ظاهرة الزواج السّري ومحاذيره الشرعية والاجتماعية
تاريخ النشر: 08/03/15 | 11:30ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة مؤرقة بدأت بالظّهور والتنامي الملحوظ في بلداتنا العربية وهي ظاهرة الزّواج السّري، وذلك بأن يقوم شخص بالعقد على امرأة معينة بحضور شاهدين ويتمّ الاتفاق بين العاقدين والشهود على بقاء الأمر بينهما سراً خشية أن يطلع أولياء المرأة كأبيها وأبنائها وأخوتها ومجتمعها المحيط بها لأنّهم لو علموا بهذا الزّواج قد يمنعوه أو يعارضوه لعدم الرّضا عن الزّوج أو بسبب ظروف اجتماعية أخرى وبالمقابل يريد أيضاً الرّجل اخفاء هذا الزّواج عن زوجته الأولى وابنائه لأنّهم لو علموا قطعاً سيعارضونه ممّا سيفضي للمنازعات والمشاحنات التّي قد تفتك بالحياة الزّوجية، وحول هذه الظّاهرة المتنامية وأسبابها والمفاسد المترتبة عليها أجري مقابلة مع المحاضر في كلية الدّعوة والعلوم الاسلامية ورئيس المجلس الاسلامي للإفتاء في البلاد الشيخ الدّكتور مشهور فوّاز.
لقد ظهر في عرفنا ما يسمّى بالزّواج السّري، ما هي ماهية هذا الزّواج من النّاحية الشّرعية؟
الزّواج السّري في عرفنا له صور مختلفة ومتنوعة تتفاوت أضراره ومفاسده من صورة لأخرى، ويمكن حصر هذه الصّور على النّحو الآتي:
الصورة الأولى: أن يكون الزّواج بالسّر عن الزوجة الأولى وأهل الزّوج ومجتمعه المحيط به ولكنّه مشهور في مجتمع المرأة الثانية وذلك كأن يكون شخص من مدينة أم الفحم متزوج وله أسرة وبيت معروف في مدينته “أم الفحم” وبالمقابل له زوجة أخرى وبيت آخر في مدينة أخرى أو دولة أخرى لا أحد يعلم به من أهله ولكنّ هذه الزوجة الثانية في بلدتها وعند أهلها معروف أنّها متزوجة من هذا الشخص اسمه وهويته ومحل اقامته محددة ومعروفة لديهم أيضاً، وهذه الصّورة يقال لها زواج سريّ في المصطلح العرفي ولكنّه في الاصطلاح الشّرعي لا يعتبر سرياً، وذلك بسبب ذيوعه وانتشاره في مجتمع الزّوجة.
الصّورة الثانية: أن يكون الزّواج بالسّر عن مجتمع وأهل الزوج وبالسّر أيضاً عن مجتمع الزّوجة بحيث لا يدري فيه إلاّ طائفة قليلة من أهلها المقربين كأبيها وأخوتها والشهود الذّين حضروا العقد، وهذا أيضاً يسمّى بالزّواج السّري في الاصطلاح العرفي ولكنّه ليس مطابقاً بالتمام لصورة الزّواج السّري التي عرّفها الفقهاء في كتبهم بالتمام.
الصّورة الثالثة: أن يكون الزّواج بالسّر عن مجتمع وأهل الزّوج وبالسّر أيضاً عن مجتمع الزّوجة بحيث لا يعلم فيه إلاّ الزوجان والشهود وفي هذه الصّورة قد يكون الزّواج بعلم الوليّ وقد لا يكون بعلمه، وهذا هو الزّواج السّري المطابق لتعريف الفقهاء قديماً.
بصفتكم تؤكّدون دائماً على مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد وأهميته الشّرعية في مقالاتكم وفتاويكم وخطبكم، فهل ترى هذا الزّواج بصوره الثلاث التّي سبق وبينتها ينسجم مع هذا المبدأ الشّرعي المعتبر؟
لا شك أنّ هذا الزّواج له مفاسد وتبعات وآثار سلبية تتنافى مع المقاصد الشّرعية السّامية القائمة على مبدأ الموازنة بين المصّالح والمفاسد المترتبة على مجمل التصّرفات والأحكام المتعلقة بالمكلّفين، ولكنّ هذه المفاسد تتفاوت من صورة لأخرى من صور الزّواج السّري وذلك بحسب ترتيب الصّور التّي بينتها لكم في السؤال السّابق، فأشدّها مفسدة هي الصورة الثالثة الأخيرة حيث يكون الزّواج بالخفاء عن مجتمع الزّوج والزّوجة وأوليائها ثمّ يليها مفسدة حيث يكون بالسّر والخفاء عن مجتمع الزّوج والزّوجة ولكن بعلم وليها ثمّ يليها مفسدة حيث يكون بالخفاء عن مجتمع الزّوج دون الزّوجة، وهكذا كلّما كانت صورة الظّهور أجلى وأوضح كلّما كانت المفسدة أخف.
بعض النّاس لا يسلّم لمبدأ المصالح والمفاسد المناطة بالأحكام بدعوى أنّ المصالح والمفاسد أمر اجتهادي يختلف باختلاف الرؤى والأنظار فهل في القرآن الكريم أو السّنة النّبوية شواهد وأدلة كتأصيل شرعي على ما بيّنت من اعتبار السّرية في الزّواج مفسدة؟
بالطبع هنالك أدلة عديدة من الكتاب والسّنة على اعتبار واعتماد مبدأ المصالح والمفاسد بشكل عام وعلى وجه الخصوص بما يتعلق هذه الظّاهرة التّي نحن بصدد الحديث عنها.
فالمتدبّر للقرآن الكريم والسنة النّبوية يجد أدلة كثيرة على اعتماد واعتبار مبدأ الموازنة بين المصّالح والمفاسد في تشريع الأحكام وتصرفات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأفعاله، ولعلّنا نخصّص في الأيام القادمة تقريراً خاصاً عن مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد في الاسلام وضرورته على وجه الخصوص في هذه الأيام سواءً على مستوى الفرد أم على مستوى البيت والأسرة والمجتمع والجماعة أم على مستوى الخطاب الدّيني أم السياسي، ولكن الذّي يهمنا في هذه المقام التأصيل الشرعي كما هو في السؤال لاعتبار الزواج السّري بوابة للمفاسد الاجتماعية التّي يكون ضحيتها المرأة في الدّرجة الأولى.
جاء في صحيح البخاري عن صفية بنت حيي أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب – أي تخرج – فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلّم على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي) فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكَبُر عليهما – أي كبُر عليهما أن يدخل لقلوبهما شيء كسوء ظنّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (“إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً”.
فانظر: كيف احتاط النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لسمعته وسمعة زوجه كي لا يساء فيه الظنّ مع أنّه فوق كلّ تهمة صلّى الله عليه وسلّم ومعصوم من كل معصية بل ومكره بل وخلاف الأولى.
فإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد احتاط لسمعته وأراد أن يدفع التّهمة وسوء الظنّ من قلوب أصحابه الذّين ما كانوا ليشكوا فيه أبدا، فكم بالحري أن تحتاط الفتاة لنفسها وسمعتها وعرضها، فكيف ستكون نظرة المجتمع لفتاة معقود عليها بالسّر تخرج مع رجل أجنبي بالخفاء ويدخل عليها بالخفاء وقد ينجب منها ويظهر علامات ومظاهر الحمل عليها!! فالفتاة في هذا الحالة قد وضعت نفسها موضع التّهم والرّيب التّي أمرنا بأن ننأى بأنفسنا عنها.
ولهذا ورد في حديث اسناده حسن عن رسول الله “فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف والصوت في النكاح”
فالشريعة الاسلامية حينما شرعت إعلان النكاح، إنما شرعته لأنها تهدف من ورائه لحكم غاية في السمو، وأهداف لا يمكن لتشريع من التشريعات بلوغها، فمنها مثلاً أن هذا الإعلان يبعث رسالة مباشرة للفتاة التي سيدخل بها في تلك الليلة، ولكل فتاة تأمل في النكاح: إنك أيتها الفتاة حينما تسلمين عرضك لرجل أجنبي عنك، فإنما تسلمينه وسط هالة من المهابة، والإجلال، وكأنّ الشرع الكريم يقول لها: احذري أن تمنحي عرضك وجسدك، الذي يعتبر أغلى ما تملكين بعد دينك لأحد إلا في عقد شرعي يباركه وليك وذووك، ويشهد عليه هذا الجمع المبارك وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مقدار ما أولته الشريعة لصيانة الأعراض من ناحية كما ويدلّ على المكانة التي أعطاها الاسلام للمرأة، فليست المرأة في النظرة الشّرعية مجرد محل لنزوة حيوانية.
ثمّ إنّ العاقل يتعظ بغيره والشقي يتعظ بنفسه: فهنالك نموذج حيّ قد جرّب ويلات ومضآرّ هذا الزّواج وما زال يتجرّع مفاسده وهي جمهورية مصر العربية فهنالك احصائية صادرة عن وزارة التضامن الاجتماعي في جمهورية مصر هي صادمة بكل المقاييس! تؤكد أنّ هناك 552 ألف حالة زواج عرفي أو سري والكارثة أن هذا الزواج أثمر عن انجاب 41 ألف طفل مجهولي النسب ناتج عن تلك الزيجات غير الموثقة!
بخصوص الزّواج بدون علم الولي وهو أشد حالات الزّواج السّري مفاسد كما ذكرت، هل هنالك أدلة شرعية تحرّم ذلك، لأنّ البعض يقول الولاية فقط على البكر ولكن الثيّب هي ولية نفسها، فما رأي فضيلتكم؟
الدّكتور مشهور: بالطبع هنالك أدلة صريحة تحذّر تحذيراً شديداً من الزّواج بدون وليّ دون تفريق بين بكر وثيب، منها ما رواه أبو داود في سننه والترمذي في جامعه والامام أحمد في مسنده وغيرهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم: “لا نكاح إلا بولي”، وفي بعض ألفاظ الحديث: “أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل”. وهذا ما عليه جماهير أهل العلم، ولكن ليس معنى اشتراط الولاية أنّ الفتاة لا تستشار ولا تستأذن بنكاح من تقدم إليها وكذلك ليس لوليها ولو كان أباً أن يجبرها على الزّواج بمن لا تريد.
وقد أحسن أصحاب الفضيلة قضاة المحاكم الشّرعية باتخاذهم قرار بمنع المأذونين من اجراء عقد زواج دون الاطمئنان من موافقة الوليّ ورضاه وفي حالة اقدام بعضهم على عقد زواج دون معرفة رأي ولي الفتاة من هذا الزّواج فإنّ القاضي يسحب منه دفتر عقد النّكاح.
ما هي الأسباب الدّافعة إلى مثل هذا الزّواج؟
في الحقيقة هنالك أسباب عديدة تقف وراء تنامي هذه الظّاهرة، أبرزها:
1.خشية الرّجل من اطلاع زوجته الأولى على أنّه متزوج من أخرى لأنّه يعلم أنّها إن علمت قد يترتب على ذلك مشاكل من الممكن أن تصل إلى الطلاق.
2.تعسّف بعض الآباء وأولياء الأمر باستعمال حق الولاية على الفتاة بحيث يمنعونها من التزوج بمن تريد ممّا يضطرها إلى الزّواج من هذا الشخص بالسّر، وهذا وإن لم يكن مبرراً لها ولكن تعسف الوليّ كان الدّافع الأول لمثل ذلك، ولعلّنا نخصّص في تقرير قادم حول اكراه الفتاة على الزّواج بمن لا تريد أو منعها ممّن تريد.
3.كون المرأة تعيش بظروف اجتماعية خاصة كأن تكون مطلقة أو أرملة ومعروف أنّ مجتمعنا ينظر إلى الزواج من الأرملة والمطلقة بنظرة ظالمة جائرة ومن المؤسف أنّ الأكثر تشدداً وتطرفاً في هذا الأمر هي النّساء، مع أنّها هي أو ابنتها أو أختها قد تكون عرضة لئن توضع في هذا الموقف، ممّا يضطر المرأة في هذه الحالة من باب ايش اللّي جبرك على المر؟ قال: الأمر منه، أن تقبل بهذه الزّيجة السّرية طامعة بالستر أو الكفالة المعيشية ولكن سرعان ما تكتشف أنّها قد استغلت في هذا الزّواج وتسرعت باتخاذ القرار، فكل ما بني على أساس غير سليم لا يكون حلاً بحال من الأحوال لأنّه سرعان ما يهوي وينهار والضّرر سيكون مضاعفاً، لأنّه قد يترك في احشائها جنيناً ويتنكر لهذه المرأة ولمن بأحشائها بل قد تنجب ويتنكر لهذا المولود وبذلك تزداد الأمور سوءا وتتفاقم.
بالمثال يتضح المقال، لا بدّ أن عرضت عليكم من خلال عملكم في الافتاء حالات عديدة ذات صلة بهذه الظّاهرة فهل يمكن أن تحدثنا عن بعض حالات الزّواج السّري وما ترتب عليها من مفاسد؟
اذكر بعض الحالات المؤلمة المترتبة على هذا الزّواج على سبيل الاختصار:
1.هنالك حالة من الحالات حيث كان شخص متزوج من امرأة بالسّر، ولم يكن أحد من أهل الزوج يعلم، وشاء الله تعالى أن يتوفى هذا الزوج وزوجته الثانية وأبناؤهم ولم يبق إلاّ رضيع من آثار هذه الزواج، والأشدّ من ذلك أنّ الزوجة مسجلة في الدّوائر الرّسمية أنّها غير مسلمة، ومعلوم أنّ الولد يتبع في هذه الحالة من النّاحية الشّرعية للأب المسلم، ولكن من النّاحية القانونية الأمر يختلف وممّا زاد الأمر تعقيداً أنّ أهل المرأة المتوفاة التي يقال أنّها كانت قد اعتنقت الاسلام قاموا بالمطالبة بحضانة هذا الطفل، ناهيك عن الصّدمة النّفسية التي أصابت أهل المتوفى وسوء كلام النّاس وظنّهم ونحو ذلك.
2.هنالك حالات عديدة تنكر الزوج لهذا الزّواج ولم يكن لدى المرأة امكانية لاثباته لعدم معرفة الشّهود فهي لا تعرف نفسها إلى الآن هل هي مطلقة أم متزوجة؟!
3.هنالك حالات عديدة كادت تؤدّي إلى سفك دماء وقتل سواءً للمرأة أو الرّجل وذلك من طرف أولياء المرأة، لأنّ كلاً من المرأة والرّجل على حدّ سواء قد وضعا أنفسهما في مواطن الرّيب في هذه النّكاح المذموم.
4. هنالك شائعة عند بعض النّاس أنّه يجوز أن يقول للرجل للمرأة نحن زوجان على عهد الله ورسوله والله شهيد علينا، وهذا فضلاً عن أنّه زواج باطل بالاجماع بل وزنا محرم شرعاً فإنّه بالوقت نفسه ترفضه الفطرة والطباع السّليمة ولكن للأسف هنالك من يقنع نفسه بحلّ ذلك ويسمح لنفسه أن يتسلى على حساب الشرع، فإذا ما ملّ الرّجل من المرأة وبالتأكيد سيملّ لأنّها نزوة عابرة سرعان ما تزول، فإنّه يتنكر لها بل وينكر لعلاقته معها على الرّغم من أنّها محرّمة!!
كلمة أخيرة توجهها لكل من الرّجال والنّساء والآباء والأمهات وأولياء الأمور بخصوص هذه الظّاهرة؟
أقول لكل من تحدثه نفسه بهذا الزّواج وعلى وجه الخصوص الفتيات.
1.إنّ الزواج القائم على السّر والكتمان لا يُمكن أن يكون هو الزواج الشرعي الذي امْتَنَّ الله به على عباده، وجعله سَكَنًا ومودةً ورحمةً! لا يمكن أن يكون هو الزواج الذي يُكوّن الأُسَرَ، ويحفظ الأنساب، ويُنشئ علاقة المُصاهرة بين الناس.
2.مَن يُقْدِم على هذا الزّواج من الرجال، إنّما أقدم عليه لنزوة عابره لقضاء الوَطَر، ثم يتركها إلى غيرها، وهكذا، وقديماً قيل:”اللّي أجا بالسّاهل بروح بالسّاهل، واللي سهلت عليه الجيزة بسهل عليه الطّلاق “.
هذا وأوصي الآباء وأولياء الأمور بعدم التعسف والاستبداد بحق الولاية وعدم اكراه الفتاة خصوصاً الأرامل على الزّواج بمن لا تريد او منعها ممّن تريد طالما أنّ الشاب كفؤ وصاحب دين وخلق.
ولا بدّ من حملات توعية وتحذير من هذا الزّواج السّري وهذه مهمة النساء أنفسهنّ لأنّ الضحية الأولى هي المرأة من وراء هذا الزّواج!!