من روافد البناء.. في سورة الفيل
تاريخ النشر: 09/03/15 | 10:21يبدو من حصيلة ما يعطي المعلم القرآني في سورة “الفيل” على هدي التتبع لجزيئات الرحلة التي قادها أبرهة الأشرم، وما كان من المقدمات التي كانت في جانب، والنتائج التي كانت كما شاء الله أن تكون في جانب.. أن مما يوقع في بحران التيه عن الحقيقة، ويسلم إلى التشتت في الحكم على الواقعة التاريخية، والإفادة منها – على ساحة البناء – عند رصد الوقائع وما تخلف من آثار، ويحول دون تنمية القدرة على تجاوز الصعاب: أن تفسَّر الوقائع بعيداً عن ضوابط العقيدة التي فجَّرت طاقات الإنسان في الإسلام، ودفعت به إلى خضم الحياة طاقة بناءة – بإذن الله – على كل صعيد وفي كل ميدان.
وكذلك مما يجعلنا نضرب في حديد بارد، ونسلك الطريق التي تعود على ما نريد بالنقض عند مواجهة الوقائع والتعامل معها من زاوية تفسير التاريخ: أن تعلَّل الأحداث في غفلة من سنن الله الماضية في خلقه – وما أكثر الأمثلة على ذلك – وهي سنن لا تتبدّل ولا تتحوَّل في ربطها بين المسببات والأسباب، والكليات والجزئيات، ربطاً محكماً يجري – في نطاق القضاء والقدر – دالاً على قدرة الله وعلى المحيط وحكمته البالغة فيما كان وما يكون..
فهو عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء، المهيمن العمليم بذات الصدور، القادر القهّار الفعّال لما يريد.. وهذا لا يعني إهمال الأخذ بالأسباب التي هي من سننه الماضية سبحانه.
وانظر إلى قوله تباركت أسماؤه: (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) (ألَمْ يَجْعَل كَيْدَهُمْ) (وَأرْسَلَ عَلَيْهُمْ).
ومن وجهة النظر التي تنسجم مع طريقة التفكير الإسلامية التي عمادها أنّ النص متبوع ونحن تابعون، وأن من وظائف العقل أن يفهم النص، ويجتهد فيما لا نص فيه.. أقول: من هذه الوجهة: إذا روعي ما سبقت الإيماءة إليه: فقد وضعت الأمور مواضعها، وضمنت الإفادة من ارتباط حلقات التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً – بإذن الله تعالى – ووجدت الأُمّة ذاتها، فنظرت بأعينها هي، وحكمت على الوقائع من خلال منهجها الذاتي المتميز، ولم تنظر بعيون الآخرين لترى ما يرغبون أن يُرى، ولم تستبعد المنهج الفكري الذي لا يمت إلى وجودها الذاتي بصلة.
فأين الظلمات من النور؟ وأين الكفر من الإيمان؟
إنّه لم يكن عبثاً من العبث – ولله الحكمة البالغة وله المثل الأعلى – أن يتنزل بواقعة التبييت الخاسر الماكر للبيت العتيق، وما حصل من ردّ الطغاة على أعقابهم خاسرين: قرآنٌ يتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها وللتالي بكل حرف عشر حسنات، وأحكمت له سورة قائمة برأسها هي “سورة الفيل” وأن تكون على قلة آياتها ووجازة كلماتها إعلاناً في العالمين يتجاوز حدود الزمان والمكان يزخر بانتصار التوحيد على الكفر والضلال، وغيرة الله على بيته العتيق بإهلاك الذين دبَّروا وبيتوا، شر هلَكة وإخزائهم أمام الناس والتاريخ!!.
ذلك بأن تفسير هذه الواقعة، والإحاطة بأسبابها وما صحبها من الإعداد، ووليها من النتائج..، من قبل الفئة المؤمنة – مهما تباعد الزمان – على النهج الذي يتضح من خلال ما حصل من غيرة الله جلّ جلاله على بيته – مع تذكير قريش بها، كيما تتحول إلى ساحة الحق –: رافد من أعظم الروافد المنتجة على طريق الأُمّة، في أن تكون حصيلة تفسيرها لتاريخها، وحكمها على تاريخ من قبلها: طلباً للعبرة والانتفاع في ضوء الهدي القرآني، حين أشرقت بذلك معالمه، والمسلمون يصارعون الباطل وأهله، ويعملون على إرساء قواعد البناء المنشود، وتنمية الحس الداخلي بطبيعة الواقعة التي تلقيها على طريقها الأيام – وما أكثر ما تلد الليالي من وقائع – وما هي نسبتها من الرسالة التي يعمل تحت لوائها العاملون!
من أجل هذا: كان الإلحاح على أن تكون الأُمّة على الاحتفاظ بقوة الذاكرة، فلا تُثقَب ولا يُهْمل ما تحمله في طياتها، وعلى أن يكون التعامل مع آثار ما حصل في التاريخ وما يحصل: في ضوء عقيدة التوحيد، وسنن الله الماضية، والوفاء بعقوده التي عقدها كل مسلم ومسلمة على نفسه مع الله، مصحوباً ذلك كله بحسن النظر في العاقبة التي آل إليها المحسنون، والعاقبة التي آل إليها المسيئون.
ومن أجل هذا: كان من نافلة القول التذكيرُ بأنّ ذلك كله مدعاةٌ – بتوفيق الله – لإحكام العمل، وسلامة البناء، وحافزٌ لإنماء الكفاءات القادرة على استيعاب وقائع التاريخ، فهماً وسلامة نهج في الاعتبار، بحيث يجتنب الخطأ، ويلتزم الصواب، في تبيُّنٍ واع وتام للعوامل التي من أجلها كان الخطأ خطأ، وكان الصواب صواباً؛ الأمر الذي يحول دون الأُمّة – وهي تواجه مسؤولياتها على الصعيد الداخلي، والصعيد الخارجي في أداء رسالتها للعالمين – ودون الغفلة عن أبعاد التحدي الذي يحمله الواقع وما فيه ومن فيه، وما يجب من العمل – بعلم وحكمة – على طرح الركام، وإزالة العقبات قدر المستطاع، كيما تديل للحق من أهل الباطل العادين على الأرض، والثروة، والفكر، والأخلاق، والمقدسات.
مرّة أخرى: إنّ الوقفة المتأنية المتدبرة عند الذي كشفت عنه سورة الفيل – وأمثال ذلك كثيرة في القرآن الكريم – وأن ما حصل عند انعدام الأسباب الأرضية مما تحدثت عنه السورة وأخبرت عن وقوعه: كان بقدرة الله وحده.
أقول: إنّ هذه الوقفة المباركة البنَّاءة كفيلة أن تمدّنا – بعون الله – على طريق تحصيل الوعي، ومواجهة التحدي المتجدد بلا انقطاع: بالكثير من العطاء، والحصانة من الغفلة وفقدان الذاكرة وأن تمدنا بنور من نور الله، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور/ 40).