المدونــــة التاســعة والثلاثون"البديل من العبريــــة"
تاريخ النشر: 04/11/12 | 5:02في المطعم:
لن أتحدث هنا عن مأكولات عرفت في العالم بلفظها بلغتها، نحو: الشيشليك، الستيك، السوشي (الياباني)، التشيــبــس، الشنيتسل( الألماني)، شوارما (التركية)، والمكرونة (الإيطالية)، وانتهاء بالبودينغ، فهذه ومثلها لا سبيل لترجمتها بلفظ عربي محدد تمامًا، فلا الشرائح ولا الشقف، ولا اللحم المشرَّح، ولا الشِّواء، ولا أية لفظة عربية تستطيع أن تفرض نفسها على ما هو معروف ومألوف بأصله الأجنبي، فلنتناولها بصحة وعافية باسمها ورسمها، وأجرنا على الله.
ثم لا يظن ظانّ أن الكَباب هي عبرية (כַּבָּבּ)، فهي قد وردت في لسان العرب وفي القاموس بمعنى اللحم المشرَّح، أو كما تقول المعاجم- هو الطَّباهِج (فارسية- بمعنى اللحم المشوي، ومن المحققين من يرى أن الكباب هي الأخرى لفظة فارسية استخدمت في العصر العباسي)، وفي ذكر الكباب يقول الشاعر أبو دُلامة:
غاد هذا الكَـبابَ كل صباحِ من متونِ الفتيّــةِ السُّـحاح
انظر: الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ج 10، ص 319 (في أخبار أبي دلامة)
لكن المصريين يعنون بالكباب ما نسميه نحن بالدارجة (شُـقَـف)، ويسمون شاويه وبائعه (كبابجي)، بينما الكباب عندنا هو اللحم المدقوق المضافة إليه التوابل والبقدونس (في المعاجم- المَقْـدونس وهي معربة من مَـعْـدْنوز الفارسية، وتظل البَـقْدونس أخف ظلاً من -البتروزيليا= פֶּטרוֹזִילְיָה).
* * *
أتحدث هنا عن بعض الألفاظ العبرية – للمأكولات- التي غزت لغتنا في نسيجها، فما الذي يجبر صاحبنا أن يقول (ﭽيزر)- גֶּזֶר وينسى الجزر، ويقول (مراق)- מָרָק، وينسى المَـرَق ، ويقول (سلاطيم)- סָלָטִים ناسيًا أنها السَّلَـطات، جمع سلَـطَـة (סָלָט)؟، بل يفضل (أوخل) אוֹכֶל على الكلمة العربية (أكل) أو طعام؟؟؟!
ألفاظ عربية أصبحت بقدرة قادر بلكنة عبرية!!! ومن يدري فاسألوا قائليها إن كانت بالعبرية أزكى وأشهى؟!
ملاحظة: السَّـلطَـة لم ترد في المنجد، وقد وردت في الوسيط بعد أن أقرها مجمع اللغة العربية في القاهرة، وأصل الكلمة من اللاتينيةsal بمعنى الملح، ثم جعلها الإيطاليون insalata بمعنى المُـمَـلَّـحة (على ذمة أحمد عيسى في كتابه المحكم في أصول الكلمات العامية، ص 44).
* * *
دخلنا إلى المطعم الرحب الجميل، وصاحبي يصر على أنه (المِسْعَدا)- מִסְעָדָה (لاحظ أنهم يستعملون أداة التعريف العربية مع كل لفظة عبرية!)، فسأل عن (المِلْتْسار)- מֶלְצָר= نــادِل (بالدارجة: سفرجي أو جرسون، والأولى تركية، والثانية كلمة فرنسية شائعة)، فأقبل علينا ثلاثة نُـدُل (ولا أقول ملتسريــم، وإذا أردت الدارجة فقل: سفرجية) يتسابقون على خدمتنا. وجدنا أمامنا (الشَّوْسَـم)- סַכּו”ם = شَـوْسَـم- (كلمة جديدة اقترحتها- انظر المدونة الرابعة والعشرين- موضوع الاختصارات)، كما وجدنا ما سماه صاحبي (مبِّـيوت، وهي جمع مَـبّـِيـت)- מַפִּית= مِـنْديل (بالدارجة: فُـوطَــة) على الطاولة.
أحضروا لنا السَّلَطات المختلفة، فلديهم كما يقول أحدهم (مِـبْـحار)= מִבְחָר= تَشْـكيلَــة ممتازة من (اليِـرَقُـوت)- יְרָקוֹת= خَـضْراوات، (بالدارجة، خُضروات)، وهذا (الييرق)- יֶרֶק= خُضرة (طَري)- טָרִי= طازج. كما أحضروا لنا الـكـماج – פִּיתוֹת (انظر عن الكماج في المدونة الثالثة).
طلب صاحبي (حتسيليم)- חֲצִילִים= باذِنْجان (بيت إنجان بلهجة المثلث، وكل له لهجته فليعتمدها، وليترك اللفظة العبرية مع أن أصلها من اللفظة العربية: الحَـصيـل أو الحَـيْـصَل) حيث ذكر لسان العرب أن الحصيل “ضرب من النبات” دون أن يحدد، وأما تاج العروس فذكر أن الحَـيْـصَل مثل صيقل يعني الباذنجان، ويعيد ابن شوشان اللفظة إلى أصلها بالعربية، وهو يذكر חֲצִיל- بمعنى الباذنجان.
ولكن من منا سيقولها؟ أكلت حيْصلاً بصور مختلفة؟ وهل أنا خادمك ام خادم الحصيل؟
على فكرة (الباذنجان) من الكلمات الفارسية (بادَنكان) التي عرّبها العرب في صدر الإسلام.
ثم طلب صاحبي صحنًا من (البِـتْـريوت)- פִּטְרִיוֹת= فُـطْـر (يسمى أيضًا فـَِـقْـع).
بعد أن شبعنا من السلطات التي قدمت لنا في (المَـنا ريشونا)- מָנָה רִאשׁוֹנָה= مُـقبـِّـلات (الترجمة الحرفية: الوجبة الأولى) سألنا النادل عن (المنا العِقَريت)- מָנָה עִקָרִית = وَجْـبَـة رئيسية (هناك من يريدني أن أقول: رئيسة)- التي نرغب أن نأكلها.
عرض علينا: (داﭺ)- דָּג ونسي أنه السمك، و (برﭽيت)- פַּרְגִית= فَـرّوج (في الجمع:برﭽيوت- פַּרְגִיוֹת= فراريج)،
وقال: عندنا (حَـزي عوف)- חָזֶה עוֹף= صدر دجاج (بالدارجة جاج، ولا تزعل!)، وعندنا (عوف مِمولا)- עוֹף מְמוּלָא= دجاج محشي (والمعروف لغويًا أنه محشو، ولكن هناك في المزهر للسيوطي من أجاز الياء أيضًا).
واصَل النادل: وعندنا (عال هئيش)- עַל האֵשׁ= على النار (يقصد اللحم المشوي).
اخترنا ما لذ وطاب من أنواع الطعام والشراب، لكن صاحبي نسي نفسه، ونسي الآية الي ورد فيها {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}!
شربنا بعدها القهوة، وأكلنا الحلوى،وكان صاحبي يسابق في التهامه قطعة بعد قطعة، فهو يعشقها.
وحمدنا الله على نعمه، أو لم يقل في ذكره الحكيم: { كلوا من طيبات ما رزقناكم}!؟
لكن صاحبنا الذي أكل بنهم، والبطنة تذهب الفطنة- نهض مسرعًا، وهو يسأل: أين (الشِّروتيم)؟ שֵׁרוּתִים= منافع (بالدارجة: الحمّامات).
ملاحظة: ما أكثر ألفاظ بيت الخلاء ومرادفاته بالعربية، ولكنها غير عملية اليوم، فمن سيسأل: أين الكنيف؟ أين المستراح؟ أين بيت الخلاء (وما هو في الخلاء كأصل التسمية، بل في البيوت العامرة)؟
وتظل لفظة (المِرْحاض) واردة هنا وهناك، وهي مستخدمة.
لكني فحصت نسبة الاستخدام لموضع قضاء الحاجة، فوجدت الأطفال في الروضات ومعلماتهم يذكرون (الشروتيم) أكثر، مع أن اللفظة العبرية كناية دارجة، وليست لغة الفصحاء فيهم.
تركنا صاحبنا يعاني، ونحن نتفلسف، فلما عاد إلينا اطمأننا على صحته، وقلنا له: تذكر بيت الشنفرى:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
حدثنا أحد الندل بعد أن لمس ميولنا الأدبية طرفة قرأها عن الحَـساء (المرق) الذي كان يسمى لدى إحدى القبائل- (السَّخـين)، فسألو أعرابيًا من هذه القبيلة:
– ماذا يسمى المرق عندكم؟
– السخين.
– فإن برد ؟
– لا ندعه يبرد.
أما المرَق (والمرَقة واردة في المعاجم أيضًا)، فهو ما كان فيه اللحم والدسم، وهو من الفعل (مرق) لأنه يمرُق من اللحم أي ينفذ منه، وقد شاع استخدامه في معنى كل حَـساء- أي ما يحسوه الشارب من الماء الذي فيه بعض أنواع الطعام (بالعامية أيضًا شوربة، واللفظ يا للغرابة هو فارسي أيضًا رغم أن الجذر الثلاثي عربي قح: شرب). ومهما قال القائل فإنه يهمنا هنا ألا يلفظ بمد الألف (مراق)؟ لماذا؟ هل يكون عندها أطيب وأزكى؟
ودعنا أصحاب المطعم، وشكرناهم على حسن الخدمة. ثم قلت لصاحبي:
رحم الله معلمي في الصف الثاني الذي علمني قول السكاكيني في كتابه الجديد:
“قم عن الأكل وبك خَـصاصــة”!