حول أزمة الثقافة وثقافة الأزمة 3
تاريخ النشر: 15/10/12 | 4:51“اليونان والعرب وحدهم القادرون على التفلسف والقبول بالحقيقة العقلية”
حول أزمة الثقافة وثقافة الأزمة 3
في نهاية المداخلة السابقة اوردنا بأن فكر ابن رشد – الفكر العقلاني- الاسلامي، انتقل الى الغرب وتم استيعابه وشكل بذلك الاساس لكل التطور الهائل الذي شهده الغرب في القرون التالية. وقد يفهم البعض من النص القصير بأن هذا الامر تم بسرعة وبسهولة وكأن الفكر الغربي كان منفتحا ومتحررا ….. الحقيقة هي عكس ذلك تماما.
فالفكر السائد في العالم اللاتيني في تلك الفترة (القرن الثالث عشر) كان الفكر الكنسي الكاثوليكي – الفكر الاوغوسطيني والذي منبعه من القرن الخامس الميلادي. أي ان اوروبا عاشت بفكر عمره ثمانية قرون، ألغى حرية التفكير بصيغة توفيقية مفادها ان “الدين هو الفلسفة الحقة”. والحال هذه، فقد كانت سلطة الكنيسة مطلقة وقمعية (محاكم التفتيش، التكفير والحرمان من الغفران، اتهام النساء خاصة بالسحر وبالشعوذة، …….). وفي عام 1231 جدد البابا غريغوريوس منع قراءة كتب أرسطو على منابر الجامعات واعتبر أن الفلسفة العلمانية تشوه علم اللاهوت (د. عامر الحافي http://www.kalema.net/v1/?rpt=355&art).
كانت البداية مع توماس الاكويني باعتباره أكبر اللاهوتيين الفلاسفة الذي مهدوا الطريق أمام الفكر الأوروبي الحديث والنهضة الشاملة للحضارة الغربية. في هذا العصر كانت الفكرة الرائجة بين بعض اللاتين بأن اليونان والعرب وحدهم القادرون على التفلسف والقبول بالحقيقة العقلية. وقد نجح الاكويني في صياغة لاهوت توفيقي بعيداً عن المقررات الكهنوتية المعادية للفلسفة متأثراً برياح الفكر السيني أساسا (نسبة لابن سينا) ولاحقا بالفكر الرشدي.
تركزت قوة الرشديين في كلية الفنون في جامعة باريس وعلى رأسهم سيجير دي برابان (ت1284) الذي درس في جامعة باريس وكانت له حوارات كثيرة مع اللاهوتيين وخاصة الاكويني. ومن رموز الرشدية في القرن الرابع عشر جان دي جندان، ومار سيليو دي بادوا; وليم الأوكامي، وقد استمر وجود الرشدية كاتجاه فكري فلسفي يتسم بمعارضة الكنيسة حتى عصر النهضة ولذلك اتهموه بالإلحاد والهرطقة. واستمرت الكنيسة على موقفها المدين للرشدية حتى مجمع لايتران 1512ـ1517 أي حتى القرن السادس عشر (المصدر السابق).
مارتن لوثر (1483 – 1546)
الإصلاح البروتستانتي هي حركة إصلاحية قامت في القرن السادس عشر هدفها إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا الغربية. وكانت شريحة واسعة من المسيحيين الغربيين قد رأت انتشار ما اعتبروه أفكارا باطلة وتصرفات غير لائقة داخل جسم الكنيسة، وفي مقدمتها بيع صكوك الغفران، وشراء رجال الدين المناصب العليا كالمطران والكاردينال وصولا إلى البابا.
يعتبر مارتن لوثر وهو راهب الماني وأستاذ للاهوت، مُطلق عصر الاصلاح في اوروبا بعد اعتراضه على 95 موقفا من مواقف الكنيسة الكاثوليكية والسلطة البابوية. في عام 1520 حكم بالنفي واتهم بالهرطقة. قام البروتستانت بترجمة الكتاب المقدس (الانجيل والتوراة) بحماس للغات المحلية الأوربية ونشره بين جميع فئات الشعب بعد أن كان ذلك ممنوعا في الكنيسة الكاثوليكية، ولأجل تحقيق هذا الهدف قاموا بحركات بهدف لمحو الأمية التي كانت منتشرة اوروبا آنذاك.
يتلخص جوهر “الثورة اللوثرية” في رفض الفكر الكنسي السائد وفي محاولة انشاء علاقة مباشرة بين الانسان والله، علاقة لا تحتاج لوسيط كهنوتي. كما شكك في الاسانيد الانجيلية التي اقيمت عليها الكنيسة الكاثوليكية وبترجمة الكتاب المقدس للغات الاوروبية فتح الباب امام غالبية الاوروبيين لقراءة، دراسة وتحليل النصوص “الاصلية” لديانتهم مباشرة وليس باسلوب “نقلا عن”.
اربعة قرون تفصل ما بين توما الاكويني ومارتن لوثر، اربعة قرون تغلغل خلالها الفكر العربسلامي في الفكر الاوروبي الغربي لدرجة كافية للمبادرة باصلاح الفكر اللاهوتي السائد، فكر القرن الخامس الميلادي. وكانت المحصلة لهذه العملية الطويلة أن شكل الاصلاح اللوثري الخطوة السابقة لعصر النهضة وللخطوات الاولى نحو استقلال العقل عن سلطة الكنيسة والتي تمثلت بالفيلسوف رينيه ديكارت في بداية القرن السابع عشر.
نجح العقل الغربي في تحويل الفكر الفلسفي والعقلاني إلى آلية واقعية بعد أن أحسن تتبع مواطن القوة في الفكر الإسلامي وأعاد توظيفها بما يتلائم مع غاياته وأهدافه. فماذا عنا؟
ان أي مشروع إصلاحي جاد يهدف إلى استنهاض العقل الإسلامي الذي أرهقته عمليات التكفير والشيطنة، والعديد من الكتب التي ترى في الفلسفة والفكر الإنساني الحر وسوسة شيطانية، يجب ان يولي الاهتمام لعدد من القضايا التي أثارها ابن رشد والمتمثلة اساسا بضرورة اعادة تشغيل العقل العربي المعطل.
يتبع ….
كتب في هذا السياق للدكتور حسام مصالحة في موقع بقجة