استعمال واستغلال العام في الخاص…
تاريخ النشر: 12/03/11 | 4:16بقلم يوسف جمل
لقد تداخلت الأمور في ما بينها وضاعت حدود كثيرة وصرنا لا نولي أهمية إلى جانب مهم في حياتنا اليومية , هذا الجانب هو الخشية والحذر والاحتراز في العام وتجنب استعماله للخاص واستغلاله للمنفعة الخاصة ولخدمة مصالحنا الخاصة .
رحم الله الخليفة عمر بن عبد العزيز ورضي الله عنه , الذي كان يطفىء السراج إذا كان إشعاله لأمر يخصه ولا يخص عامة المسلمين حتى لا يهدر مال بيت المسلمين … وحسبنا الله ونعم الوكيل .
بينما نتعامل مع هذه الأمور في جوانب حياتنا بنوع من اللامبالاة والاستخفاف وعلى سبيل التصغير والتقليل من أهميتها والنظر إليها باعتبارها من اللمم أو البسيط من القيمة وربما منا من يبحث ويجد لها شرعية أمام البشر بتوفير العلة والأعذار .
وقد قال الله تعالى :- (وتحسبونه هيِّناً وهو عند اللهِ عظيمٌ). (النور: 15)
هذا الموظف المؤتمن على شيء من المال العام قد تصل به الأمور إلى التصرف من منطلق وظيفته ومركزه بشكل يحوِّل فيه مسؤوليته عنه إلى ملكية فردية يتصرف بها وفيها وكأنها ملك خاص ورثه عن الآباء والأجداد وكما يحلو له وهو لا يدرك ولا يعي خطورة ذلك بل عظم خطورة ذلك .
هذا الزاهد العابد الذي يحرص في القدوم إلى المسجد لينعم بالراحة في بيت الراحة وفي الوضوء واستعمال مرفقات المسجد لراحته وبقصد تحاشي استغلال مرافق بيته طمعاً بالتوفير واستسهال العام لخدمته هذا ناهيك عن عدم الحرص عليه والاهتمام به وبنظافته من منطلق أنه ليس له ولا ضير في تركه بعد الانتهاء من استعماله بشكل يدعو إلى الإزعاج والضيق والقلق فهو مال عام لا يحاسبه فيه وعليه أحد .
هذا المواطن الذي يعبث بالأملاك العامة من مجالات الخدمة كخطوط الهاتف وشبكة المياه وأعمدة وخطوط ومصابيح الكهرباء والمجاري والملاعب والقاعات والمؤسسات العامة كالمدارس والنوادي والمراكز ولا يرى في ذلك حرجاً .
هذا الإنسان الذي لا يتوانى عن إلحاق الضرر بالشوارع والأرصفة وصناديق القمامة وحتى في الأملاك الخاصة بغيره وإنما يفعل ذلك على سبيل الاستحسان والاستهانة بأهمية وضرورة ووظيفة كل من هذه الأمور وتعامله معها يكون وفق معيار واحد : أن هذه ليست لي !
هذا الشاب الذي يتجول في شوارع القرية يوزع الأذى على الناس بسياقته المزعجة أو بالأصوات التي تنبعث من سيارته متجاهلا بل متعمداً يتعدى فيها بحريته الخاصة وسلوكياته الغير مبررة على الحق العام والحرية العامة وحرمة البيوت والسكان .
هذا العامل في أي مرفق من مرافق الحياة والذي يتهاون في عملة وإتقانه له ويتحايل على متطلبات العمل لكي لا يعمل ولا يؤدي دوره كما هو مطلوب منه ويتعامل مع الممتلكات والأدوات والمواد بالإهمال وعدم الحرص والاهتمام بها كأمانة في عنقه فهو يستغل العام في الخاص ولو أن الخاص هنا يندرج في باب الكسل والغش والخيانة والسرقة فتأخره عن ساعات دوامه وهروبه من عمله بشتى الحجج والذرائع وعدم إتقانه لعمله لا تعود عليه بشيء للخاص إلا بالسيئ من العمل والكثير من الإثم والسيئات .
هذا الطالب الذي يتعامل مع محتويات المدرسة من أثاث وأجهزة وأدوات ومبنى ومنشئات ويعيث فيها فساداً وخراباً بل تراه يتلذذ في ذلك وذلك باعتبارها ملك عام وتفريغاً لنقمته عليها بدلاً من تقديره وحرصه عليها بكونها التي حوته بين جنبيها عدة سنوات .
هذا الأعمى الأصم الأبكم الذي يرى كل ذلك ولا يحرك ساكناً إن لم يكن مشجعاً أو سبباً ودافعاً إلى ذلك ويدعي أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر بقلبه بينما تراه يقيم الدنيا ويقعدها لو أصاب ملكاً له ضرر لا يكاد يذكر .
وصور أخرى كثيرة نقف فيها على مدى التهاون في العام واستعماله أو استغلاله كما يحلو لنا وبموجب ما نراه مناسباً أو ما يصب في مصلحتنا الخاصة الشخصية .
لكن هذا لا يعني بمطلق عدم جواز استعمال العام في الخاص من الأمور .
فيجوز ويحق لنا استعمال مرافق المؤسسة بما يندرج تحت باب متطلبات الوظيفة كالجلوس على الكرسي وشرب الماء والاغتسال والوضوء واستعمال الكهرباء والمكيف والدرج الكهربائي أو المصعد والمراحيض والأجهزة والمعدات والكتب والمصادر التعليمية وأجهزة الاتصال كالهاتف والحاسوب والانترنت وأجهزة التصوير والنسخ والميزانيات , لكن كل ذلك يكون في ما يصب في مصلحة العام أو في نجاعة العام ونجاحه وتقدمه وتطوره , لا أن يكون الغاية منه الفائدة الخاصة والمتعة الخاصة التي لا تسهم في أداء الدور والوظيفة على الجانب الصحيح والمفيد , أو التي يمكن أن يؤدى الدور بشكل سليم بدون استهلاكها واستنزافها والتبذير فيها لا لحاجة إلا لأنه لا يتكلف بها شيئاً من (خاصِّهِ) وليس إلا لأنه لا يحاسبه فيها وعليها أحد ٌوهو المؤتمن عليها.
ويمكن أن نستعمل العام في الجانب الخاص في مجالات عديدة والتي تعود بالفائدة على الإنسان بشكل خاص ومردود له منها كالاعتكاف في المسجد والتلاوة والقراءة في الكتب والمصادر العامة فتجلب للخاص الأجر والثواب له ولذاته , فهو يستطيع استعمال العام في سبيل تحصيل العلم والأجر والثواب له نفسه وبشكل خاص أو لسائر المسلمين .
ويستعمل المغتسل والنعش وأرض الوقف في الدفن في القبور من العام للخاص ولا يستعملها لغرض له في الانتفاع لدنياه بمكسب أو ربح أو امتلاك .
كما يستعمل الطريق والنهر والبحر والكلأ والبئر والسبيل من شجر أو حجر أو ماء لخاصته بدون إفراط ولا إسراف ولا إزعاج ولا أثرة دون إيثار ولا تسلط ولا احتكار .
إن الاستهتار والاستخفاف والجرأة بل الوقاحة في استغلال واستعمال العام أو إلحاق الأذى به أو سلبه ونهبه وكذلك السكوت عليه وعدم الدفاع عنه وحمايته يجعل الحياة مشاعاً وغابة والغلبة فيها تكون للأقوى وللأسرع وللأذكى وللأقدر على ذلك .
والعجيب الغريب أننا لا نتوانى عن ذلك ولا نعير هذه الأمور الاهتمام اللازم وهو ما كان في الأصل إلا ليسهل علينا ويخدمنا عامة الناس والأعجب من ذلك أننا نثور إذا ما استهان بنا غيرنا وعمل على سلبنا حقوقنا ومقدراتنا وأراضينا وتراثنا وعقولنا وفكرنا وأجيالنا القادمة ومستقبلنا ووجودنا بينما نحن الذين نقوم بنخر الخشب من داخله ونستنزف ونخرب بتهاوننا في قيامنا بأدوارنا بالشكل المفروض والمطلوب وبتعاملنا مع العام والمصلحة العامة والأملاك العامة بدون رادع ولا وازع ولا ضمير ورقيب ورأس الحكمة مخافة الله .