في رواية أهل الجبل هل تموت الفكرة؟
تاريخ النشر: 05/02/15 | 12:29صدرت رواية”أهل الجبل” للأديب المقدسي ابراهيم جوهر عام 2014 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، وتقع الرواية التي صمم غلافها نضال جمهور في 164 صفحة من الحجم المتوسط.
تساؤل يطرحه الكاتب إبراهيم جوهر في روايته مرّات ومرّات، ضمن مجموعة كبيرة من التساؤلات، لنعاود السؤال مرة بعد مرة عن الفكرة التي لا تموت! فنجدها حية تتجدد في كل مرّة نظن أنها ستخبو. فروح المقاومة حية في قلب كل فلسطيني لا تموت أبدا مهما ساد الظن أنها ضعفت وتلاشت، وبالمقابل، فإن فكرة اخضاع الفلسطيني وسلخه من أرضه لا تموت، فكلما فشلت خطة نبتت خطة أخرى مكانها. لا تموت الفكرتان، هذه هي المفارقة الكبرى في الرواية التي ترتكز على مفارقات عديدة.
يقودنا الكاتب في هذه الرواية في مفارقة عجيبة بين الأصالة وبين الحداثة المزيفة، بين البطولة وبين الخيانة، بين العزة والكرامة وبين الذل والهوان. وحيث ينحصر هامش الحرية، يبرز الرّمز الذي يطغى على الرواية، يعطي للقارئ آفاقا واسعة من التحليل والخيال. فهذه الرواية تقوم على عنصرين أساسيين هما المفارقة والرّمز بلغة إنشائية جميلة موحية يكثر فيها الاستفهام والتعجب.
تزخر الرواية بالمفارقات. فابن رام الله الفارّ من زيف المدينة المتورّمة، يتجه إلى الخليل حيث أصالة الجبل وعنبه وأهله المرتبطين بتربته، أما ابن الخليل فيترك الجبل خلفه ويتجه باحثا عن فرصة عمل في رام الله! سعيد الظافر شاعر جامعة الخليل والأديب الموهوب، توصد في وجهه أبواب وزارة الثقافة وصحف مدينة رام الله، بينما صديقه الذي يفتقر إلى الموهبة يتربع على وظيفة مهمة في الوزارة ويعامل الشاعر بازدراء. المناضل الذي حُرّر من سجون الاحتلال، يبيع القهوة واليانسون ليشبع رغبات أو يهدّئ أعصاب القلة الذين تسلقوا على بطولاته؛ ليتحكموا في مصيره ويتركوه للنسيان. يخوض المقاومون في غزة حربا بطولية ضد المحتلين، بينما يرتاد المترفون المقاهي في مدينة رام الله. الباحث الجاد يبحث عن الحقيقة حتى في أجواء الحرب، مقابل ذلك الذي يبحث عن لقب علمي زائف ويشتري الأبحاث الجاهزة. المقاتل الشجاع في غزة الذي يتسلح بأسلحة بسيطة، مقابل الجندي الصهيوني المذعور المتمترس خلف أعتى أنواع الأسلحة وأقساها.
أدهشتني قدرة الكاتب على استخدام الرّموز في روايته وتوظيف دلالتها لإيصال المعنى للمتلقي بسهولة ويسر، دون إجهاد ذهن ولا تعقيد، بلغة بسيطة سلسة. تبدأ الرواية برسالة قصيرة من أمّ علي المختفية في أحد كهوف الجبل. أمّ علي ترمز إلى الأصالة المتجذرة في هذا الشعب وإلى الإصرار الممتد به مهما ادلهمّت الخطوب. والجبل نفسه هو رمز لصمود هذا الشعب الذي لا تزحزحه الرياح العاتية. والأسد الحجري يرمز إلى القوة، والذي يتحول إلى فخار قابل للكسر عندما يتجه إلى رام الله – أي عندما يتخلى عن روح المقاومة – لكنه لا ينكسر، ويعود ليصبح من حجر صلد عندما يرجع إلى أصالته ويتجه إلى الخليل، فتتراءى له صواريخ المقاومة من غزة، والصمود الأسطوري لأبطالها الذين يخرجون من بين الرمال فيقذفون الرعب في قلوب الصهاينة. ومبنى تلفزيون الجبل ذو الجناحين والعرف الرمادي، يرمز إلى تفرّق أبناء الوطن الواحد إلى اتجاهين؛ أحدهما امتهن المقاومة وحمل السلاح، وآخر آمن بأن الاستسلام والخنوع قد يجلب له حقا. جناحا الوطن ليسا منطقتين جغرافيتين يعزلهما الاحتلال بحواجزه، وإنما موقفان ونظرتان وسياستان في هذا الوطن الذي اختفت فيه الأصالة في حضن الجبل؛ ليبدو للعيان وجها قبيحا سرعان ما يغيب. تأتي أمّ علي بتراب الجبل تضعه تحت هذين الجناحين اللذين لا ينقصهما الارتباط بالتراب، فهو في النهاية سيوحدهما.
مدينة رام الله تقف على الحواف. يذكرني هذا الرمز بقوله تعالى: “ومن الناس من يعبد الله على حرف” يوشك على السقوط إن لم يتدارك نفسه ويتشبث بالأصيل، ويدحر عنه الدخيل، في تشبيه بديع لحالة السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو. الرجال الذين غادروا الجبل واتجهوا إلى رام الله هم أولئك الذين حادوا عن جادة الصواب، لذلك يصوّر الكاتب وجهوهم سوداء ممتقعة. ويذكر الكاتب الدالية كثيرا، والدالية ترمز إلى العنفوان والإصرار على الصعود إلى أعلى، وكلما قلّمت أغصانها نهضت في ربيعها وتسلقت الأعواد بسرعة وجلد.
يبدأ الكاتب روايته وينهيها برمز الغزالة المحيّر، والذي يتركه غامضا معطيا المجال للقارئ كي يسرح في خياله مع هذه الغزالة، التي خرجت من دير ياسين عندما ذبح أهلها وسرقت البراءة من أرواحهم، فعاشت في قلوبهم وما زالت دليلا لهم تقودهم لطريق العودة بإذن الله.
اختيار أسماء الشخصيات في الرواية موفق، فكل اسم كان له دلالة معينة: فسعيد الظافر، مثلا، لا يكون سعيدا ولا يظفر بالراحة إلا عندما يتشبث بأصوله، ويعود إلى جذوره. وهكذا إذا استعرضنا أسماء جميع الشخصيات في الرواية، فسنجد لكل اسم دلالة خاصة قصدها الكاتب وعناها. أمّا شخصية الراوي، وهي الشخصية الأبرز في الرواية، فقد أبقاها الكاتب مبهمة ولم يعطها اسما، وجعلها تطرح السؤال تلو السؤال، ليبقى القارئ محتارا مشرئبا لسماع المزيد من الأسئلة من هذا الباحث عن حقيقة الصمود والأصالة في فلسطين، والذي يرمز لكل فلسطيني متحرر من الخنوع باحثا بجد عن الحقيقة. عدم الافصاح عن هذه الشخصية يزيد الرواية تشويقا.
والرواية تؤرخ لفترة حرجة من تاريخ الشعب الفلسطيني. لفترة شهدت بشاعة الاحتلال الذي أحرق الفتى محمد أبو خضير حيّا، وحاصر مدن الضفة الغربية، وخاصة الخليل بحجة البحث عن ثلاثة مفقودين، وأعمل فيها قتلا وتدميرا وخرابا، ثم امتدت سطوته وعنجهيته لتطال قطاع غزة في أيام رمضان عام 1435ﻫ.
عندما يحاول اليأس أن يطغى على شعلة الأمل الكامنة في أعماق القلب، ويطغى الشعور بالاغتراب في وطن يعاني من احتلال للأرض وتنكر للأصالة، قد تختفي الغزالة عن الأنظار برهة من الزمن، لكنها تعود تقفز بخفة ورشاقة. فالغزالة تلازمنا، لا تفارقنا، وإن غابت عن ناظرينا. إنها الغزالة التي يتتبعها إبراهيم جوهر وهي تقفز بخفة بين رام الله والخليل، وتتخطى الحواجز إلى قلب القدس، تنظر إلى الجبل بأصالته وإلى المدينة المتورمة بزيفها، ثم تظهر لنا لتجدّد الأمل في قلوبنا. وحيث تكون الغزالة تكون أمّ علي في كهفها تحفظ البقية الباقية من كرامة هذا الشعب، تحاول أن تقرّب بينه وأن تبني لديه الروح الذي كاد يفتقدها.
الأفكار لا تموت. فعلى الرغم من الضعف الجلي لفكرة مقاومة المحتل، وبروز عنصر آخر بعيدا عن هذه الأصالة، إلا أن هذه الفكرة لم تغب عن شعب فلسطين. وفكرة روابط القرى التي ابتدعها الاحتلال لم يتخل عنها عندما لفظها الناس، فجاء بها بهيئة أخرى ووجه آخر! ولكن في نهاية الرواية يختفي الوجه المزيف للوطن، وتسود روح المقاومة، وينتهي الحلم الصهيوني عندما يعود ذاك الطبيب إلى روسيا، معلنا أن فلسطين لا يعمر فيها غريب، وستخرج أمّ علي بأصالتها من كهفها لتسكن في ربوع الوطن.
عبدالله دعيس