وتزوجت حلوة الطنطورية ..!! بقلم يوسف جمال

تاريخ النشر: 22/02/15 | 21:56

كل البلد أجمعت, أنه مات ودفن سره معه ..ولكنه قبل أن يمت,كانت السنون الطويلة التي مرت على الحدث, قد أكلت آثاره في ذاكرة من عاصروا الحادثة .. وتلاشت روايته في مجالسهم .. ماتت أجيال وأخذت الرواية معها .. وولدت غيرها,و لم تستق اخبارها من مصادرها الأولى ..وضاعت أحداثها بين الأجيال المتعاقبة .
سليمان محمود المرة .. هو بطلها ..!
لن تجد في بلدنا عائلة بهذا الأسم , مهما حاولت .. حتى أولاده الخمسة , اتخذوا لهم أسما آخر لعائلتهم – عائلة أمهم ..!
وسليمان المرة , كان يتخذ من بلدنا سكنا لشهر واحد في السنة .. فقد كان صوت منادي البلد ,يرتفع في أجواء القرية مبشرا بقدوم المبيض .. فكانت النساء تهرع الى بيت المختار , وتسلمه طناجر ودلايات النحاس ,كي يعيد تبييضها من جديد .. أما ما تبقى من شهور السنة ,فكانت مخصصة للقرى الأخرى , ففي كل قرية ,كان يعمل بمهنة لها رواج وطلب فيها , ومن المهن الكثيرة التي كان يتقنها . في هذه القرية حلاق , وفي تلك حاذي للخيل ,وفي بلد آخر يمضي سكاكينها وبلطاتها ومقصاتها , وكان يصنع المحاريث, ويقلع الطواحين والأسنان . وكان يداوي المرضى بالوصفات الشعبية , وكانت الغرفة ,التي كان المختار يخصصها له ,تتحول الى ديوان في ذلك الشهر الذي يقضيه في القرية , يلتم بها رجال البلد , يقضون فيها أوقاتهم في تقليب أمورالدنيا.
وكانت هنالك صنعة أخرى لسليمان ..صنعة سرية , لا يعلم بها ألا القليلين .. قلة من قواد الثوار .. كان يصنع البواريد , حيث كاتوا ينزلون من الجبال التي يتمركزون فيها , ويرافقونه الى المعمل السري المخصص لصناعتها , الواقع في الطابق السفلي , تحت البيت الذي يسكن فيه , فيستلمونها ويعودون الى الجبل , ليستعملونها لمحاربة غزاة الوطن من الانجليز وحلفائهم .
“منين زوجتك أم وأولاد !؟ ” .. سأله المختار في لحظة انفرد به في الديوان .. “أنا من زمان بدي أسألك هذا السؤال ..!!” أكمل المختار ,بعد ان لاحظ ان سؤاله , لم يترك أثرا سلبيا على وجه سليمان .
“أنا قصتي قصة غريبة يا مختار ..!” بدأ يروي قصته حالا , وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة , كي يفرغ ما في جوفه من آلام ..:
“حليمة زوجتي .. فتاة أحببتها بكل جوارحي .. ولكنها تركتني وتزوجت من غيري , أكثر مني مالا وجاها .. رمت كل ما كان بيننا في بحر الطنطورة .!
كانت جارتنا .. ابنة أكبر مالك للأرض في البلد ..كنا نرسم ونبني مشاعرنا على رمال الشاطئ , فتسبح الأمواج عليه , لتمحوا ما رسمناه وبنيناه ,كي تجعلنا نبنيه من جديد .كبرنا.. وكبر حبنا معنا , وكلما كبرنا تشكلنا بأشكال, تعكس ألوان سنين عمرنا ,حتى جاء يوم .. كان ذلك في التاسعة من عمرنا , وقفت – كعادتي – على باب بيتهم وناديتها ,لنخرج الى بيارتهم, التي كانت لا تبعد كثيرا عن بيوتنا , لنقطف البرتقال ,ونساعد عمال البياره , ناديت ..وناديت .. حتى كاد ان يبح صوتي .. ولكنها لم ترد .. فدخلت من بوابة بيتهم , وأذا برأس أمها يطل من الشباك, وترفع صوتها في اتجاهي قائلة : ” انت وحليمه كبرته على اللعب مع بعضكم .. انت شب وهي صارت صبية ..!!”
