السيدة "أحلام كبها" نموذج للمرأة العربية التي تشرف شعبها
تاريخ النشر: 25/10/12 | 8:09قليلة هي اللحظات التي يعيش فيها الواحد منا أمام تجربة إنسانية تشعرنا بالاعتزاز والفخار ، وخصوصا حينما تأتي من سيدة مسلمة تعيد لنا عبق عمالقة النساء العربيات والمسلمات عبر التاريخ .. الإنجاز الكبير الذي حقته السيدة ( أحلام كبها ) ، والتي رسمت من خلال كتابها ( لي بيت في كل مكان ، ولكن بلا وطن ) ، المنشور باللغة الألمانية والمرشح لجائزة كتاب العام على مستوى ألمانيا ، صورةً لملحمة الجماهير العربية من خلال استعراضها لمفاصل في سيرتها الذاتية ، والتي هي سيرة المجتمع العربي بل والشعب الفلسطيني كله ، يعتبر بكل المعايير من المفاجآت السارة التي يتمنى الواحد منا أن يرى منها الكثير ..
ما أعظم وأروع أن نسمع دائما عن إبداعات شعبنا وخصوصا النساء ، وها هي السيدة ( أحلام كبها ) تقدم لنا النموذج الذي نتمناه للمرأة العربية التي تعتز بدينها وثقافتها وعادات وتقاليد شعبها الجميلة ، وفي نفس الوقت تخوض غمار تجربة قلما ينجح غيرها من الرجال والنساء في أن يعبرها بسلام . ولدت ( أحلام ) في جنين – كما تروي ، وعندما بلغت السنة من عمرها ، انتقل أهلها بعد حرب عام 1967 إلى ألمانيا واستقروا فيها ، حيث بدأت معركة صراع الهوية . تروي في كتابها أنها انضمت في طفولتها إلى روضة تديرها راهبات ، وكان من عادة الطلاب أن ( يثلثوا ) قبل تناول طعامهم ، وببراءة تامة فعلت هي أيضا ما كانت ترى غيرها تفعله ، فنبهها أبوها إلى أنها ( مسلمة ) وليست ( نصرانية ) وأن هذا غير جائز في دين الإسلام … كان هذا أول لقاء لها مع مفهوم ( الإسلام ) كمكون لشخصيتها ، بعد أن كانت تلحظه لحظا في بيت عائلتها . كانت صدمتها كبيرة عندما زارت طبيب العائلة الألماني بعد سنوات قليلة من الحدث الأول ، فقال لها : ( أنت جميلة ، ولا شك أن أباك سيحصل على عدد كبير من الجمال عند زواجك !!!!!!!!! ) … عادت خائفة إلى بيتها ، وحدثت أباها بما قال الطبيب … غضب غضبا شديدا ، وطمأنها ووضح لها – رغم صغر سنها – الآراء المسبقة والمشوهة التي يحملها الغرب عن العرب ، وهذا مخالف لواقع الحال …
في صباها سمعت ( أحلام ) كلمة ( فلسطين ) تتردد في جنبات البيت ، وبدأت أحلامها وآمالها تكبر في العودة إلى هذا الوطن الذي اسمه ( فلسطين ) …. تقول ( عندما كنت أدرس في الصف الثاني والثالث ، كان حولي عدد كبير من الطلاب الغرباء .. لاحظت أنهم مثلي .. ليس لهم عيون زرقاء أو خضراء أو شعر أشقر . بعد مدة فهمت أنهم مثلي غرباء ، لكل منهم وطن .. عندما وصلت إلى هذه النتيجة ، بدأت أسأل : ( ما هو وطني ، وأين ؟ ) …
لنا أن نتخيل ما يمر به فلسطيني ولد ابتداء في جنين/فلسطين ، ثم انتقل ليعيش طفولته وصباه وشبابه في مدينة ألمانية ( شتوتجارط ) ، ثم تشاء الأقدار أن تتزوج بعدها من الإعلامي العربي صحاب الجنسية الإسرائيلية ( قيصر كبها ) …. قد تمر هذه الأحداث عادية عندما يعيشها إنسان عادي ، لكنها لن تكون عادية حينما يحملها قلب ونفس غير عاديين … ( أحلام ) بهذا المعنى لم تكن عادية ، لذلك تحولت قصتها إلى غير عادية حتى النخاع ، وَحُقَّ لها أن تجسد فصلا من فصول ملحمة الشعب الفلسطيني ، استحقت أن تحظى برواج في دولة ألمانيا الأوروبية بسب ما تحمله من كنوز ذكريات فلسطينية كانت وما تزال شغل العالم الشاغل ، وإن لم تلق الإسناد المطلوب سياسيا وماديا بسبب زمان تسلط عليه منطق القوة على قوة المنطق …
رغم مرور سبعة وعشرين عاما منذ زواجها وانتقالها للحياة في وادي عارة ، لم تتوقف ( أحلام ) عن التفكير في وطنها الذي لم تجده بعد ، والذي تتوقف فيه عن الشعور بالغربة رغم أنها بلغت من العمر اليوم ستة وأربعين عاما ، ملكة في مملكتها كربة بيت وأم مثالية لثلاثة أبناء رائعين ، وزوجة لرجل عرف كيف يقدر قدرات شريكة حياته ويساندها في البحث عن الذات والهوية ، وطبعا عن الوطن الذي كان وما يزال هاجسها الأكبر .. عند زواجها في جيل تسعة عشر عاما ، اكتشفت زيف ما يحمله الغرب من صورة مشوهة للإسلام ، للعرب وللمسلمين .. ( لم يبيعوني كما قال الطبيب الألماني .. تعرفت على زوجي في مناسبة اجتماعية عائلية ، وبعد أربع سنوات تزوجنا . ) .. هكذا وفقط … لا جِمال ولا يحزنون …
الصورة كما هو واضح مبسطة إلى ابعد الحدود ، لكنها رغم بساطتها وبراءتها ، إلا أنها تجسد العلاقة المركبة والمعقدة التي تربط الغرب بالشرق العربي المسلم … لا اعتقد أن الغرب معاد للعرب والمسلمين بالفطرة ، لكنها القوى الخفية التي ترى في الإسلام تحديا لا بد من مواجهته وعلى كل الجبهات ، وخصوصا الجبهة الفكرية من خلال تشويه الإسلام وتاريخه كمنهاج حياة وكطرح بديل نجح في إنقاذ البشرية على مدى قرون ، وبنا أعظم حضارة عرفها الإنسان ، وجعل من العرب رعاةِ الغنم قادةً للشعوب وسادة للأمم … هذه القوى الخفية لا تريد أن ترى الإسلام المعاصر يعود لموقع القيادة كما كان ، ولو كانوا منصفين وعادلين لرحبوا به لاعبا أسياسيا في بناء المجتمع الإنساني كما كان في السابق .. لكن أنانيتهم وحقدهم يمنعهم من ذلك ، سواء كانوا سياسيين أو مفكرين أو مؤرخين ومستشرقين ..
أما الجبهة الثانية فهي القضاء على كل الطاقات الحية في شعوبنا العربية والإسلامية المؤهلة لإعادة هيكلة المنظومات الإسلامية تمهيدا لاستعادة الإسلام دوره القيادي جنبا إلى جنب مع باقي الأمم المنتجة والمبدعة … الشعوب الأوروبية في مجملها قابلة للتغيير إذا ما نجحنا في نقل الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين إلى عكر ديارهم ، بوسائط معاصرة وبلغة يفهمونها … في غياب هذه الجهود ستظل الشعوب الغربية فريسة سهلة لكل الحاقدين من أصحاب الأجندات الظلامية التي لا تؤمن إلا بصدام الحضارات كما جاء في نظرية ( صامويل هانتنغتون ) والتي ضمنها كتابه سيئ الصيت ( صراع الحضارات ) ، وكذا ( فرانسيس فوكاياما في كتابه ( نهاية التاريخ ) .. إضافة إلى كتب المؤرخ ( برنارد لويس ) الذي ضخ فيها كَمّا هائلا من السموم لا يمكن تصورها ، في محاولة يائسة لتشويه صورة الإسلام في الماضي والحاضر ..
شعورها ( أحلام ) الدائم بالغربة – كما تروي – رغم أنها تعيش في قرية ( عين السهلة ) المسلمة مئة بالمائة ، وفي محيط اغلبه من العرب ( قرى وادي عارة ) ، حيث يدرس أولادها في مدارس عربية ، وتسمع الأذان خمس مرات في اليوم والليلة ، يضعنا هو أيضا أمام مشهد يستحق التأمل والتفكير العميق … هل وجود أحدنا في محيط عربي كاف للتخلص من الشعور بالغربة ؟؟!! لماذا تَحِنُّ ( أحلام ) أحيانا إلى ( شتوتجاط ) وقد ( عادت !!! ) إلى أرض الوطن والذي هو جزء لا يتجزأ من فلسطين ؟؟!! كل حياتها كانت تصبو إلى العودة إلى وطنها الذي كبر معها وكبرت معه … فلماذا تشعر بالحنين إلى هناك رغم عودتها إليه ؟؟!! سؤال تطرحه في كتابها ، أملا في يجد الحل ….
الحل لا شك بسيط ، وهذا الشعور طبيعي إلى ابعد حد … الوطن ليس ترابا فقط ، لكنه مزيج من الإنسان المنتمي لهذا الوطن ، والوطن نفسه … حينما يحصل الفصام النَّكِد بين طرفي المعادلة ، سيكون من السهل على الطامعين أن يثبوا على الوطن فيسلبوه .. الكاتبة تحاول من خلال وقوفها عند هذه المشهد أن تبعث برسالة وإن كانت رمزية … لا يكفي فقط أن يعيش الإنسان في وطنه ، حتى تكتسب الصورة كمالها …. سيظل السؤال : ما مدى عمق انتماء هذا الإنسان إلى وطنه ، وما مدى التزامه بثقافة هذا الوطن وهويته ؟؟!! الجواب على هذه القضية الفلسفية ، هو ما يعطي للوطن معنى ، وإلا ف – ( شتوتجارط ) قد تكون الوطن وإن كانت ألمانية … إنها دعوة لنا جميعا أن نعيد النظر في طبيعة انتمائنا لوطننا ، وإلا عشنا فيه غرباء ، والغريب سرعان ما يفر عندما تحين أول فرصة ..
( الحجاب ) وهو عنوان المرأة المسلمة ، ليس مجرد ( خرقة ) .. إنه جزء من مكونات الهوية الدينية والوطنية والقومية لهذا الشعب …. لهذا السبب ترى فيه إسرائيل تهديدا إضافيا يضاف إلى ( العربي ) مهما كان ما يلبسه أو يفكر فيه ، فهو أيضا تهديد يجب أن يواجه .. مشهد التفتيش في المطار صورة تسوقها ( أحلام ) لتؤكد على الأزمة التي يعيشها العربي والمسلم في إسرائيل ، والتي هي جزء من العالم .. فكما أن هنالك حالة انفصام في مجتمعنا العربي تشعر المرهفين منا بالغربة ، فكذا – مع الفارق طبعا – فإن ممارسات إسرائيل العنصرية تجاهنا فقط لأننا عرب ، عامل إضافي يزيد حالة الشعور بالغربة ويعمقها … لقد تحول الوصول إلى المطار بالنسبة ( لأحلام ) كابوسا .. كل ذلك بسبب مكون قررت إضافته إلى شخصيتها .. إنه الحجاب … قالت : ( وصلت على المطار .. رأيت من ورائي مجموعة من النساء يقفن في الطابور … أشفقت عليهن ، وحمدت الله على أني لن أنتظر طويلا .. ولكن ، مرت كل النساء ، وانهين معاملاتهن ، وأنا أقف وحيدة … تقدمتْ إليَّ إحدى الحارسات ، وبدأت تفتش في شعري ، لعلي أخفيت هناك شيئا ما … لم أتمالك أعصابي ، وبكيت . ) … صورة تراجيدية لا اعتقد أن عربيا رجلا أو امرأة أفلت منها عند وصوله المطار .. هي أيضا صورة حقيقية ، لكنها تعكس منظومة قهر قومي وتمييز عنصري تمارسه إسرائيل ضدنا كعرب في كل مجالات الحياة ، يجب أن تدعونا لمزيد من التمسك بديننا ووطننا مهما كان الثمن ..
ذكرتني الحادثة التي روتها ( أحلام ) بقصة مشابهة ولكن على نطاق أوسع … عندما زرنا البوسنه والهرسك أثناء الحرب الضروس التي شنها الصرب على المسلمين في تسعينات القرن الماضي ، سمعنا رئيس مشيخة البوسنة ( دكتور مصطفى سيريتش ) يتحدث عن الحرب في سياق ثلاثية الدين والوطن والشعب .. قال : ( ونحن نرى بشاعة المجازر التي يرتكبها الصرب ضد المسلمين والتي وصلت حد الإبادة الجماعية ، كنا نتساءل حول السبب .. فيأتي الجواب لأننا مسلمين … ننظر في حالنا كمسلمين فنرى أنه لم يبق من إسلامنا إلا القليل ، بفعل الحياة التي عشناها في ظل النظام الشيوعي على مدى أكثر من سبعين عاما ، حتى لم يبق من إسلامنا إلا أسماء لا معنى لها ، ومساجد خاوية على عروشها ، ومجتمعا مسلما بالهوية هو اقرب في تصرفاته وسلوكه إلى الغرب منه إلى المسلمين .. قلنا لأنفسنا ، إذا كان ما نحمل من أسماء مسلمة مبررا صَبَّ بسببه الصرب علينا هذا العذاب ، فلم لا نكون مسلمين حقا وحقيقة ؟؟!! فكانت الحرب رغم آلامها ومعاناتها دافعا لعودة البوسنيين إلى دينهم حتى أصبحت البوسنة اليوم غير البوسنة بالأمس . ) …
إذا كان الدافع وراء تأليف الكتاب – كما تقول ( أحلام ) – هو التعبير من خلال قصتها عن شعور شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني وربما من شعوب كثيرة في العالم تعيش ظروف اللجوء والابتعاد عن الوطن لأسباب قد تختلف في ظاهرها ، لكنها أبدا لن تختلف في نتائجها ، فإني اعتبره نقلة نوعية في إنتاجنا الفكري المرتبط بواقعنا ، ومساهمة من سيدة فاضلة تستحق أن تكون مثلا يحتذى لنساء شعبنا .. كما يستحق كتابها أن يجد من يعكف على ترجمته للغة العربية ، وطباعته لأنه وبحق يعتبر إضافة نوعية إلى مكتبتنا الفلسطينية العربية …
بقلم الشيخ إبراهيم صرصور – رئيس حزب الوحدة العربية/الحركة الإسلامية
كل الاحترام الله يكثر من امثالك