قراءة في حالة المجتمع العربي في الداخل؛ بين أزمة عالمية وتبعية اقتصادية
تاريخ النشر: 09/10/12 | 9:06يعاني المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني من تحديات كثيرة ولعل أبرز هذه التحديات وأكثرها سوء تكمن في الجانب الاقتصادي، فالاستقلالية الاقتصادية عامل مؤثر في البناء المجتمعي وتساهم في الحفاظ على البنية الثقافية والسياسية للمجتمعات، والاستقرار الاقتصادي يحافظ على ديمومة السياسات الإستراتيجية، وأي خلل في هذه المنظومة من شأنها أن تغير ملامح بناء السياسات واتخاذ القرارات ومن شأنها أن تؤثر أيضا على النسيج السياسي والاجتماعي للنظام الدولي، إذ أن الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها على مختلف النظم الاقتصادية في العالم وباتت تهدد أكثر من أي وقت مضى المنظومة الدولية والعلاقات السياسية والمصالح الإستراتيجية التي تعتبر البوصلة الموجهة لهذه التحالفات والاتفاقيات والمرتبطة بشكل أو بآخر في السياسات الاقتصادية.
واضح بأن التحديات الاجتماعية والسياسية للمجتمع العربي تزداد صعوبة مع التقادم الزمني، فالمجتمع الإسرائيلي يعاني من التداعيات الاقتصادية للأزمة العالمية بسبب تبعيته للغرب وللنظام الرأسمالي الغربي، وبالرغم من التأثر المحدود في صورة “الماكرو” إلا أن الجهود التي بذلت خلال الأعوام الأخيرة لمنع أي اهتزاز اقتصادي والمحاولات والممارسات التي هدفت إلى تقليص الفجوات الاقتصادية مع الدول الغربية من أجل حفظ الموازنة القائمة بين السياسات الاقتصادية والإجراءات الإستراتيجية لم تتحقق بالشكل المطلوب، ورغم النجاح النسبي للحكومة الإسرائيلية في التخفيف من حدة الأزمة قياسا بدول أوروبية غربية أخرى غرقت بشكل أكبر في مشاكلها الاقتصادية إلا أن هذا النجاح يبقى محدودا وفي محك البرهان، وكانت تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية واضحة الأثر في الجوانب الاجتماعية وخصوصا فيما يتعلق بحركة الاحتجاج في الشارع الإسرائيلي نتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية ودور الإجراءات “النيو ليبرالية” التي تعتمدها الحكومات الإسرائيلية مما أدى إلى ارتفاع فاحش في الأسعار وغلاء معيشي كبير، وهو ما ينعكس جليا وبشكل أعمق وأكبر على المجتمع العربي في الداخل.
هذه المقدمة تأخذنا إلى سؤال جوهري يتعلق بماهية وحقيقة الحالة الاجتماعية للمجتمع العربي فهل يصح الحديث عن “اقتصاد فلسطيني” للمجتمع العربي في الداخل، ولماذا يعتبر المجتمع العربي في الداخل الأكثر تأثرا من هذه التحولات؟؟
يتأثر المجتمع العربي في الداخل بشكل سلبي من التحولات الاجتماعية ومن الأزمة الاقتصادية العالمية تحديدا والتي بات أثرها واضح على الحالة الاقتصادية الإسرائيلية، والسبب يعود إلى تبعية المجتمع العربي وارتباطه بالنظام الاقتصادي الإسرائيلي وهذا يعكس الدونية الاقتصادية للمجتمع العربي مقارنة مع المجتمع اليهودي، وقد أظهرت بعض التقارير الصادرة عن دائرة الإحصاء المركزية أن أكثر من 55% من العائلات العربية والبالغ عددها 280 ألف عائلة عربية هي عائلات فقيرة وتشكل 38% من مجمل العائلات الفقيرة في البلاد، ولا تتعدى حصة الفلسطينيين من مجمل الناتج المحلي الإسرائيلي نسبة الـ 10%، بالإضافة إلى نسبة مشاركة متدنية في سوق العمل والتي لم تتجاوز 41% في العام 2010، وتحتل الأسر العربية أدنى مراتب سلم الدخل بحيث أن ربع الأسر العربية في أدنى سلم الدخل وفقا لتقسيم العائلات التي يترأسها أجير لأعشار الدخل!!.
هناك من يتحدث عن مركبات “الاقتصاد الفلسطيني” للمجتمع العربي ويربطها بالدونية الاقتصادية وبحالة الإقصاء السياسي والاجتماعي الذي يتعرض له المجتمع العربي كنتيجة للسياسات السلطوية العرقية والقومية، فحقيقة وجود الدائرة الثانية واتساعها نحو الأسوأ لا تؤكد بالضرورة استقلالية الدائرة الأولى؛ وان كان الحديث يدور اصطلاحا عن شبكة اجتماعية محدودة مكانيا تستهلك فيها السلع والخدمات وفقا لمبادئ العرض والطلب، فالمجتمع العربي في الداخل وان كان يملك من المقدرات والعقارات والمؤسسات والموارد ما يمكنه ليشكل “اقتصاد فلسطيني” إلا انه يبقى جزئي يفتقد إلى السيادة والاستقلالية وهو عامل هام ومؤثر، والمشهد المركب “للاقتصاد الفلسطيني” لا يعني عدم التفكير والبحث عن طرق وسبل للتنمية والتطوير الاقتصادي بشكل يساهم في تطوير المجتمع ويحفظ هويته وخصوصيته، وان كان الحديث يدور عن تبعية اقتصادية مطلقة وممنهجة بسبب الآليات التي طبقتها المؤسسة الإسرائيلية منذ الإعلان عن أقامتها والتي اعتمدت بالأساس على مركبين؛ الأول منع تبلور اقتصاد عربي مستقل والثاني منع ظهور قيادة سياسية ووطنية داخل المجتمع العربي، واتخذت كل الإجراءات والتدابير من أجل دمج الفلسطينيين داخل المجتمع الإسرائيلي وتعميق جذور التبعية في جوانبها الثقافية والاجتماعية والسياسية في مشهد يعتبر من أرقى أهداف المشروع الصهيوني.
فقد المجتمع الفلسطيني في الداخل الحياة المدينية بسبب تدميرها نتيجة للممارسات الصهيونية بحيث عمدت المؤسسات السلطوية الإسرائيلية منذ قيامها على ترسيخ جذورها الاستعمارية والاستيطانية على حساب غياب المشهد المديني والمشهد الاجتماعي والثقافي والتاريخي الفلسطيني بالإضافة إلى هدم المعالم الاقتصادية للحياة المدينية الفلسطينية واستعبادها في مرحلة ما بعد أوسلو، وترك المجتمع العربي يعاني نتيجة للسياسات الإسرائيلية ومحروم من مقوماته الأساسية، بحيث لا يملك هذا المجتمع من السيادة والاستقلالية السياسية والثقافية والاقتصادية ما يمكنه من التمايز وبناء “اقتصاد فلسطيني” مستقل نظرا للخصوصية التاريخية والسياسية التي رافقت تطور هذا المجتمع.
انشغل الفلسطينيون في الداخل بصراع البقاء الذي تحول مع مرور الزمن إلى أهم محطة تاريخية في الذاكرة الفلسطينية وتحول صراع الهوية والانتماء إلى أيقونة المجتمع العربي في الداخل وتسببت هذه الأزمة المركبة عبر العقود إلى إغفال كثير من القضايا المصيرية المتعلقة بالداخل الفلسطيني وان لم يحسم البعض حتى اليوم قضية الهوية الفلسطينية وبقي محصور في هذه البوتقة لأسباب قد تتضح معالمها في المستقبل، هذه الخلافات حول شكل وهوية المجتمع العربي جاءت على حساب كثير من القضايا ولعل أبرزها المقومات وعوامل النهضة والتنمية الاقتصادية المستدامة للمجتمع العربي في الداخل، وكانت المبادرات نادرة ومحدودة وغيّب بعض منها لمجرد جرأته في التفكير ببناء “اقتصاد فلسطيني” واضح المعالم والخروج من ثوب التبعية المادية.
ويبدو أنَّ أزمة الهوية والصراع حول مستقبل المجتمع الفلسطيني وشكله وهويته أثرت بشكل سلبي على القضايا الاجتماعية الأخرى وعمقت الانقسام حولها، والأمر يتضح بصورة أكبر من خلال الخطاب الذي يروج له البعض؛ فعندما يتحدث البعض عن ضرورة تطوير “الاقتصاد الفلسطيني” من خلال حل مسألة الإقصاء الاجتماعي والسياسي والدونية الاقتصادية عن طريق تحقيق المساواة والمشاركة في اتخاذ القرارات وتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء دولة الرفاه والمساواة، وقسم آخر يعتبر بأن الاندماج في السوق الإسرائيلية الحرة وإتباع هذا النهج من شأنه أن يوفر الفرص للمنافسة الحرة والمبادرة وتوظيف الطاقات وحتى فرص الإبداع والتميز وكأن الإجراءات النيو ليبرالية أثبتت نجاحها وتفوقها داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وهناك من يدعو لتطوير وبناء “اقتصاد فلسطيني” من خلال الاستغناء عن الشراكة اليهودية العربية التي أثبتت فشلها كونها ترتكز على افتراضات علمية خاطئة وافتراضات سياسية من الصعب تحقيقها ووعود اقتصادية من الصعب تحقيقها والبديل هو الاستثمار العربي- العربي المشترك عن طريق التبادل المالي والتجاري والاستثماري عبر الخط الأخضر وكأن الفلسطينيين خارج الخط الأخضر في الضفة والقطاع يملكون سيادة واستقلالية اقتصادية وسياسية.
وهناك بديل آخر يطرح على الساحة الفلسطينية وهو ضرورة الاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي والتكامل معه كشرط لتحقيق النمو الاقتصادي ومحاربة الفقر وتحقيق المساواة.
هذه الاقتراحات وغيرها تبقى نظريات وشعارات وتعبر عن أزمة حقيقية في فهم حالة وطبيعة وهوية هذا المجتمع وخصوصيته وبالتالي هي أفكار وطروحات سطحية وليست عملية وتبقى في إطارها العلمي النظري والجدلي وتساهم في تعميق أزمة “الاقتصاد الفلسطيني” وتعيق أمكانية إعادة بنائه بعيدا عن الاملاءات الخارجية بدلا من أيجاد حلول براغماتية تأخذ بالحسبان طبيعة وخصوصية المجتمع، وقد تكون موضع للنقاش حول أمكانية إيجاد آليات للنهوض الفعلي وإعادة بناء “اقتصاد فلسطيني” في المرحلة القادمة عن طريق البحث عن أساليب وسبل للتنمية والتطوير وبناء إستراتيجية شاملة لأحداث التغيير الاقتصادي المنشود والتنمية المستدامة مع الحفاظ على خصوصية هذا المجتمع.
بقلم:مجدي طه -باحث في مركز الدراسات المعاصرة