساؤلي في حاجة المرحلة إلى التّعامل مع النّصوص الأدبيّة على اختلاف أجناسها، ووجدتني أتّفق مع د.محمّد فرحات وبشكل ما مع عبد الله الغذامي في دعوته: “لإعلان موت النّقد الأدبيّ، وإحلال النّقد الثّقافي مكانه” وعكست رؤية د.عادل سمارة بعض هذه المضامين رغم عدم البوح بها.

ووفق معرفتي فإنّ هذا المنهج يفرض حضوره بالممارسة، ودليل ذلك ما قامت به “جماعة الباب الأدبيّة”، والتي أنا عضو فيها، من قراءة وتحليل 48 عملاً أدبيًّا خلال عامين ما بين الرّواية والقصّة القصيرة والشّعر والفكر واللوحات الفنّيّة، وتنوّع القراءة والتّحليل والنّقد. فقد تناولت الجماعة الكتاب نفسه من وجهات نظر متعدّدة؛ فكريّة وثقافيّة وسيكولوجيّة وفلسفيّة وأدبيّة ولغويّة وجماليّة وبنيويّة وإبداعيّة.

وعليه، فإنّنا بحاجة إلى كسر مبدأ النّقد الأدبيّ النّمطيّ المقولب والاستعاضة عنه بالفضاء الثّقافيّ المفتوح، الذي يتعامل مع النّصوص بلا قوالب ومحدّدات مسبقة، بل يكون للوعي الثّقافيّ الدّور الأكبر في الدّخول إلى ثنايا النّصّ وسبر أعماقه.

وها أنا اقترف هذه المحاولة في قراءة نصّ كاتبتنا منى ظاهر “يوميّات شفق الزّغلول”.

أبدأ بالعنوان “يوميّات شفق الزّغلول” والذي يحمل كثيف المعاني وغريبها في غموض رقيق يدفع بالقارئ للبحث عن دلالاته. توقّعت أن أجد ضالّتي في المقدّمة التي جاءت تحت عنوان “للبوصلة مقام”، لكنّها زادت فضولي ورفعت درجة تشوّقي للاكتشاف، ولأنّني أبحث عن فكّ شيفرة عنوان الكتاب، وجدت بداية الرّابط في نهاية صفحة ٢٨ وأقتبس: ” في علّيّة زهيّة يطلّ زغلول صغير”. هذا الاقتباس فيه كلمة واحدة من العنوان وهي “الزّغلول”، وهنا تضعك الكاتبة في تساؤل آخر: من هي زهية؟؟؟ واكتشفت من خلال النّصّ أنّها جدّة الشّخصيّة المركزيّة “نور”، واسم زهيّة يعود إلى جدّة الكاتبة في الأصل.

في بحثي عن مفاتيح النّصّ استذكرت الفيلسوف المرحوم د.عبد اللطيف عقل في كتاباته “عذابات غريب بن حزين”، حيث وضعني في حينه بين روعة النّصّ وتعسّر فهمه، وعلّمني أنّ قراءة النّصّ لا تكتمل إلاّ بمعرفة الرّابط، ومن ثمّ فهم الرّمز والدّلالة. وكنت أتوقّع بأنني بتّ أمتلك مفاتيح “يوميّات شفق الزّغلول” وإنّني فككت رموزه كلّها، لكنّني وقعت في الفخّ، إذ أنّ النّصّ لشاعرة رقيقة ومتمرّسة، بذلت فيه خمس سنوات، وتوقّفت عند كلّ حرف وحرف وجملة وجملة، ومعنى ومعنى، ومبنى لمعنى، مزجت رموزها بالتّاريخ والحاضر والحلم والأسطورة.

انطلقَت من عناة آلهة الخصب الفلسطينيّ، وأنّثتها تماما وزوّقتها بمئات أنواع الزّهور والنّباتات الفلسطينيّة، بيد متمرّسة بارعة مستندة إلى معرفة عميقة بالنّباتات الفلسطينيّة، وقد تكون تؤسّس لموسوعة نباتات فلسطين.

ومزجت يوميّات زغلول زهيّة بالشّفق وهو لون الشّمس الأحمر كالجمر، لون ملحميّ البعد والرّمز والدّلالة. وحذار من لمس هذا الجمر على الرّغم ممّا يحمله اللون من سحر ورومانسيّة عصيّة.

استدعت الكاتبة فاطمة من رسومات ناجي العلي، ووضعتها في تناسق جميل مع زهيّة جدّتها وعناة إلهة الخصب، وما فيها كلّها من رمزيّة مركّبة.

تطلّ علينا منى ظاهر بعمل إبداعيّ رفيع بامتياز، وتبدأ مع عناة القصيدة اللاتنتهي، وهويّة الطّين وعناة الأرض، عناة أنا المقدسة، والجمرة ” الشّفق”، وعلاقتها بعناة بدءًا من شجيرات صحراوية كالقريقدان والخوريّة والعوسج العربي والغيل وأوراقها الرّمحيّة والحيصل أبو سلة، ثمّ العلنديّات والطيّون والسّجّادة.

تضخّ منى ظاهر غزير اطّلاعها بالنباتات وعلاقتها بعناة الأرض والأنثى والخصب، وتشعر بأنّها ابتعدت بالقارئ قليلاً، إلاّ أنّها سرعان ما تعود إلى عناة الوطن والأرض، وتزج بألوان الحجر الفلسطيني، وتستحضر معه دلالات غسّان كنفاني في برتقال يافا الحزين، وتولفه مع زهيّة وهي تصنع قطبة الصّنّارة بلون العنّاب، وتعبر بفاطمة إحدى بنات ناجي العلي في “خميل كسلها الصباحي”، لتحكي عنها وتقول: فاطمة ذو وجه مستدير وعينان سوداويّان وساعدان صلبان، تخبز كلّ صباح، وتحكي عن تطريز الأثواب والقطب بألوان التّراب والزّيتون والبحر والليمون وتعلن أنّ فاطمة ناجي العلي هي والدة الشّخصيّة المركزيّة “نور”.

ثمّ تغوص الكاتبة في حرب تمّوز 2006 وتتابع أيّام الحرب، وتصرخ على الموقف العربيّ بصوت مظفّر النّوّاب “قمم قمم معزة على غنم”. وتصل إلى اليوم الرّابع والثّلاثين حيث لا حرب ولا سلام. وتنتقل إلى شهر آذار من العام 2008، حيث حافّة الفلسفة لأنّ امرأة بقيت تحت الرّكام 40 يومًا وتضيف: لا زالت زهيّة تحتفظ بصندوق القشّ الّذي هرّبت فيه ابنتها فاطمة من بنت جبيل، ترشيحا، سعسع، الجش عين الزّيتون، وصولاً إلى النّاصرة.. و5 دقائق لقتل محمّد الدرة، وتنتقل فجأة إلى أريحا ويوسف يغطّي أخته بين بنانه كنبات السّوّيد.

ترسّخ منى ظاهر من خلال هذا الرّبط والتّنقّل في الزّمان والنّكبة وحرب تموّز وانتفاضة الأقصى وحقّ العودة، حكاية الأرض والتّراب والمعابر والحلم. وتعود إلى جدّها مؤسّس سلالة الزّيادنة لتحكي عن صخور سرايا ظاهر العمر وبيت المشرد أبي عصام والجامع الأبيض وكنيسة البشارة وحجر فقّوعة، وتربطه مع الجريح وشجرة جنستا الصّباغين الأصفر وثمار أبو ليلة الكرويّ الأحمر.

وتنشد شعرًا:

يَنْثالُ علينَا همُّ الوطنْ..

.. ونينٌ وأنينْ..

ونينُ العيشِ وأنينُ حالْ.

..

يَرْتَهِنُ على العامِلِ والعامِلَةِ

طَعْمُ القمْحِ

بإقصاءِ حُقوقٍ

وَهَمْسٍ وَهَسْهَسةْ؛

هَمْسُ الرّغيفِ وهَسْهَسَةُ عَوَزْ.

..

ولا تستطيع الفكاك من عناة وتزوّقها بثوم صندل وحبّ هال وكهرمان وعنّاب برّيّ، وتنشد بصوتها وتقول: أنا الرّبّة

أنا العظيمة.

ثمّ يأتي محمّد ومجد وبشارة وهالة الخبيرة ليأكلوا الخبّيزة بدعوة من عطف زهيّة.. وتكون المفارقة في مقولة “النّظافة من الإيمان” المكتوبة على جدار مدرسة ابتدائيّة تحيطه النّفايات.

وتتذكّر نور موت أبيها وتقول في غيابه:

علّقتُ قلبي على مشجبِ الموتِ.

ولن يغريني وهم الجمالِ، بعد!

ويظلّ عشق اللغة العربيّة حاضرًا رغم أنّ الفتى لغته هجينة، ورغم ما في اللغة من ألم عند التّطرّق لجذر الفعل “شبح” فهو يدلّ على ممارسة الاحتلال لفعل الشّبْح، وما فيه من شحوب..

ولا يسعني في نهاية هذه القراءة إلاّ أن أقول إنّ منى ظاهر تبقي شفق الزّغلول مفتوحًا على مداه، ويوميّاته لا زالت تحمل الكثير الكثير، ولونه المتّقد لن يفقد أرجوانيّته لكي يحمل أحلامها بالورد والصّبّار وزهيّة وعناة وفاطمة.

بقلم:نافذ الرفاعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة