مع الله بعيداً عن القلق
تاريخ النشر: 03/03/15 | 16:24قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).
مشكلة العصر ومحنة الإنسان في عالم اليوم، وأشدّ أمراض البشرية خطراً على سعادة الفرد والجماعة هي مشكلة القلق.
القلق الذي يؤرّق آماقك فلا تنام. والقلق الذي يربك تفكيرك فلا تستطيع تنظيم أفكارك أو التصرّف بحكمة وانضباط. والقلق الذي يعيش سهاماً تُمزِّقُ أعماق وجدانك فلا تشعر بالراحة والاستقرار. والقلق الذي يشدّ أعصابك فيتركك متشائماً متوتراً تثور لاتفه الأسباب. والقلق الذي يملأ حياتك سأماً ومرارة فينغّص عليك عيشك، فلا يسرّك سرورها، ولا يحلو لك حلو الطعام أو الشراب أو مباهج الحياة.
القلق الذي لا يكتفي بكونه مرضاً نفسياً يذهب بصحّتك النفسية، بل ويتحوّل إلى مرض عضوي يربك أجهزة الجسم وأعضاء البدن.
لقد تحوّل القلق إلى مشكلة مرضية مستعصية على الطب المادي والحضارة المادية.
إنّ الإحصاءات الطبية تسجِّل لنا رقماً مرعباً، تسجِّل أنّ (80%) من الأمراض الجسدية في بعض البلدان (كالولايات المتحدة الأميركية) سببها الأمراض النفسية المتأتِّي معظمها من القلق.
فما القلق؟ ولماذا القلق؟ وكيف ينشأ القلق؟ وما هي أعراضه؟ وما هو علاجه؟
تلك أسئلة نواجهها في معرض تعريفنا بالقلق، ومحاولة التغلّب عليه، فلنحاول إذن الإجابة عن هذه الأسئلة كما وردت في دراسات علماء النفس، وفي ضوء معالجات العقيدة والفكر والتشريع الإسلامي.
– ما هو القلق؟
القلق كما يقول علماء النفس: هو مرض نفسي، وهذا المرض عبارة عن حالة انذار للتهيؤ للخطر المحتمل بعد أن تعرّض الإنسان لحالة خوف سابقة، فهو كما عُرِّف: “انفعال مركّب من الخوف، وتوقّع الشر والخطر والعقاب”.
كما عُرِّف بأنّه: “حالة من الخوف الغامض الشديد الذي يتملّك الإنسان، ويسبب له كثيراً من الكدر والضيق والألم”.
وهو رد فعل الجسم الفسيولوجي على تلك المخاوف والتوقّعات المخيفة، لذا تظهر آثاره الفسيولوجية على الجسم، ويتحوّل إلى أمراض جسدية في كثير من الحالات، كالأمراض العصبية، وأمراض الجهاز الهضمي، وأمراض الصداع والحسّاسية، وأمراض القلب، والشعور بالاعياء واضطراب ضغط الدم ونسبة السكّر والتنفّس… إلخ.
وهكذا يقرِّر علماء النفس أنّ الخوف هو مادّة القلق، وأنّ القلق سبب لفقدان الصحّة النفسية والجسدية.
كما يقرِّرون أنّ في كل نفس خوفاً، لذا فإنّ في كل نفس قلقاً، ولكن بدرجات متفاوتة.
فمن الخوف ما هو بسيط فلا ينتج إلّا قلقاً بسيطاً، دون مستوى التأثير على الصحّة النفسية، أو دون أن يتحوّل إلى خطر على وضع الإنسان النفسي والجسمي.
ومنه ما هو معقّد وخطر في حجمه وعمقه وقيمته في نفس المصاب، لذا فهو يترك قلقاً خطيراً وحالة مرضيّة تحيل الحياة إلى شقاء وعذاب نفسي.
والقلق هو ردّ فعل نفسي وجسمي على الشعور بالخوف، وهو موقف دفاعي لا شعوري ضدّ الخوف المتوقّع.
فالقلق هو خوف من خطر متوقّع الحدوث، خوف من المجهول، خوف لا يجد التعبير عن نفسه ولا يجد المصاب مجالاً للتخلّص منه، لذا يبقى مكبوتاً في أعماق النفس فيتحوّل إلى قلق.
فهو إذن حالة مرضيّة تفقد الإنسان الطمأنينة والاستقرار وتوازن الشخصية.
– أقسام القلق:
ويقسِّم علماء النفس القلق إلى قسمين هما:
1- القلق الموضوعي: “وهو خوف من خطر خارجي معروف، كالخوف من حيوان مفترس، أو من الحريق، أو من الغرق، وهذا النوع من الخوف أمر مفهوم ومعقول، فالإنسان عادة ما يخاف من الأخطار الخارجية التي تهدِّد حياته”.
2- القلق العصابي: “وهو خوف غامض غير مفهوم، ولا يستطيع الشخص الذي يشعر به أن يعرف سببه”.
وهذا اللون من القلق هو خوف يستجيب لأي مثير يتصوّره ذلك الإنسان.
– لماذا القلق؟
يتناول علماء النفس والمحلِّلون النفسانيون حالة القلق المرضية بالدراسة والتحليل فيرجعون القلق إلى أسباب عديدة أهمّها:
– الخوف من المجهول.
– الشعور بالكراهيّة والعدوان ضدّ الآخرين.
– الإحساس بالعجز عن مواجهة المثيرات.
– الإحساس بالعجز عن اشباع الحاجة.
– الخوف من العقاب… إلخ.
تلك أبرز الأسباب التي تولِّد القلق في النفس، فتجعل الإنسان قلقاً متوتراً متشائماً متردِّداً، يسيطر عليه خوف غامض، يترقّب حدوث المكروه، كالذي وصفه القرآن الكريم بقوله: (يَحْسَبونَ كُلَّ صَيحةٍ عَليهم) (المنافقون/ 4).
وسنجد أنّ العلاج القادر على استئصال هذه المخاوف هو الإيمان، فهو القادر على حلّ عقدة الخوف باقتلاع أسبابها، وسدّ المنافذ والمناشئ التي ينفذ منها القلق.
– ما هو العلاج؟
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).
(رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) (غافر/ 7).
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3-4).
(إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طه/ 118-119).
(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة/ 16).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة/ 208).
(والسّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى) (طه/ 47).
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 124).
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/ 80-82).
(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) (الجن/ 13).
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).
(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَليهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام/ 48).
(قالَ لا تخافا إنَّني مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (طه/ 46).
(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ) (الأنفال/ 26).
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 55).
إنّ دراسة الفقه والأفكار والمفاهيم الإسلامية توضّح لنا عناية الإسلام بالصحّة النفسية والأخلاقية، كما توضّح عنايته بالصحّة الجسدية، وتنظيم المجتمع، وتعبيد الناس لله سبحانه.
ولعلّ أبرز ما عالجه التشريع والفكر الإسلامي ومبادئ التربية والأخلاق في الإسلام هي مشكلة الأمن الفردي والإجتماعي، ومحاربة الخوف والقلق، وتوفير الأمن والطمأنينة للإنسان بطرق مباشرة وغير مباشرة.
وإنّ قراءة تحليلية متأمِّلة في محتوى الآيات الآنفة توصلنا إلى حقائق نفسية وإجتماعية، وهي أنّ القرآن قد وفّر للإنسان مستلزمات الأمن النفسي، والحماية من الخوف والقلق.
ولكي تتّضح لنا معالجات العقيدة والفكر والتشريع الإسلامي لمشكلة القلق بعد أن عرفنا أسبابها ومناشئها التي توصَّل إليها علماء النفس وأطباء العلاج النفسي، لكي يتّضح لنا منهاج الإسلام لتحقيق الأمن والطمأنينة ومعالجة الخوف والقلق فلنعرض الموضوع كالآتي:
قد عرفنا من خلال التعريف بالدراسة التحليلية للقلق أنّ أبرز أسباب القلق هي:
1- الخوف الناشئ من مرحلة الطفولة نتيجة فقدان الحب والحنان، واحترام شخصية الطفل، وسوء تعامل المحيطين به معه، أو فقدان الوالدين، لا سيّما الأُم، بالموت أو الطّلاق أو غيابها عن البيت أو بسبب مثيرات طبيعية أو إجتماعية أخرى.
ولقد أولى الفكر الإسلامي هذه المسألة عناية خاصّة فدعا وحثّ الآباء على احترام شخصية الطفل، ومنحه الحب والحنان والعناية به، وحذّر من المعاملة القاسية والاساءة إليه، واحتقار شخصيته، لينشأ سويّ الشخصية، بعيداً عن مشاعر الكراهية والشعور بالنقص والخوف من التسلّط المثيرة للقلق.
ننقل من هذه التوجيهات ما ورد عن الرسول الكريم (ص) والأئمّة الأطهار (ع) من حثٍّ وتحريض على حبّ الأطفال والعناية بهم:
فقد روي عنه (ص) قوله: “أحبّوا الصبيان وارْحَمُوهُم”.
وروي عنه (ص) قوله: “مَن قبَّل ولده كَتَبَ الله عزّ وجلّ لهُ حسنة، ومن فرّحه فرَّحه الله يوم القيامة”.
وروي عن الإمام الصادق (ع) قوله: “الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين”.
وروي عنه (ع): “دَع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدَّب سبع سنين، والزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلّا فلا خير فيه”.
إنّ هذه التربية والعناية بالطفل هي كما أفادت الدراسات النفسية من أُسس الضمانات لحماية الطفل من الخوف والقلق الذي ينشأ في طفولته، فيتطوّر في أحيان كثيرة، ويلازمه كحالة مرضيّة في مستقبل حياته.
وكما يحصِّن الحب والحنان النفس الإنسانية من الخوف والقلق، فإنّ اللّعب في الطفولة له وظيفة نفسية هامّة، فهو عبارة عن عملية تفريغ حالة الخوف والقلق لتسلم النفس من الكبت، فإنّ مصادر الخوف في الطفولة عديدة تبدأ من خوفه من فقد أُمّه، أو انفصاله عنها عند الفطام، أو حدوث مخاوف من الحيوانات والظواهر الطبيعية، أو من القسوة عليه واحتقار شخصيّته… إلخ.
لذا حثّ الفكر الإسلامي على فسح المجال أمام الطفل ليلعب، فإنّ لعب الطفل يعمل على تفريغ حالة الخوف وانقاذ العقل الباطن لدى الطفل من الكبت والقلق الذي يظهر فيما بعد على شكل حالات مرضية.
ولأهمية مرحلة الرضاعة والحضانة في توفير الأمن للطفل وحمايته من الخوف والقلق الذي ينشأ معه، قنّن التشريع الإسلامي مرحلة الرضاع والحضانة، وأكّد على العناية بها، فالرضاع اشعار للطفل بالحب والحنان والاحتضان، وإبعاد مخاوف الانفصال عنه، لذا ورد في الحديث النبوي الشريف: “ليس للصبي خير من لبن أُمّه”.
وورد عن الإمام علي (ع): “ما مِن لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه”.
ولأسباب جسدية ونفسية جعل التشريع الإسلامي مدّة الرضاع حولين كاملين، واعتبر الأُم المأمونة على الولد أحقّ بحضانة الطفل وأولى في هذه المدّة ما لم تتزوّج في حال الطّلاق أو موت الأب. وانّ من آثار هذا التشريع هو تنمية مشاعر الحب والعناية لدى الطفل، واشعاره بعناية الآخرين به.
قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) (البقرة/ 233).
وبعد مرحلة الرضاعة جعل التشريع الإسلامي مرحلة الحضانة لمواصلة عملية التربية، وتكوين شخصية الطفل السويّة؛ لذا اعتبر الأولى أن تمتدّ مدّة الحضانة في رعاية الأُم إلى مدّة سبع سنين فإن ماتت الأُم فالأب هو الأولى بذلك.
واعتبر الأب أحقّ بحضانة الولد من الأُم، كما اعتبر الأُم أحقّ بحضانة الأُنثى من الأب، لتأثير السلوك المتماثل على الطفل وعلاقته بتكوين الشخصية.
وبذا أحكم الإسلام نظام الأمن التربوي والوقاية من القلق والخوف إذا ما أحسنت الاستفادة من كامل وصاياه وتوجيهاته الأخرى. وكما أوصى الأبوين بالحب والحنان واحترام شخصية الطفل واحتضانه والعناية به أوصى المجتمع بالعناية باليتيم، لينشأ في ظلّ الحب والحنان، بعيداً عن التشرّد والشعور بقسوة الحياة عليه، لينشأ سوي الشخصية، بعيداً عن الإحساس بالقلق والخوف.
قال تعالى: (فأمّا اليَتيمَ فَلا تقَقْهَر) (الضّحى/ 9).
وكما نهى عن قهر اليتيم وتعريضه للكبت، هاجم أولئك الذين يسيئون إليه بقوله: (فذلِكَ الّذي يَدُعُّ اليَتيمَ) (الماعون/ 2).
وفي وصايا الرسول (ص) والأئمّة الهداة من أهل البيت (ع) نقرأ الحثّ على كفالة اليتيم والإحسان إليه مثل:
روي عن رسول الله (ص): “أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا – وأشار بالسّبّابة والوسطى وفرج بينهما –”.
وروي عنه (ص): “إنّ في الجنّة داراً يُقال لها دار الفرح لا يدخلها إلّا مَنْ فرّح يتامى المؤمنين”.
وروي عنه (ص) أيضاً: “كُن لليتيم كالأب الرّحيم، واعلم أنّك تزرع كذلك تحصد”.
وروي عن الإمام علي (ع): “الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم، ولا يُضيّعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (ص) يقول: (من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله عزّ وجلّ له الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار).
وروي عنه (ع): “ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم إلّا كتب الله له بكلّ شعرة مرّت يده عليها حسنة”.
2- نشوء الخوف والقلق عند الإنسان نتيجة منع مطالبه الغريزية المشروعة، وكما وضح لدينا فالإنسان عندما يحرم اشباع حاجاته الغريزية، ويحرَّم عليه ذلك، يظل يعيش حالة الصراع والقلق العنيف بين مطالب النفس والغريزة، وبين الظروف الخارجية، كالقوانين والأعراف والتقاليد والسلطة التي تُحرِّم عليه ذلك أو تحرمه من الاشباع المشروع.
ويفسِّر علماء النفس هذا القلق بأنّه نتيجة لمحاولة العقل الواعي (الأنا) للتوفيق بين مطالب النفس الغريزية التي يمثلها (الهو) وبين العالم الخارجي الذي يشمل الأعراف والقوانين والعقائد والسلطة فيتمثّل دور العقل في كبح المطالب الغريزية لحماية الذات من خطر المنع الخارجي فيتكوّن القلق والصراع الداخلي.
والإسلام بعلمية تشريعه وواقعية قيمه ومبادئه جاء متناسقاً مع التكوين الغريزي للإنسان، بل عمل التشريع والقيم والأعراف الإسلامية على إشباع الجانب الغريزي اشباعاً طبيعياً ومنظّماً، وجعل دور العقل متركِّزاً في توجيه وتنظيم هذا الاشباع لحماية السلوك من الشذوذ والحالات المرضية.
فأشبع غرائز حبّ الذات والجنس والأُمومة والطعام والبحث عن المجهول وطلب العلم والتملّك… إلخ، وفسح المجال الطبيعي أمامها.
ونفهم هذه الحقيقة من خطاب القرآن لآدم (ع) وزوجته والتعهّد له بقوله: (إنّ لكَ ألّا تَجُوعَ فيها ولا تَعْرى * وأنّكَ لا تظمأُ فيها ولا تَضْحى) (طه/ 118-119).
وهو تعهّد وفّى به التشريع والنظام الإسلامي للنوع البشري عند تسلّمه مهمّة تنظيم المجتمع وقيادة البشرية على يد الرسول الهادي محمّد (ص). وفي هذا التعهّد استيعاب للمطالب الغريزية كلّها: الجنس والطعام والشراب والسّكن… إلخ، وبذا وفّر الأمن الغريزي واقتلاع مناشئ القلق الصادرة عن ذلك الموقع المحارب من النفس، واخراجه من ميدان الصراع مع العقل. كما عمل على امتداد تعامله مع الإنسان على تقوية دور العقل ليتعامل مع الغريزة بقوّة وتوجيه واع وسليم، لحماية النفس من الخوف والقلق. فإنّ معظم مشاكل القلق آتية من عدم قدرة العقل على الصمود أمام الضغوط النفسية التي يدرك عدم واقعيّتها في كثير من الأحيان، غير أنّه يهزم أمام تلك الحالات لضعفه عن المقاومة.
3- وكما يتسبّب المنع والكف القهري لمطالب الغريزة المشروعة باحداث القلق والآلام النفسية يتسبّب كذلك الخوف من عدم الحصول عليها والعجز عن اشباعها قلقاً مؤلماً للإنسان.
فهناك القلق المعاشي، وهو الخوف من عدم الحصول على ما يكفي الإنسان من مطالبه المعاشية، بسبب البطالة أو الشيخوخة أو العجز عن العمل أو حدوث الأزمات… إلخ.
وهناك الخوف على الذات من الخطر والعدوان المتأتِّي من السلطة أو الأفراد أو المخاطر الطبيعية… إلخ.
ويشكِّل هذان الجانبان من الخوف أشدّ أنواع القلق التي ابتليت بها الإنسانية، ولقد عالج التشريع والنظام والأخلاق والعقيدة الإسلامية هذه المشكلة معالجة عملية ونفسية.
فمن الناحية العملية عالج الإسلام مشكلة الفقر والحاجة عن طريق التشريع والتنظيم الإقتصادي والتوجيه التربوي والتعبّدي، لا سيّما مشكلة الأفراد الذين لا يجدون مورداً للعيش، فوفّر لهم الأمن والطمأنينة المعاشية، وأبعد مناشئ القلق والخوف عنهم، بما وفّره لهم من ضمانات معاشيّة.
نورد بعض النصوص التي شرّعت القوانين الإقتصادية وعالجت مشكلة الفقر والحاجة في المجتمع، كتشريعي الزكاة والخمس وغيرهما من التشريعات الإقتصادية الأُخرى.
قال الله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60).
وقال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر/ 7).
وكما عالج النظام الإسلامي مشكلة القلق المعاشي، عالج كذلك مشكلة القلق السياسي، فأوجب العدل وحرّم الاعتراف بمشروعيّة السلطة الظالمة، ووضع موازين العدل، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90).
وتحدّث في موضع آخر عن وجوب توفير الأمن السياسي وعلاقته بالشريعة الإسلامية فقال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور/ 55).
4- الخوف من العدم: إنّ الدافع الأساس للسلوك البشري بأسره ينطلق من غريزة حبّ الذات والحفاظ عليها، بعيدة عن الخطر والفناء والعدم؛ لذا فإنّ الخوف من العدم وفناء الذات هو المادّة الأساسية لأنواع الخوف، وأخطر مصادر القلق اللّاشعوري الذي تصنع منه حالات القلق جميعها.
ومصدر هذا القلق هو الانفصال عن الله سبحانه والكفر بوجوده وبعالم الآخرة والجزاء، وبالتالي الخوف من الموت ومفارقة الحياة، لأنّ ذلك يعني العدم والفناء لدى مَنْ لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وبذلك يسلك الخوف على الدنيا (الخوف من الموت) كسبب أساس لكل أنواع القلق، وعندما يتحرّر الإنسان من عقدة الخوف من الفناء يتحرّر من عقدة القلق والخوف.
لذا كان الإيمان بالله سبحانه وباليوم الآخر وفهم عملية الموت أنّها عملية تحوّل وانتقال من دار إلى دار، وأنّ عالم الآخرة للمتّقين هو خير من عالم الدنيا.