وصارت لقاءاتنا تتم قي الخفاء.. بعيدا عن أنظار الناس .في لقائنا السري الأول ,تفحصت جسمها بكل تفاصيله , فلم أجد أي اختلاف عما كان قبله.. طولها كما كان .. عينيها نفس العينين , ابتسمتها الخجلى, بقيت تحاول الأختباء, خلف شفتيها المخملتين , وجهها القمري ,ما زال بدرا تظلل قسماته غيمات مسروقة , شعرها المستكين, نسيه الليل على رأسها, بعدان طرده الفجر.
بنينا – يا عمي المختار – حلمنا معا من أمواج البحر ,من رمال الشاطئ , من أريج أزهار البرتقال ..كتبنا عهدنا على صخور شاطئ وميناء البلد .. كنا نختلف ونتباعد ,ولكننا نعود لنلتقي ,ويعود الصفاء ليظلل طريقنا .. كبرنا وكبر حبنا معنا , بنيناه بالخوف والمغامرة والأمل .
وفجأة .. ودون أسباب أو مقدمات , سمعت أن حديث يدور في البلد أن حلوة ستخطب لآبن عمها , وفشلت كل محاولاتي لألتقي بها, لأتبين صحة الخبر..غابت عني .. غابت عني الى الأبد .. والأفراح التي اطلقت من بيتهم قطعت الشك باليقين..
وابتعدت عن بلدي جسما وروحا متخذا من مهنة أبي وسيلة للابتعاد عن مواطن الجراح ..جراح حب حلوة ..حتى جاءني خبر سقوط حيفا في يد اليهود .. فعرفت انهم سيهاجمون الطنطورة , فوضعت الثلاث بواريد, التي كانت في بيتي في خرج فرسي, وأطلقت لها العنان باتجاه الطنطورة , قطعت مرتفعات الروحة , ” وسقطت ” عليها من جبل الكرمل ,وعندما تكشف لي شاطئ البحر,رأيت منظرا غريبا , رأيت جمهور غفير من الناس, وبجانبهم عدة سيارات ,اخفيت نفسي بين الصخورالنازلة من الجبل, وبدأت أتقدم بحمايتها , كي أقترب قدر الأمكان من التجمهر الذي أثار حفيظتي ,فشد نظري قارب قديم, كان ملقى على الشاطئ ,فقررت المخاطرة .. قررت ان انتقل من بين الصخور, لأختفي خلف القارب , لقد كانت المسافة التي تفصلني عن القارب تقارب المئة المتر, في هذه المسافة سأكون مكشوفا للمخاطر .. فقررت ان أستغل سرعتي في الركض .. فجمعت قوتي وشجاعتي وركضت ..وعندما وصلت القارب رميت بنفسي خلفه , وأنا أحاول أن أسكت دقات قلبي ,التي كانت تدق بعنف شديد ,زحفت منبطحا على الأرض , وأخرجت عيني من طرف القارب السفلي.. فانكشف أمامي منظرا لن أنساه ما حييت .. لقد رأيت سكان الطنطورة أمامي, مصطفين في سربين – سرب للرجال والأولاد ,وسرب آخرللنساء والبنات , ويقوم جنديات وجنود من اليهود بتفتيش أهل البلد , استعرضـت أهل بلدي , وعندما وقعت عيناي على عائلة حلوة , كان جميعهم هناك.. جميع أفرادعائلتها وعائلة عمها , ولكن هي لم تكن هناك .!.فقررت ان أتوجه الى بيتها .. فصرت تارة أحبو وأسبح تارة أخرى ,بأتجاه صخور الجبل التي ستحميني من عيونهم , وعندما وصلت, حبوت بينها,الى ان ابتعدت عن مكان تجميعهم على شاطئ البحر..توجهت بسرعة الى فرسي , التي كنت قد ربطتها بشجرة في أعلى الجبل ,وأخرجت البنادق من بين الصخور التي كنت قد دفنتها تحتها .
ووضعتها في الخرج , وركبت الفرس متوجها الى بيتها ,وخلال دقائق كنت هناك ..بدأت بالطرق الخفيف على أبواب البيوت , فلم أسمع أي صوت يصدر منها.. توقفت عند باب بيتها وصحت بأعلى صوتي ” حلوة ..!” ..” حلوة ..!” ” حلوة ..!” , واذا بصوت خفيف راجف , يتسلل الى أسماعي :” أناهنا يا محمود .. أنا هنا ..أنا هنا في البير..بير المي !!” ,تقدمت من البئر,وكشفت غطائه, وانزلت السلم الذي كان مسنودا على حائط البيت, الى داخل البئر.. فخرجت منه ,ونحيب يجمد القلوب, يخرج بالقوة ,من بين شفتيها الراجفتين .
