مدينةُ ريح لا يذروها نُواح!
تاريخ النشر: 04/10/12 | 23:33بمزيدٍ مِن طواحينَ مَسرّةٍ عتيقة، تبشّرُ أسرة منتدى الحوار الثقافي بمدينة ريح لا تذروها رياح ولا نواح، للروائية فاطمة ذياب، وذلك في لقائها الشهري المعقود بالفرح 27-9-2012، في مركز تراث البادية عسفيا، والذي صادف تاريخ ميلادِها، والاحتفاء بهذه المناسبة.
استهلّ اللقاء الشاعر رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة جاء فيها:
تماهيتُ معكم أنا المُنتمي مُريدًا إلى رعاة الريح، والتقتْ في دريئةِ الإبداع طفلةٌ خضراءُ (آمال عوّاد رضوان) ودبدوبة متمرّدة (فاطمة ذياب)، ومتّبعًا بوصلة مبدعي رولان بارت أوليس وهو القائل: “وما يجب على المرء أن يقومَ لقراءة كتاب اليوم ليس الالتهام والابتلاع، ولكن الرَّعي بدقة والجزّ بعناية”.
لذلك جئتكِ بشغف، جئتكِ وقرأتكِ رواية أردتِها أن تبقى بعيدة عن الضوضاء والأضواء، لا بل تبقى عصافيرَ لا يملكُها أحدٌ سواكِ، ليُواصلَ دولابُ ذاكرتكِ حراكَهُ ودوَرانَهُ زمنًا ممتدًّا، يحفظ ويحافظ ويحتفظ بمكانكِ نيّئًا، فالمكان هو الذي يروي حكاية ساكنيه، ويحمي مروحة ذاكرتهم من عوامل التعرية.
لكنّ شاعرتنا العواديّة الرضوانيّة (آمال عوّاد رضوان) أصرّت عامدةً متعمّدة أن تُخالف تيمّمنا، لتُبقيكِ “أنتِ أنتِ وتبقي الديار ديارا”، وهذا ليس بغريب عليها، فهي تعرف وكذلك نحن، أنّكِ يا فاطمتي رأيتِ الكثير وعاينتِ العالمَ الرحبَ في حياتك، فغصتِ عميقا تلتقطين صورًا فسيفسائيّة لمقاطعَ مِن واقعِكِ. لماذا؟ لتسجّلي وتكتبي الوجع والألم والأحزان والفقد والانكسارات، في عمل مُتحرّرٍ مِن عنف الأيديولوجيا، مُتشبّعٍ بالرغبة في الخوض في تفاصيل حكاية تملأ الدوائرَ الفارغة، في مدينة قريبة ملامحها وموازية لما حبَرتِهِ وشفتِهِ وعرفتِه.
أقول: آمال عوّاد رضوان وعَت بعُمق ماهيّة بوحك، فكيف تتركُكِ لازمة يُكرّرها لوركا: “والآن لا أنا أنا/ ولا البيت بيتي”.
نعم يا دبدوبتي كيف؟ وهي العارفة أنّكِ تحملين قبسَ إيمان قادر على مواجهة ومجابهة تآمر الظروف عليكِ، لذلك لبّت راضية نداءَ الواجب مسنودة بوعي إبداعيّ، لتشاركَكِ في نسج مدينة الريح رواية طوّقت عوالم متعدّدة، طارحة أبعادَ الشخصيّات الجوانيّة العميقة دون أن تخدش براءتَها.
فاطمتي أيّتها الدبدوبة المدللة والمتمرّدة في دفيئة جغرافيا الإبداع.. فضاءُ مدينتكِ أمكنة وأزمنة، وهي دارٌ ترصدُ العلاقاتِ الحميميّة في نسيج التواصلات الاجتماعيّة، يُسيّرُها دولابُ الذاكرة فكرًا ثقافيًّا وتكوينًا نفسيًّا وأيديولوجيا كآبة عذبة. أمّا السياق فهو فنّيّ وجماليّ وقد جاء في انسيابيّة وعذوبة، ممّا أدّى إلى تماسُكِ بنائِهِ تماسكًا اسمنتيًّا، أقصى بعيدًا إزميلَ التشظّي، هذا وقد رأيتُني مُلزَمًا أن أجيزَ لنفسي أن أضيفَ، “مدينتُكِ نصٌّ يتّسمُ بالشعريّة الصافية، ممتعٌ رائقٌ مُقطّرٌ مِن روحك المشتعلة حبّا وإنسانيّة محتشدة بالرؤى وجريان الأحداث. واصِلي عطاءَكِ مِن نور إبداع لا يَغربُ، لتجعليهِ كلماتٍ تبثُّ في قلب كلّ مَن يقرؤُها، كي تَبقى مُتجذّرة في الذاكرة طويلاً طويلا، مِن فرطِ ما تمتلكه من القدرة الفنيّة والدلاليّة والإدهاش.
ثم كانت مداخلة نوعيّة للد. الشاعر فهد أبو خضرة جاء فيها:
سأتحدّث حول الرواية. إنّه عملٌ جادٌّ جدّا يستحقُّ أن يُقرأ مرتيْن، وأن يُدْرسَ بعمق، وآمل أن يدرسَهُ الباحثون دراساتٍ عميقة، ليكشفوا ما فيه من أشياء كثيرة تطرقت إليها.
مكتوبٌ على الغلاف رواية، وأنا لا أظن أنني أمام رواية صافية، هي سيرة ذاتيّة رواية، أو رواية سيرة ذاتيّة، والفرق أنّ السيرة الذاتية يتطابق فيها المؤلف والراوي والمرويّ عنه، بينما في الرواية لا يتطابق الكاتب مع المرويّ عنه، ولكن هنا التطابق واضحٌ في كلّ العمل، ولذلك هي أقربُ إلى السيرة الذاتية، وإن أردتم إلى السيرة الرواية.
هذا أوّل خرق لِما نُسمّيه الأجناس الأدبيّة، أي مزج بين السيرة والرواية، ولكن هناك خرق آخر وأهمّ، وهو هذا التعاون في صياغة المادّة بين الأديبة فاطمة ذياب، والشاعرة آمال عوّاد رضوان، وظهر واضحًا الاتجاه الشاعريّ في الرواية، وهذا ما نُسمّيه كسرًا عبْرَ الأجناس، أي مزج لغة الرواية التي هي لغة نثريّة مع لغة الشعر، وهذا ما كُتب في بعض الدراسات عن شعريّة الرواية، وهذا مثال ممتاز لشعريّة رواية مدينة الريح، أي فيها الكثير من الشعر. والسؤال هو: هل هذا جيّد أم غير جيّد؟
اليوم الاتجاه هو إلى أنه جيّد وإيجابيّ، في مرحلة يحاولون فيها كسر الأنواع، فلا يوجد شعر صافٍ، فاليوم هناك شعر منثور، أي خليط بين الشعر والنثر، وعند العرب في سنوات الستين كَتب توفيق الحكيم “مَسْـــرِواية”، أي مسرحيّة رواية، فممكن أن نشتق لهذا النص أيضا “سِيــرِواية” أي سيرة رواية. هذا الخرق للأجناس الأدبيّة يتزايد اليوم، باعتبار أنّه لا يوجد جنسٌ أدبيّ نقيّ، وفي رأي الدارسين يجب أن لا يكون، أو قد يُكتب على الغلاف “نصّ روائيّ” وليس رواية، حتى يُظهروا أنّ هناك خرقا. فماذا يفعل الكاتب أو الأديب حين يتجاوز الجنس الأدبيّ؟
هو أوّلاً يخرج عن المألوف، ويحاول أن يقول أشياء تدهش القارئ، وهذا بدأ منذ بداية الحداثة وما بعدها، وهذه سمة مميّزة من سِمات الحداثة؛ من مخالفة العُرف وخرْقِ المألوف وكسْرِ الأجناس، وهذا يُعطي للقارئ محاولة لإعادة النظر في كلّ ما عرفه وخاصّة القارئ العربيّ، لأنّه محافظ على الأجناس الأدبية كثيرا، وبسبب هذه المحافظة هناك قسم من الأدباء لا يعتبرون قصيدة النثر شعرا، وفي منهج اللغة العربية الإسرائيليّ دخلت قصيدة النثر، ولكنها ليست موجودة في البلاد العربيّة، لأنهم لا يعترفون بها كجنس أدبيّ أصليّ، وهذا يدلّ على أنّ المحافظين حتى الآن لا يعترفون بكسر الأجناس، إذن ماذا سيقولون حين يقرؤون هذه الرواية التي فيها كسر للأجناس من ناحية سيرة رواية، وكسر للغة من ناحية لغة أدبية ولغة شعريّة؟ هذا يضعها اليوم أمام الدارسين كخرق للمألوف.
ليس عندنا في البلاد نصوص كثيرة روائية خاصّة تخترق حدود المألوف والعُرف الروائيّ. في النصوص الأخرى كالقصص القصيرة وبعض الكتابات موجود الخرق، فتجد الآن الكثيرين يكتبون على الغلاف نص دون أن يُعرّفوه إن كان خواطرَ أو قصصًا أو ما شابه ذلك، وهناك خليط عجيب، وأحيانا في خارج البلاد ينتقل الشاعر من نوع ما من الكتابة الشعرية، في داخلها نوع من الكتابة النثرية ثم يعود، وأدونيس فعل ذلك أكثر من مرة في سنوات الثمانين، وفي كتاب الحصار ذلك واضح.
ولكن حين كان الخروج سريعًا واجه الحداثويّون هوّة، لأنّها حداثة ما بعد الحداثة. لقد بدأت الحداثة الشعرية في الغرب عام 1892، ولكن في الشرق بدأت عام 1956، وكانت هناك حداثة فكريّة عربيّة، ولكن لم يَطُلْ عمرُها مع أسفي الشديد، وكانت الحداثة بعيدة جدًّا كالبناء العلويّ، كأننا بنيْنا السطح ثم بدأنا نبني الجدران والأعمدة والأساس، وذلك لأنه ليس لدينا جمهور حداثويّ لا في التفكير ولا في الثقافة، إلاّ عددًا قليلا فقط ، وظهرت الحداثة كأنها مستوردة من الغرب وكأنها تُبنى من الأعلى، فيوجد لدينا فواصل وحواجر بين هذه الحداثة وما بعد الحداثة وبين الشعب.
الرواية قيّمة. ولكن الرواية الحداثيّة لا تلقى القبول حتى الآن، وكذلك القصة الحداثية، فمثلا قصص زكريا تامر تجد الشخصية فيها تُغيّر كلّ تفاصيلها في منتصف القصة، وتصبح شخصيّة أخرى، فيقف القارئ أمامها غير فاهم لماذا يحدث ذلك. نحن بحاجة إلى تطوّر حداثيّ جديد فكريّا ثم شعريّا، وهذا قد يأخذ مئة سنة ولكني متفائل، إذ أعتبر أنّ الربيع العربيّ الذي حدث في السنة الماضية هو بداية الحداثة العربية الجديدة، مهما كانت الظروف المرافقة له، ومهما كان التشاؤم المرسوم على وجوه الملايين، لأنّ المطالبة بالحق الفرديّ هو أول خطوة لحرية الجماعة، بعد ذلك تأتي حرية التعبير وحرية الفكر، إلا أنّنا مشيْنا خطوة والزمان لا يعود الى الوراء، وقد بدأت ثورة وستستمر.
هذا النوع من هذه الرواية ربما بعد عشرين سنة ستقرأ بطريقة أفضل ممّا ستقرأ اليوم، لأنّ كسر الأجناس سيصبح أمرا مألوفا ومتعارَفا عليه، وعمل كهذا يحتاج إلى مدقق لغويّ ومُحرّر للمراجعة اللغويّة والتنسيق والتدقيق، كما هو الحال في العالم الغربيّ والعبريّ، فلو أخذنا مثلا الكاتب محمد شكري فهو جدّا مشهور ومعروف على المستوى العربي والعالم، ولكن عندما يكتبون عن لغته فيقولون، إنها لغة اللاّ أدب، أي هو بعيد عن الكتابة الأدبية، فلا تكفي الأحداث فقط وإنما أحداث مصوغة بلغة أدبية جميلة، وحين تكون مصوغة بلغة شعريّة أيضا، فهذا يزيدها جمالا، والنغمية في رواية مدينة الريح بارزة، لذا الرواية تستحق القراءة مرات والدراسات العديدة.
الدكتور الناقد والشاعر منير توما: بعد قراءتي لرواية مدينة الريح للكاتبة فاطمة ذياب، وجدت أنّ هذه الرواية هي بمثابة استبطان لنفسيّة المرأة في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوريّ، حيث تبرز المرأة في هذه الرواية إنسانة متبرّمة غيرَ راضية عمّا يجري حولها، وقد رأينا في هذه الرواية أنّ الكاتبة هي الراوي وهي البطلة على مدار فصول الرواية التي تتخللها شخصيّة دبدوبة، التي أعتبرُها أنّها الذات الأخرى للكاتبة أو الراوي، وهي ما يُعرَف في علم النفس بالمصطلحات الأدبيّة (the alter ego)، وذلك لكوْن دبدوبة هو الصوت الناطق بما يعتمل ويختلج في صدر معظم النساء المغبونات مهضومات الحقوق في هذا المجتمع الذكوريّ، فدبدوبة هي الثائرة على وضع اجتماعيّ سائد تكون فيه المرأة مهيضة الجناح.
إنّ الكاتبة فاطمة ذياب تسلك في هذه الرواية مسلكًا ساخرًا من أوضاع ترفضها، وذلك من خلال قالب فكاهيّ خفيف الظلّ، لكنّه لا يخلو من جدّيّة الموضوع المطروح في معظم الأحيان، والنصّ التالي من الرواية يعكس هذه المعاني ويؤطّر لمضمون الرواية الهادف، فتخطب ساخرة ص 54:
“دبدوبة: حقًّا نريد مَن ينزل إلينا ويتماهى مع همومنا. لا نحتاجُ سلّمًا كي نصعد إليه ونحن ولا نملك ثمن درجة من درجاته، على الأقلّ أعطوهم زلاّجة كي يهبطوا إلينا. لا نريد أن ننتخبهم للبكاء فقط، فدعونا نحن النساء نفعل هذا ولنجرّب. مطلوب حالاً نوّاحة عربيّة تبكي بالعربيّة وتتعرّى بالعبريّة، ومطلوب مصنع لمناديل ورقيّة، وباحشو قبور وربطات عنق وجنازات رسميّة لتشييع جثامين أحلام النساء، اللّواتي يقضين ويمُتنَ في معارك الجهاد والرباط، ويحرثن الأرض بالطول والعرض كي لا تسقط احداهن من فوق”.
وفي هذا النصّ نشعر بمدى خيبة أمل الكاتبة بلسان دبدوبة، واستيائِها مِن عدم إتاحة الفرصة للنساء من التعبير عن ذواتهنّ وتحقيق طوحاتهنّ، وذلك من خلال لغة الاستعارة المُعبّرة عن هذه الحالات والاوضاع، باستخدامها عبارة “تشييع جثامين أحلام النساء”، ممّا يشير إلى القدرة اللغويّة البلاغيّة للكاتبة، في التعامل مع المجاز اللغويّ، كما تؤكّدُهُ كثيرٌ من الحوارات الواردة في فصول الرواية.
تخوض الكاتبة في هذه الرواية غمارَ عدّة أفكار ومواضيع حياتيّة ترتكز أساسًا على عالم المرأة، وترتبط بأحوالها في المجتمع الذكوريّ الذي تحيا به، فالكاتبة تطرح مسألة ترشيح المرأة للانتخابات وخوضها معركة سياسيّة في هذا الاتّجاه، لأنّها ترى أنّ ذلك حقّ من حقوقها كفرد في هذا المجتمع، يتمتّعُ بالأهليّة لهذه الممارسات الاجتماعيّة والسياسيّة، علاوة على ذلك، فإنّ الكاتبة تتناول موضوعًا حسّاسًا يتّصل بعالم المرأة وعلاقتها مع الرجل، يتمثل في لعب القمار وانحرافهم اجتماعيّا.
ومن المواضيع الأخرى التي تتطرّق إليها الكاتبة، ما يدور في عالم المرأة من نشاطات، كانتخاب ملكات الجمال ومناسبات عرض الأزياء، وكلّ ذلك من خلال مزيج من السرد والحوار الذي يطغى إلى حدّ ملموس في الرواية.
ومن اللافت أنّ الكاتبة لا تنسى التعرّض لموضوع زواج الفتيات، متّخذة من دبدوبة وسيلة، تقدّم بواسطتها بقالب فيه بعض الدعابة والفكاهة الكثيرَ من النصائح للعروس المقبلة على أوّل سنة زواج، حيث تبدو دبدوبة خبيرة في مثل هذه الأمور، باعتبارها امرأة عاركت الحياة وخاضت العديد من تجاربها وتقلّباتها، ومن الواضح في هذه الرواية أنّ الكاتبة تُصوّر دبدوبة بكونها مخلوقة طيبة القلب متسامحة، رغم أنّها لا تحتمل الضيم ولا تترك حقها يضيع هباء، فحين ضرب الولد ابن دبدوبة بحجر، وسال الدم من رأسه، تخبرنا الكاتبة من خلال النص قائلة:
“مَن لا يعرف دبدوبة ومدى تعلقها بأولادها؟ أما دبدوبة فأنا أعرفها جيّدا ولا أبالغ .. طيبة القلب هذه تصبح كالنمرة الشرسة إن تعدّى أحدُهم حدود عائلتها أو أولادها، ولها مقولة تردّدها بمناسبة وبغير مناسبة: “الحق حقّ ولو على قطع الرأس” ص 118.
ومن ضمن الاستعارات العديدة التي تلجأ إليها الكاتبة، ما أوردته في حديثها عن حريّة الأنسان عامّة والأنثى خاصّة، في مجال العمل الذي يتطلّبُ من الإنسان، لا سيّما الأنثى في هذا المجتمع، الكثيرَ من التنازلات والخنوع للفساد والظلم والاستبداد للسيد رئيس أو صاحب العمل في المكتب أو غيره، فتقول الكاتبة في هذا الصدد:
“هكذا يا صديقي.. هكذا اخترنا ورضينا أن نكون قطاريز في حقل بطرس، وأغمضتُ عينيّ عن كلّ ما أعرفه من قوانين السادة والقطاريز. كنتُ أعرفُ جيّدًا أنّني كي أُقبل قطروزة في حقل بطرس، عليّ أن أفعلَ ثلاثة؛ أن أرى بعينَي السيّد، وأن أسمعَ بأذنيْهِ وأن أتكلّم بلسانه، ولأنّني حشرتُني داخل المثلث المغلق، رضيتُ أن أكون كذلك، وسريعًا جدًّا تعلّمتُ كيف أغلق عينيّ وأذنيّ ولساني، وأعلّقهم جيّدًا على المشجب الصغير وراء باب غرفة المدير. أسفة. أقصد السيّد الجديد. تعلّمتُ كيف أكون حدّاءة أروّجُ بضاعة السيد حتى وإن كانت فاسدة غير صالحة للأكل وللاستعمال. المُهمّ أن تصلَ بضاعة السيّد، أعني المدير، وكذلك زوجة المدير”. ص 194.
وفي كلّ هذ نقدٌ اجتماعيّ لخيانة المبادئ والقيم في سبيل العيش، خصوصًا إذا كانت الأنثى هي مَن تقوم بذلك، سعيًا وراء العمل والوظيفة الّتي تؤمّنُ لها المالَ اللازم لها ولأولادها، ومن حيث أنّ المرأة أو الأنثى تدرك خطورة ما تقوم به، وتعلم أنّ ذلك مُنافٍ لأصول الحرّيّة الإنسانيّة، فإنّها تُصرّحُ بحقيقة تصحيح الأوضاع التي كانت قابعة فيها قائلة: “صديقي.. لا يمكننا أن نُعلّمَ أولادَنا عشق الحرّيّة، ونحن بأنفسنا نعشق أغلالنا”. ص 195
وهنا تظهر شجاعة الأنثى، حين تقول للرجل الذي يعاني من ظاهرة الخنوع الوظيفيّ الطوعيّ لرئيس العمل في بقيّة حوارها معه: “كم تألّمتُ عندما سمعتك تقول: ليتني صديقتي أمْلكُ نصفَ ما لديكِ من شجاعة، حتى أغادرَ قصر السيد غيرَ آسِفٍ وغيرَ نادِم. يومَها حاولتَ أن تضع المبرّرات الوهميّة لهذا العشق الخرافيّ، ولذاك الخنوع اللامتناهي، بل الأسطوريّ، وظللتُ عن بُعدٍ أراقب انتحارَكَ على عتبة باب السيد حتى آخِر قطرة دم، وأنت تنزف آخِر نقطة حبر فوق أوراق السيّد”. ص 195
إنّ في هذا الحوار إشارة إلى كوْن المرأة أو الأنثى في كثير من الأحيان، تكون قادرة ومتمتّعة بالشجاعة أكثرَ من الرجل في تحدّيها وثورتها على أوضاعٍ ملتوية، انطلاقًا مِن شعورها بأهمّيّة الحرّيّة، رغم ما قد يعود عليها من ضرر مادّيّ، فهي بذلك تكون قد عرفت طريق الكرامة والحرّيّة غيرَ آبِهةٍ أو مُكترثة بالمغريات المادّيّة،
وإذا حاولنا أن نبحث عن سبب تسمية الكاتبة لروايتها بمدينة الريح، فإنّه يمكننا أن نقول، بأنّ هناك تماهيًا بين الأنثى والمدينة، من حيث كوْن المرأة أو الأنثى متقلّبة في عواطفها ومشاعرها وسلوكها، دائمة التغيّر كالمدينة المقترنة هنا بالريح، التي تميل دائمًا في اتّجاهات مختلفة، وقد تحدُثُ في مسارها تغييرات جوهريّة. “نعم أيّتها الأنثى المقيمة في المدينة الباحثة عن نقطة ضوء في دهاليز المدينة، سقطت أوراق التوت والتين والتفّاح والرحيق والقرنفل. سقط القناع عن وجه المدينة، ومع كلّ هذا، ما زلتُ أيّتها الأنثى الرقم الصعب في مفكّرتي، والسطر الأوّل في حروفي، والجُملة الأولى في كتاباتي”.
وهكذا يتّضح ممّا تقدّم، أنّ هذه الرواية تتراوح في بنيتها بين الحوار والسرد، وهي أقربُ للمذكّرات الشخصيّة للراوي الممثَّل بالمرأة أو الأنثى، التي صوّرتها الكاتبة في بعض الحالات بأنّها صعبة المراس أحيانا، ومُواسية للآخرين أحيانًا أخرى، وكوْنها موضوعيّة في جانب من آرائِها وتصرّفاتها، لكنّها تبقى الأنثى الشفافة التي يتنازعها الحنين إلى الرجل في كلّ زمان ومكان، فللأخت الكاتبة فاطمة ذياب أجمل التهاني وأصدق التحيّات، مع أطيب التمنيّات بدوام التوفيق والإبداع والعطاء.
وجاء في مداخلة الشاعر فهيم أبو ركن في مدينة الريح ثلاث تحيات:
الأولى: للأستاذ أمين القاسم مدير جمعية البادية، والثانية لمجلة مواقف على لفتتها الكريمة في هذا المشروع، ألا وهو إصدار كتاب لأحد الأدباء في عدد خاصّ بين الحين والآخر، والثالثة للمُحتفى بها الأديبة فاطمة ذياب على هذا النتاج الأدبيّ المتميّز.
وعلى هامش التحيات نستهلّ حديثنا عن “المقدّمة التي تحييّ فيها المؤلفة فاطمة صديقتها الشاعرة آمال عوّاد رضوان، تلك التي “طلت فجأة من غبار زمان المؤلفة وغُرّة أيّامها ومدارها، ودفعتها للانتعاش والاستفاقة من جديد، والعودة لعالم الإبداع”. وهذه المقدمة أعتبرُها جزءًا لا يتجزأ من الرواية، لفهم خيوطها وإنارة بعض زواياها الغامضة.
في حديثي هذا سأتناول بعض النقاط التي يمكن أن تكون مادّة للنقاش، والرواية التي تثير نقاشًا تكون ناجحة، لأنّها تطرح تجديدًا غيرَ مألوف، أو رؤيا فريدة في تميّزها.
من هذه النقاط؛ لغة الرواية التي تمتدّ وتتقلّص بين السرد الروائيّ النثريّ، ولغة الشعر والانزياحات الإيحائيّة، خاصّة في الفصول الأولى من الرواية، حيث يزداد الحوار تدريجيّا مع تقدّم الأحداث.
نقطة أخرى، هي استعمال المؤلفة للحروف والرموز مثل (ن – ج ….) وغيرها، بدل الأسماء! فهل استعمال الرموز أفضل من اختيار أسماء لا علاقة لها بالواقع؟… نقطة للنقاش!
ثالثا: استعمال اللغة الإنجليزية بحروف عربيّة مثلا صفحة 38: “سوري آي هاف تو جو. صفحة 39: واي نط؟ أوكي ماي فراند، يو كان جو…، يو ماست جو!”. فهل مثل هذه الاستعمالات تضيف للعمل أم تضعفه؟ وهل كان من الأفضل كتابتها بلغتها الإنجليزية، أو ترجمتها إلى العربيّة؟
رابعا: شعرت أنّ استغراق المؤلفة أحيانًا بالصناعة اللغويّة الشعريّة، أفقد كما أحسست بعض التشويق الروائيّ، ممّا أوحى للقارئ أن الحبكة غير متينة، فالمؤلفة اعتمدت على التعامل اللغويّ أكثر من تعاملها مع البناء الدراميّ، وربّما يكون هذا أسلوبًا قريبًا من سرد السيرة الذاتيّة، فلو كان الاسم غير رواية لَما تطرّقنا إلى الحبكة الروائيّة التي تمثل العنصر الأساس في التشويق، ففي هذا السرد نجد أنفسنا أمام قضايا جديدة دون تمهيد مُسبَق، وهذا يُشعرنا بحدّة الانتقال من موضوع لآخر، ممّا يوحي ببعض الفوضى والتقلّبات، وربّما عنوان الرواية “مدينة الريح” جاء ليُعبّر عن هذه التقلبات!
ونقطة أخرى تثير نقاشا أيضًا، وإن جاءت في السياق فهي تُعبّر عن موقف معيّن، وهي حُكمها القاسي على الرجل، ففي صفحة 102 تقول على لسان صديقتها: “عندما يخون الزوج لا يفكّر بالأخطاء.. يخون لأنه خُلق وجُبل وطُبع هكذا!”. وص 42: “لا زوج فاجر ولا ابن فاجر، الزوج عذاب، والابن الأكبر هم..”!
ونقطة أخرى لاحظتها، وهي الارتقاء والانخفاض بين عبارات مبتكرة وبين عبارات مُعادة ومكرّرة، فمثلا هناك أمثلة كثيرة من التعابير الجميلة مثل: “طويلا ركنتك وراء الغيم الأسود، مهملة في صقيع لا حدود لسواده، مع كثير من ذكريات مخللة”. تعابير لم نسمع مثلها مِن قبل، أو ندر استعمالها لتفاجئنا وتخلق لدينا الدهشة المطلوبة من العمل الإبداعيّ. بينما نجد عبارات مكرّرة استعملها العديد من الأدباء والشعراء فقالوا مثلا: “اشتقت إليك شوق المريض إلى عافيته، ص 40. شوق الغريب إلى وطنه، شوق السجين إلى …حريّته”.
من العناصر الكثيرة الإيجابيّة في “الرواية” عنصر تراثيّ إيجابيّ، وهو ذَكَرَ مواقع مرّت بها المؤلفة وآلات وأدوات تراثيّة، قليل من الأجيال الصاعدة تعرفها بأسمائها القديمة، مثل “المهباج”، وهذا موتيف إيجابيّ يُلقي الضوء على حياة آبائنا وأجدادنا.
أخيرا أعتقد أن الأديبة فاطمة ذياب قدّمت لنا هنا عملا يستحقّ الدراسة بعمق أكثر، وما ذِكْرُ هذه النقاط المذكورة أعلاه، إلاّ من أجل النقاش حولها وتحليلها تحليلاً أكاديميًّا علميًّا، فهذا العمل يُضيف إلى أدبنا المحليّ وساما آخر نفخر به وبمؤلفته، حتى لو اختلفنا معها في بعض القضايا التي تطرحها، أو في أسلوبها، وذلك لا يُنقص من قيمة هذا العمل الإبداعيّ الفريد، في تناوله للأحداث التي مرت بها المؤلفة، أو بطلة القصة، والتي تُعبّرُ عن مجتمع كامل وتاريخ حافل. ألف مبروك وبالتوفيق
وفي مداخلة وهيب وهبة جاء:
فاطمة ذياب لم تنزل من السماء كالملائكة، خرجت من الأرض بكلّ غبار الأيام مُكافِحة كادِحة قادِمة بكلّ عنفوان الرغبة في التحدّي والتصدّي والنضال، فاطمة ذياب سفرُ الريح على جراح القصيدة، لهذا كتبَتْ رواية مدينة الريح المنهكة المتعبة التي تهزّ كيانك، وأنت تعرف أنّها تعزف على وتر الحياة المقطوع، وتر الشقاء والحرمان والترمّل والفاجعة الكبرى. مكانُك ليس مكانَك، دائما تختلف الأدوار، ولكننا لسنا نحن في معظم الأوقات، وما نصبو إليه لا يأتينا، وما الحياة سوى هذا الخيط المُعلّق على أرجوحة الآمال أو أرجوحة الريح، يا مدينة الريح التي قد تكون مدينتك ومدينتي. فاطمة ذياب لكِ تحيّة أكبر من لغة الكلام، أكبر وأكثر من صفحات مدينة الريح.
وبعد مشاركة الزملاء كانت هناك باقة من تعقيبات وإضافات، أعقبتها مداخلة المحتفى بها الأديبة فاطمة ذياب جاء فيها:
ستون!؟ هم يقولون، أنا لم أزل طفلة، والناس من حولي يكبرون. ستّون آه يا رقصة المهباج ويا بيت المختار، مِن السنين وهبتُكِ عمري، ومن الأيام حلوي ومُرّي، ومن حبر دمي منحتُكِ نصفه، والنصف الآخرُ خبّأته لكِ! ستّون سنة وسنة أخرى، آه يا عمرًا اتّسع فيه المدى والصدى، أشتاقُكَ عمري والشوق شهقة مغيب يداعبُ الشفق، أشتاقُكَ سيلاً عارمًا على سنا برقٍ ينتظرُ بالقبل، ستّون يا ألف سنبلة في خوابيكِ لمّا تزلْ، تراودُ الفجر كما الفجرُ يُراودُ الأمل!
يا ستين عُمقٍ مُقيم في جذوري مشدودًا بألياف شراييني، يأخذني إلى تربتي وبيدري، إلى طفولة تحبو على مسطبة بقاع الدار، ستون مِن رحم أبجديّتي! أراه منجلي لامعًا بين أصابعي، هناك يعانق مرابعي، في كلّ سهل وكلّ واد وفي كلّ حاكورة وجَبل، وأكوام السنابل وحصانُ عمي قاسم الدحدل، ولوح دراس عتيق شُدّ
إلى الحصان، وشلّة من الصغار تزاحم دورته ليحملنا وندور، ونلفّ وندور ومن أرجلنا تتقزّع سنابل الذهب وتتكسّر، يصمد من يصمد ويقعُ مَن يقع، وكما القرود نعاود اللفّ والدوران، وصراخنا يملأ الفضاء: ركّبْني أنا يا عمي، وعمّي قاسم ذاك الدحدل على مزاجه بنا يتدحدل، فمرّة يداهن طفولتنا ومرّة يزجرنا وينهرنا بصوته الغليظ مُلوّحًا بالكرباج، فيُسيء الحصان ظنّه ويهربُ ولا نهرب نحن، ويجنّ جنون عمّي قاسم، ويحمل شاعوبه مهدّدا بفلخنا وبعجْننا.
يا لستين شوقا إلى خلة سلمى وخلايل النور، والصبايا زرافات والقفف على رؤوسهنّ تفيض بالعِلت والسّلق، تفاجئهنّ غيمة شباطيّة مجنونة، تُداهمهنّ مِن غير دستور ولا إنذار، ويضحك جنونها ويغسلُ بُقولَهُنّ، وأجسادُهنّ تتسابق إلى شجرة خروب تحميهنّ حتى هدأة الريح والمطر! ويا لشوقي الذي يحملني إلى الحمرة وإلى مراجيح الطفولة أعيادًا بين أشجار الزيتون، و”طيري وهدّي يا وزة، عَ بلاد غزة يا وزة، وأبوكِ مات يا وزة، وخلّف بنات يا وزة، بناته سود يا وزة، متل القرود يا وزة”! وكما القرود نتشعبط أشجار الزيتون، وحروفنا لغاتٌ تُغنّي دون أن نكلّف أنفسنا الغوص فيما وراء الحروف.
سريري بريري أبوك يا جمال!؟ ويطلّ من فوق الحبلة وجه جدّي صبري، فنسارع بالقفز عن الأراجيح ونطلق السيقان للهرب وللريح، لنعود إلى بيوتنا، ومثل الطبول دقات قلوبنا تدقّ خوفها بين الضلوع، ونبحث عن العيد في أزقتنا فلا نراه.. هناك تركناه خلفنا مُعلّقًا بين الأشجار!
شوقي إلى الهربة ونبعها وصخرة ملساء ملتصقه بحضنها، لعبة أوجَدَتها لنا الطبيعة كي نأتيها عصرًا نتسحسل حتى غروب الشمس، وفي الوادي القريب يرقد همّام وينام، يغطي بحطته وجهه، نغافله ونغزو كرْمه، نقطف الحصرم ونملأ احراجنا ونهرب، ونماحكه ونماحك بعضنا في استدعاءٍ غنائيّ: والله لَ احلش وآكُلْ وأمَلّي عْبابي سِمسم، حللوش راحت حاكورتك يا همّام، واحلش يحلش حللوش!؟ أكذب عليكم إن قلتُ إني أعرف مصدر اللفظ ومعانيه، ألم أقل لكم إن كثير من الألفاظ تخصّ ذاك الزمن، بتركيبة غريبة من عدّة لغات؟
شوقي إلى العش والنساء يجمعن الحطب ركسات ركسات، يربطنها بأغصان الخرّوب الطريّة مؤونة للموقد ولفصل الشتاء، يحملنها على رؤوسهنّ ومن تحتها المَداس، يمشين والأقدام حافية لا لشيء، فقط لكي لا يهترئ الحذاء! وللزعتر مواسم أخرى وجلسات أمام البيوت، ولكلّ مقعد من حجر أملس وضع في زاوية وعُرف باسم صاحبته، يُمشّقن أوراق الزعتر مع حفنة من أخبار البلد، وقال وقلنا واستروا على ما قلنا، وياساتر على هكذا أخبار وأحوال و”حوّلْ يا غنّام حوّلْ”!
ياه يا ستون شوقًا ياخذني إلى كلّ والد وما ولد، وإلى كلّ ذرة تراب في هذا البلد، إلى الرجوم ورمّانة اللفاني وتينة الموازي وإلى حاكورة الضبع الذي يطقّع بذيله! شوقي إلى السوس والقرقندة وأيّام اللوف والجعدة، شوقي إلى بير الطيرة مفرق البلد، والرعاة يزاحمون بعضهم بعضًا كلٌّ يعرف أغنامه كما يعرف أولاده وهي تعرفه، يهشّون على أغنامهم مُلوّحين بعصيّهم يتسابقون إلى النبعة التي لا تنضب، وشوقي إلى باب النصب وقوافل الجمال تحمل غلة الحصاد، ومجموعة من البنات والصبية يلتقطون ما سقط على الأرض من السنابل، ويغافلون القطروز لسرقة بريئة من أحمال الجمال، ندقّها وننزع القشّ عنها، وعمّي صالح عيدي يأخذها مقابل بضع حبّات من الملبّس والحلوى! يا ستون زقاق وفرن وخزق في سناسل البلد، ما بين ظلمة وشمعة لم أزل هناك طفلة، على مقعد دراسة في بيت ستّي وطفة، وأظلّ هناك طفلة ولا أغادر!
إخوتي وأهلي وناسي..
صُدفة يا لها من صُدفة ترنو إلى صدفة أخرى، مدينة الريح وستون سنة وسنة أخرى، ما كانت لتجمعنا لولا تلك الصدفة، والمكالمة صدفة، والأبعادُ الأخرى، وأراني أمام بوّابة المواقف أحني هامتي وحروف أبجديّتي، شكرًا لهكذا احتضان أعادني إلى روض الإبداع إنسانة أخرى، بعد غيبة دامت عشر سنوات هي في عمر الزمان قد تكون غفلة، لكنّها في حياة الإبداع طامة كبرى. نعَم عشر سنوات ومدينة الريح وأنا معها بانتظار، وصدفة وفقط صدفة تكون المكالمة الأولى من الشاعرة آمال عوّاد رضوان في التّعارف الأوّل قبل عام، ويأتي اللقاء تحت ظلّ هذه الخيمة، وألتقي بأعضاء مواقف، ليُشرّعوا الأبواب في وجهي كي أعْبُرَ ومدينتي ونلتقي الضوء من جديد، فهل أكتفي بشكر وحيد، أم أقدّم مليون وردة لهكذا مواقف وهكذا منتدى ثقافيّ يستظلُّ بأفيائه المبدعون؟
إخوتي وأخواتي.. من خوابي الزمنيّ والكونيّ، ومن زمن الغربة والاغتراب، ومن عُمق أعماق بحر نساء العرب المُداس والمُغتصب تُحاورني صفرة الأوراق، أين كنّا، ولماذا غبنا وابتعدنا، وكيف عُدنا كي نقف الليلة في وجه الريح حكاية أخرى وميلادًا آخر!
ياه.. يا ستّون شوقا إلى وجوهٍ لم تزل تعانق ذاكرتي ومدادَ حبري، أيّام كنّا نحبو على مصاطب الأدب نتهجّأ الحروف والكلمات، ليأخذ بيدنا الشاعر الإنسان الذي أمدّنا بالأمل، حين ظلّت أصابعه تُربّت على أكتافنا وعلى أوراقنا. أذكره.. نعم أبي الروحيّ الشاعر ميشيل حداد.
وتُعرّجُ ذاكرة الزمن إلى أخي الشاعر جورج نجيب خليل، ويؤكّد معي حضوركما وفضلكما الرعيل الأدبيّ الذي لامسَ حدودَ شفافيّتكما وإنسانيّتكما، ومَن يُراجعُ ملفّ الأيّام الخوالي يعرف كم كنتما صادقيْن صدوقيْن ومِن غيرِ أذى في خدمة الأدب والإبداع وتبنّي المواهب الناشئة، ومن صفرة هاتيك الأيّام ينبثق ميلاد فجر جديد مع دائرة الثقافة العربيّة ومهرجان المبدعات الأوّل، الذي جاء ليعزف الإيقاع الآخر، فتنشط في عهده الحركة الإبداعيّة والأقلام النسائيّة، ليسجّل في تاريخ هذه الحركة علامة فارقة بارزة، تسجّل دون مواربة لرجل من رجال المواقف الراحل موفّق خوري، والذي من خلال مؤسّسته ظهرت طفرة ادبيّة لا يُستهان بها، ومن ضمنها جليدُ أيّامي عودة بعد غيبة، وكانّني أحتاجها صدفة كي أعود كما لو كنت طفلة.
إخوتي.. نعم في داخل كلّ منّا طفولة تحتاج إلى من يأخذ بيدها ويشدها إلى الأمام وإلى قلب الحدث، فأين نحن الآن؟ أين نقف وإلى أين نسير؟ هل نقذف بكلّ احمالنا على مجلة مواقف الراعية الداعمة، دون أن تكون هناك خطة مدروسة للمتابعة والدعم؟
سؤالي الأن ليس صدفة، بل هو في سياق النصّ والحوار؛ لماذا وإلى متى نظلّ نحن مُشرّدون ما بين نقابة من غير أعضاء، واتحاد من غير اتحاد، ورابطة من غير روابط؟ وخذ من الأسماء ما شئت، ولكلّ معالمه وتضاريسه وأهله وناسه، ولا تقولوا صدفة. بصراحة.. من ذاك المونولوج القديم الذي حملت فيه أوراقي الأولى باحثة عن دار نشر وعن أناس يقرؤون في رحلة القطار الماضي، مرورًا بكلّ إنتاج يسبقني إلى السوق في مماحكة ومناكفة لكلمة حقوق الطبع محفوظة للمؤلفة؟ كلنا في سوق التجارة مجرّد أدوات، بل عملة لمن يلعبها جيّدًا، وعلى المكشوف نرانا مهابيل هذا الزمان نباع ونُشرى، ولا نأبه إلاّ بالشهرة، وكأننا لا نملك فكرًا وأفكارًا تحتاج مَن يرعاها ماديّا واجتماعيّا ونفسيّا، لتشحن من خلالها الطاقات لإبداعات أخرى وأخرى، وتحضرني أسماء عدّة من الوجوه الذكوريّة والنسائيّة التي تشاطرني الرأي، وترنو مثلي لوحدة الصف والحركة الإبداعيّة بكلّ مسالكها واتجاهاتها، لكي تنضوي تحت راية الفكر الرائد بالعطاء، فأعود وأكرّر أني احني هامتي وحروف ابجديّتي بشكر ينبض بالمحبة والإكبار لأسرة مواقف، التي احتضنت روايتي مدينة الريح في طباعتها، وفي تخصيص ندوة تتناولها، لتزيل عن صفرة أوراقها غبار عشر سنوات، وشكري للحضور ولكلّ مَن تناول روايتي قراءة ونقدًا.