يكادُ زيتُها يُضيء
تاريخ النشر: 05/10/12 | 0:22أكثرُ ما وجدت الهوية الفلسطينية تمثيلًا لعناصرها وصورها الثقافية والوطنية في الفن التشكيلي الفلسطيني، الذي حشد على مدار العقود الماضية، في لوحات ومنحوتات وفوتواغرفيا وفيديو وغيرها من مجالات الفن المعاصر، مفرداتَ الهوية كافة، فاستلهم الفن من الإرث الثقافي الفلسطيني بتنوعه: من الحضارة الكنعانية، ومن الزخارف والفنون الإسلامية والحروفية العربية، ومن قصص الأنبياء خاصة قصة السيدة العذراء والسيد المسيح. حضرت هذه العناصر في الفن جنبًا إلى جنب مع هوية الفلسطيني المقاوِم واللاجئ والشهيد والأسير والجريح، وهي هوية ما زالت تُطرح في العمل الفني الفلسطيني موزعةً بين مكانيْن: الأرض ـــ القرية الفلسطينية بشخوصها من الفلاحين وببيوتها المقبّبة وتينها وزيتونها وصبّارها، والمخيم الفاقدُ الروح والملامح سوى ملمحيْ اللجوء والشتات.
تتمحور أعمال معرض “الزيتون في أعمال تشكيلية فلسطينية”، بتنوعها بين لوحات ومنحوتات وفيديو وفوتوغرفيا وأعمال تركيبية، حول شجرة الزيتون كدالّة على هوية الإنسان والأرض، فمنذ بدايات القرن الماضي، استلهم الرواد الأوائل عناصر من الطبيعة الفلسطينية وظّفوها في سياق الظروف التاريخية المختلفة، وأعادوا إنتاجها في أعمال كثيرة انطوت على دلالات الارتباط القوي بالأرض حتى التماهي معها، فالقضية الأساسية في الصراع هي الأرض التي تمثل معادِلًا في الوعي الجمعي الفلسطيني لحق العودة. كان الصبّار أحد العناصر الطبيعية الأكثر حضورًا في الفن التشكيلي الفلسطيني، وخاصة في أعمال الفنان الراحل عاصم أبي شقرا، وأعمال الفنانة الشابة رنا بشارة، وغيرهما.
إلى جانب الصبّار، حضرت شجرة الزيتون في أعمال مختلف الأجيال من الفنانين الفلسطينيين، من مختلف المناطق في الداخل وفي الشتات، فهي شجرة ارتبط معها الإنسان الفلسطيني بعلاقة انطوت على أبعاد دينية وثقافية ووطنية: فهي الشجرة التي باركها الله في الكتب المقدّسة، بل وأقسم بها وبالتين في القرآن الكريم ، وهي الشجرة التي توقد مصباح النور الإلهي كما ورد في الآية القرآنية المعروفة بآية النور: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ..” . يعزز من قيمة شجرة الزيتون في الثقافة العربية والإسلامية أن أوصى الأطباء، ومن قبلهم الأنبياء، باستخدام ثمارها وزيتها في الغذاء والعلاج.
غير أن لعلاقة الفلسطيني بشجرة الزيتون بعدٌ آخر ارتبط بالأرض والدفاع عنها وبنضال الفلسطيني ضد محاولات التهجير وإخلاء أراضي الفلاحين التي يتبعها اقتلاع أعداد هائلة من أشجار الزيتون، حتى أصبحت صورة الفلسطيني، رجلًا وامرأة، والمتشبّث بجذوع تلك الشجرة في مواجهة جرّافات الاقتلاع، من الأرشيف الفوتوغرافي المعروف عالميًا والدالّ على القضية الفلسطينية، والمرادف لاستبسال الفلسطيني في الدفاع عن أرضه. أيضًا، فإن كروم أشجار الزيتون شكّلت غطاءً وحماية للمقاومين ضد قوات الاحتلال على مدار تاريخ النضال الفلسطيني حتى الانتفاضتيْن الأولى والثانية، إذ كان المتظاهرين يلجأون إلى الاختباء وراء جذوع الأشجار من عيون ورصاص قوات الاحتلال. لقد شكلت الطبيعة الفلسطينية عامةً، الجبلية والممتلئة بالأشجار والغابات والزقاق، ملجأً دائمًا للفلسطيني، عبر الالتفاف أيضًا على الحواجز العسكرية وسلوك طرق أخرى تؤدي إلى مكان العمل أو البيت، وهو ما يظهر جليًا في عمليْن للفنان أحمد كنعان معنونيْن بـ “خيمة عمّال متسللين” و”دخول غير قانوني”، حيث يصور الفنان العمال المتسللين من الضفة الغرببة للعمل داخل الخط الأخضر وقد صنعوا من الأغطية ومن أشجار الزيتون خيامًا تأويهم وتخفيهم عن أنظار قوات الشرطة الإسرائيلية، إذ يُعاقب كل من يتسلل حدود الخط الأخضر بدون تصريح من السلطات، أو من يساعده على ذلك أو من يأويه، بالغرامة المالية أو الحبس. تشير الخيمة في أعمال كنعان إلى اللجوء المستمر الذي يعيشه الفلسطيني، لكنه هذه المرة لاجئ في وطنه، وهو مسمّى يُطلق أيضًا على الفلسطينيين من الداخل الذين هُجّروا من قراهم عام 1948، والتي يقام عليها اليوم مستوطنات إسرائيلية.
يتناول معرض الزيتون كافة ما يحيط بشجرة الزيتون من دلالات ومعاني وطقوس. في عمل فيديو للفنانة مريانا منصور يصور عائلة الفنانة أثناء قيامها بقطف الزيتون، تبدو الشخوص وكأنها في حالة تماهي مع الحدث الهام لدى الاسرة الفلسطينية ومع الشجرة التي تبدو وكأنها تمطرهم بثمارها. تصور أعمال أخرى حدث قطف الزيتون كما في عمل للفنان طالب دويك، حيث يظهر أطفال يتسلقون الشجرة المضيئة كشجرة عيد الميلاد. في أعمال أخرى للفنان دويك تحيط أشجار الزيتون بقبة الصخرة وبكنائس مدينة القدس وببيوت القرية الفلسطينية المميزة بقبابها وتلالها وربيعها الملون بشقائق النعمان ونسائها اللاتي يرتدين الزي الفلسطيني ويحملن أطباق الثمار على رؤوسهن. يصور عمل آخر للفنان حسن طوافرة موسم قطف الزيتون حيث تتصدر النساء مشهد القطف، فالمرأة الفلسطينية هي القائد الذي يشرف على إنجاز العائلة للمهمة في موسم قطف الزيتون. تتصدر النساء لوحة أخرى للفنان طوافرة يحملن أطباق الفاكهة والقهوة والمياه ومن خلفهن يحلق الحمام حول أشجار الزيتون، تصور تلك اللوحة أجواء الهدوء والسلام في القرية الفلسطينية قبل النكبة والرغبة في استعادة تلك الأجواء، فغصن الزيتون الذي تحمله حمامة بمنقارها عُرف كرمز للسلام منذ القدم.
يتأكد التماهي بين الشجرة، الثابتة جذورها في الأرض، والإنسان، في أعمال فنانين آخرين، خاصة في أعمال الفنانة ختام هيبي حيث تشكل جذوع الشجرة أجسادًا بشرية تظهر وكأنها ترقص رقصة التحرر والانطلاق ولكنها في ذات الوقت تغرس جذورها في الأرض متشبّثة بها، ما يذكّر بالآية القرآنية “كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ” . في أعمال أخرى للفنانة هيبي تتشكل من الجذوع وجوهٌ حزينة ومُنهكة تنزف الدماء ولكنها صامدة وسط أجواء الإعصار، بينما يشير عمل آخر للفنانة إلى هوية المكان التي تجمع المسيحي والمسلم في تآلف وانسجام، فتتشابك أغصان شجرتيْ زيتون كأنهما في رقصة وتبدو في الخلفية القرية الفلسطنيية مسجدها إلى جانب كنيستها. تظهر معادلة الإنسان ــ الشجرة بوضوح أيضًا في أعمال الفنانة أحلام الفقيه، إذ تشكل جذوع الشجرة جسديْن متشابكين تصويرًا للعلاقة بين الذكر والأنثى، اللذيْن يبدوان كحاميان للمدينة المقدسة التي تظهر قبّتها في الخلفية. غير أن الشجرة تتماهى أيضًا مع المكان المقدس في عمل آخر للفنانة الفقيه، إذ تأخذ المدينة، بقلبها ذي القبّة الذهبية، شكل النصف الأعلى من الشجرة ــ الأغصان ــ بينما تحملها رافعةً إياها امرأةٌ جدائلها أوراق الزيتون وكذا ثوبها الذي طُرّز بالأوراق أيضًا. تشتغل الفنانة على فكرة الطبقات فتتكشّف في العمل الجذور الغارسة في الأرض، وتضيف الفنانة على تلك الطبقة عناصر أخرى تعزز من رؤيتها حول المكان وإنسانه.
تصور بعض أعمال المعرض شجرة الزيتون كعنصر مميِّز للمكان الفلسطيني ــ القرية ــ كما في أعمال الفنان شادي ياسين، إذ تحضر شجرة الزيتون في مركز اللوحة، كسيدة المكان والأرض، ثابتةً غارسةً جذوعها في التراب، صلبة وقوية رغم تعاقب الفصول. في أعمال نبيل عناني تصطف شجرات الزيتون كـأنها جنود حُماة للمكان وسكانه، تحيط بالبيوت المقبّبة كحارسات لها. في أحد أعمال الفنان عناني تتصدّر أم وطفلها مشهد الأشجار في دلالة على المرأة ــ الأرض، وهي الاستعارة الكلاسيكية للمرأة عن الأرض في أعمال رواد الفن الفلسطيني. كانت شجرة الزيتون موضوع أعمال معظم رواد التشكيل الفلسطيني، كما في أعمال خليل ريّان أيضًا حيث تتماهى الشجرة مع المكان والإنسان، فلا حدود واضحة بينها وبين المكان، بل تأخد شكل المكان ويأخذ هو لونها الأخضر، وكذلك الإنسان الذي تأخذ جذوع الأشجار شكل جسده. في أحد أعمال الفنان ريّان يسيل من جذوع الشجرة سائل أحمر في إشارة الى الصراع المرتبط بشجرة الزيتون ــ كرمزية للأرض ــ وما يلحق هذا الصراع من سقوط للضحايا. وهو ما يتأكد في عمل للفنانة جهينة قندلفت حيث تتواجد شجرة الزيتون على حافة نهر اختلط ماؤه الأزرق بسائل أحمر، غير أن الشجرة، وعلى الرغم من تواجدها في حيّز يشير إلى الصراع، إلا أنها تبدو في هذا العمل في مشهد جمالي رغم الدماء، مكللةً بأوراقها الخضراء وبأغصانها الكثيفة وبأشبه بزخارف تزيّن جذوعها. ويظهر ارتباط شجرة الزيتون بالصراع حول الأرض في أعمال الفنان أسامة سعيد، حيث تتماهى شخوص في حالة من التعب، بل ومن الفجيعة والانتحاب، مع جذوع الأشجار التي قُطّعت أغصانها، التي تبدو هي الأخرى كشخوص تحزن وتتألم. في أحد أعمال الفنان سعيد يظهر أحد الشخوص في وضعية الموت في دلالة على الاستشهاد دفاعًا عن الأرض وزيتونها.
أما الفنان سليمان منصور فقد أبدع رسمَ الكثير من الأعمال التي كان محورها شجرة الزيتون، في عمله المشارك في هذا المعرض تبدو الأشجار بأوراقها المائل لونها الى الفضيّ وكأنها مُحاطة بهالة من القداسة والنورانية في دلالة على تمجيد شجرة الزيتون في الثقافة الفلسطينية والذي يصل حدّ التقديس. ترتبط شجرة الزيتون بالقداسة والنورانية في عمل للفنانة تمام الأكحل أيضًا حيث تقابل شجرة الزيتون في اللوحة السيدةَ العذراء وقد أُحيط رأسها بهالة من النور، يتكرر رسم العذراء كطيف يقف على قبة الكنيسة المتواجدة في المكان. ما يؤكد على قدسيّة شجرة الزيتون تجريدها في أعمال فنانين آخرين، لتكون أشبه بأيقونة كما في أعمال الفنان فؤاد إغبارية حيث تحضر أشجار الزيتون بمجدٍ وكأنها شخوص تحدّق في الرائي، ذهبيةٌ أغصانها وجذوعها التي تحمل بزيتها الذهبي أيضًا والمضيء. في أعمال أخرى للفنان إغبارية يسيطر الأصفر الذهبي على اللوحة ويتراجع اللون الأخضر إلى حدٍّ أقرب إلى الاختفاء، وكأن الفنان يُخرج من شجرته زيتها ليرسمها به. شجرة الزيتون مجرّدة في أعمال الفنان كريم أبو شقرا أيضًا، فلا شيء سوى شجرة تبدو كغيمة من الظلال وامرأة وحيوان يتفيّآن بظلها. يصل تجريد الشجرة أقصاه في أعمال الفنان صالح القرا حيث تتشكل الشجرة من خطوط بالفحم: دائرة متشابكة من الأغصان تعتلي خطًا عريضًا هو الجذع، تتحول شجرة الزيتون هنا إلى رمز وأيقونة للهوية.
كما أبدع الفلاح الفلسطيني في الاستفادة من شجرة الزيتون، سواء من ثمارها للأكل أو استخراج زيتها أو تصنيع الصابون مما يتبقى من الزيت بعد تصفيته، أو باستخدام جذوعها في عمل منحوتات خشبية عُرف بها سوق الحِرَف الفلسطينية، أبدع الفنان الفلسطيني بالمقابل في توظيف هذا الغنى المادي في شجرة الزيتون، وفي الطبيعة الفلسطينية عامة، في الفن. يقوم الفنان يوسف أبو ركن باستخدام خشب الزيتون في تصنيع منحوتات لآلات موسيقية تظهر كأنها قد تعرضت لحرارة جعلتها تبدو أقرب إلى أشكال على وشك الانصهار، ولكنها رغم ذلك تحتفظ بصلابتها، بل إن حرارة النار جعلتها أكثر صلابة، في إشارة إلى قدرة الزيتون ــ الإنسان الفلسطيني ــ على البقاء واختزال الجمال الذي تشير إليه هنا الآلات الموسيقيه وما توحي إليه من أصوات جميلة. في حين تقوم الفنانة ختام يونس باستخدم مواد طبيعية من التراب والطحين والبهارات وغيرها لتشكيل شجرة الزيتون في أعمالها، فتبدو الشجرة نابضة بطعم ورائحة المكان الفلسطيني، والذي على الرغم من تصدّعه وتقسيمه إلا أنه ما زال يحتفط بجمالياته ورائحته وقدرته على الإثمار والإزهار. بينما تقوم الفنانة رانية عقل بتوظيف الصابون النابلسي، الذي تشتهر به فلسطين، في أعمال فنية تختزل الهوية، تحيط قطع الصابون كإطار بمادة “الجفت”، وهي كلمة كنعانية الأصل تعني ما تبقى من ثمار الزيتون بعد استخراج الزيت منها. تبدو مادة الجفت هنا كطين متشقق، فتصنع الهويةُ في هذا العمل مادتها وإطارها وتكوينها من ذاتها. تقترب عدسة الفنانة عقل في أعمال فوتوغرافية أخرى من جذوع الشجرة لتبدو الصور كلوحات من انحناءات وحُفر ودوائر وشخوص تشكّلها الجذوع.
شجرة الزيتون هي مرآة الهوية الفلسطينية في هذا المعرض وفي مجمل الأعمال التي أبدعها الفنانون الفلسطينيون على مدار العقود الماضية. وهو ما يختصره الفنان الشاب بشار الحروب في عمله التركيبي: صندوق واجهاته الأربعة مرايا تحيط به أوراق الزيتون. فأينما التفت الفلسطيني، وأينما كان، التقى بهويته التي تختزل طعم الزيتون ورائحة الزعتر المختلطة برائحة النار والرصاص والمتشابكة أغصانها مع سياج الحصار. تثبت أعمال هذا المعرض الذي جمع فنانين من مختلف المناطق، من القدس والضفة الغربية ومن داخل الخط الأخضر ومن الشتات، أن الحدود التي أُقيمت بين الفنانين الفلسطينين لم تكن يومًا حدودًا تقسّم الهوية، التي ما زالت تصرّ على الالتفاف حول زيتونها الخصب دومًا بزيتها المضيء.
من سليمان بشارات