” قولي لي ما الذي حدث ..!!” صحت بها ,وأنا أحاول قتل الهيجان, الذي بدأ يتفجر في عروقي..” طلب مني حسين زوجي النزول في البئر , وأخذ بارودته ,وانطلق ليلتحق برفاقه الثوار ,بعد ان سمع ان اليهود, بدأوا بمهاجمة البلد..! , وقال انه سيعود ليخرجني, بعد ان ينهي مهمته ..!!” قالت وهي تغالب بكاء مر لا يتوقف .
ركبت فرسي وأركبتها خلفي, وانطلقت الى الجبل, أبحث عن الثوار, وعندما وصلت الى المكان الذي يتمركزون فيه , وجهني أحدهم الي المكان
الذي يرابط فيه حسين, وعندما وصلنا , نظر الينا نظرة غضب وقهر , وطرق بندقيته بالارض وصرخ لاعنا : ” سلمونا الخونة بواريد خربانة ..!” فأسرعت الى الخرج , وأخرجت بواريد الثلاث , ناولته واحدة , وأخرى لحلوة , واحتفظت بالثالثة .. ” ماذا أفعل بها ..!!؟ ” همست حلوة باستغراب شديد .. ” فرصة لتتعلمي على استعمالها ..!!” رد محمود وهو يعالج بندقيته , كطفل حصل على دمية كان ينتظرها بشوق محروم.
أخبرنا حسين ,ان قائد الثوار امرهم أن يرابطوا في اماكن محددة , لايتركونها مهما حدث, الا باشارة منه متفق عليها , وهي عبارة عن خمس طلقات ..ثلاث .. واحدة .. واحدة .., عندما نسمعها ..ننطلق لمهاجمة اليهود , الذين يحاصرون اهل البلد , و نحاول تخليصهم من قبضتهم .
انتظرنا – يا مختار – وانتظرنا على أحر من الجمر .. كنا مستعدين للشهادة , حاملين أرواحنا على أكفنا .. !! ولكن الأشار ة لم تأت , وبدلا منها , وجدنا أنفسنا محاصرين من جميع الجهات من قبل اليهود ..!!
” أرفعوا أيديكم .. أرفعوا أيديكم أنتم محاصرون ..!!” ارتفعت أصوات اليهود من مكبرات الصوت .
رفعنا رؤوسنا, ونظرنا حولنا ,فوجدنا أنفسنا محاصرين في داخل حلقة محكمة الأغلاق , رفعت يدي مستسلما , وصنت مثلي حلوة , أما حسين فقد بقي قابضا على بندقيته ” أرفع يديك يا حسين.. !!” زعقت به حلوة مستعطفة ..
ولكن بدل ان يرفع حسين يديه , صوب بندقيته بأتجاههم, وأطلق النار على أحدهم فقتله , وصوب على آخر فأصابه ,فدبت بي الشجاعة ,فأنزلت يدي وتنولت بندقيتي, وأطلقت النا ر فاصبت واحد منهم .وكانت المفاجأة ..فقد لملموا قتلاهم وجرحاهم وانسحبوا .. وكنا على يقين انهم سيعودون بقوة أكبر .
أقتربت من حسين الذي كان غائبا عن عيني , مستحكما وراء صخرة كبيرة , لنتشاور حول ما الذي سنعمله ..فوجدته منبطحا على الأرض والدماء تسيل من تحته ,وعرفت انه أصيب , فقلبته على ظهره , فناولتني حلوة غطاء رأسها من بين زعقاتها وصراخها ,حاولت وقف النزيف, ولكن دون جدوى .. لقد مات حسين – يا مختار – بين أيدينا .. جملة واحدة قالها حسين قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة : ” وصاتك حلوة يا محمود ..!! ” .
فطلبت من حلوة ان تركب الفرس في المقدمة لكي تقودها ,أما أنا فوضعت جثة محمود خلفها , وركبت وراءها ,وسحبتها بصعوبة بالغة
الى حضني , وسرنا قاطعين جبل الكرمل وهضاب الروحة, الى ان وصلنا الى عرعرة , ودفناه هناك .
وتزوجت حلوة ..

قصة بقلم : يوسف جمال – عرعرة

jmal-yosf2013

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة