المرأة الزاهدة والأخبار الصادقة
تاريخ النشر: 28/11/12 | 6:19كانت سنوات الخمسين قاسيةً وشاحبة جداً ضياع الوطن، واحتلالٌ إسرائيليٌ جديد، ونهباً للأرض، وحكماً عسكرياً قاسياً من قبل اليهود وتجويعاً للناس، وبين الحين والآخر، يحدث قتلٌ ونفيٌ للوطنيين وسجنٌ، ومصادرة للأرض وظلم رهيب من المحتل، كنا نعيش في تلك الفترة كباقي شعبنا الفلسطيني، الذي بقي على أرض الوطن، متشبثاً به، بما استطاع من قوة، وعزيمةٍ ليحمي ما تبقى من أرضٍ ومسكن.
كان رحيل الجيش العراقي من قريتنا كفر قاسم في منتصف عام 1949م بعد أن شارك ضد اليهود في حرب 1948م مؤلماً جداً وكان يقود هذه الوحدات في منطقة كفر قاسم رأس العين ومجدل الصادق القائد العراقي عبد الكريم قاسم الرجل المقاتل بامتياز، فرحيله وجيشه المصمم على القتال كان لنا صدمة قاسية وخيبةَ أملٍ كبيرة لأهل المنطقة خاصة وللشعب الفلسطيني عامة، فترك رحيل الجيش العراقي هذا حسرة في قلوب الناس، لأنهم عقدوا عليه آمالاً كبيرةً في تحرير الأرض والوطن والنصر على المعتدين.
كان عبد الكريم قاسم صديقاً لوالدي بعد أن نشأت بينهم علاقةٌ أخوية نضالية، وكان عبد الكريم قاسم يقوم بزيارة الوالد، ويلتقيان كثيراً في منزلنا الكبير الذي كان يعتبر في ذلك الوقت ويسمى السرايا لوسعه، وكاد أن يكون أكبر منزل في القرية في حينه.
يقول الوالد رحمه الله، تعرفت على رجلٍ من أكثر الناس شهامةً ومروءةً ونخوةً وشجاعةً وشرفاً، لم أراه يوماً نظر لإمرأة، ولا لأمرٍ من أمور الدنيا، ولم يشغله شيءٍ سوى أمر القتال والنصر في المعارك.
ويستطرد الوالد في الحديث ويقول، وفي يومٍ استدعته القيادة في بغداد لأمرٍ طارئ وعاد بعد أيام، وكان يعتريه الغضب والألم، ولم يُفصِح عن ذلك صراحةً ولكن تبين من غضبه أن القيادة في بغداد أمرته بالانسحاب (وكان الأمر المشهور (ماكو أوامر)، وعند عودته وجد بيارة المختار لقرية كفر قاسم قد احتلها اليهود فزاده ذلك غضباً فأمر عساكره أن يستردوا البيارة قبل غروب الشمس، فبدأت المدفعية الثقيلة تدق البيارة، وقبل أن تغرب الشمس استعادها ورُفعت إشارات النصر بين الجنود، وبعدها هدأ روعهُ، وجاء للوالد لأن يستريح عنده قليلاً ليشرب الشاي وكان هذه المرة على عجلةٍ من أمره.
فقال يا نمر، لقد سَمعتَّ عن امرأة عجوز في قرية مسحة تقول أشياء لم يستطع العقل أن يستوعبها اسمها الشيخة عيشة أريد منك يا نمر أن تذهب وتستطلع الأمر وتأتيني بالخبر اليقين.
فيقول الوالد ابتسمت وقلتُ له أنت القائد!!! وكأني أقول له أتصدق مثل هذه الأمور!! فهز برأسه وكأنه يقول لي نعم!!
وفي اليوم التالي ركبتُ حصاني وتوجهت إلى قرية مسحة التي لا تبعد عن كفر قاسم أكثر من 8 كيلو مترات وصلتُ الدار وطرقت الباب بخفة وإذا بامرأة تردُ عليَّ، مَنِ الطارق؟ فقلت لها أبا أحمد (نمر).
فتحت الباب ورحبت بي أحسن ترحاب وقالت ما الذي أتى بك في هذه الساعة المبكرة، فقلت لها نريد شراء بعض الدجاج والبيض فتبسمت بوقار وقالت إنك لم تأتِ لهذا!! بل أتيت لأمرٍ آخر!!! أَسْتَأذِنُكَ لوقت قصير أريد أن أصلي صلاة الضحى وبعد أن تشرب الشاي نتحدث!!! وفرشت لي بفناء الدار حصيرة وجلست أنتظرها وأنا أقول بيني وبين نفسي ماذا تريد أن تقول هذه الشيخة، وأي أخبار ستخبرني بها، وبعدها أتت بالشاي وجلست أمامي وبدون مقدمات!!! قالت اسمع يا نمر قل للذي بعثك!!! ستخسرون الحرب!!! ويعودوا من حيث أتوا!!!
قل للذي بعثك!! ستعود إلى وطنك!! فتصبح زعيماً وتُقتَل!! ويُقتلُ من حولك إناسٌ كثر، سيخسر العرب هذه الحرب، وسيخسرون حروباً أخرى، قل للذي بعثك!! سيحتل اليهود كل فلسطين من البحر إلى النهر. وسوف تخسر مصر الكثير ويحلُ الشتات بأهل فلسطين!!!
قل للذي بعثك سيبني اليهود بيوتاً لهم على مرمى حجر من مكان جلوسك هذا يا نمر، وسيعود أهلُ فلسطين إلى وطنهم بعد غياب طويل، بعد أن يخوض العرب معارك طاحنة بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين اليهود.
قل له يا نمر مصر بعد خسارتها لن تدخل الحرب من البر ولكنها ستدخلها من البحر دون قتال.
قل له يا نمر إن المعركة الفاصلة بين اليهود والعرب سوريا سيدخل اليهود سوريا وبلاد الشام، حتى دمشق في حربٍ طاحنة وأن هذا الأمر واقعٌ لا محالة آجلاً أم عاجلاً فتكون دمشق وبلاد الشام مقبرة لهم، فينسى العربُ خلافاتهم ويهبون لنجدة سوريا من كل حدبٍ وَصوّب، ويتدخل الكبار وتزيد النار اشتعالاً وترى الدماء في كل مكان، الزاد قليلٌ والماء شحيحٌ ليصبح العمران أطلالاً.
أطفالٌ بلا راعٍ وأمهاتٌ يبحثنا عن أبناءهن وزوجاتٌ عن أزواجهن ليس فيه مكانٌ للإنسان أن يستريح.
قل للذي بعثك سيأتي الفرج من الشرق أصحاب العمائم السود والراياتُ السود هم أول من يدوس بأقدامهم أرض فلسطين وأولُ من يحملون رايات النصر.
أما ٍأنت يا نمر فهذه لك ستحفرون بئر ماءٍ ارتوازي ولن تهنئوا به سيجري الدم بجانب قنواته، وبالفعل هذا ما حصل، فقد حصلت مجزرة كفر قاسم 1956م.
ويستطرد الوالد ويقول كنت أصغي لهذه السيدة باهتمامٍ بالغٍ فأنهت حديثها معي وسلمت عليها وقفلت عائداً.
وجاءني عبد الكريم قاسم، في نفس اليوم مساءً وحدثته بكل ما سمعت فكان يصغي إليَّ باهتمام بالغ، فقال إن هذه السيدة تقول الكثير من الحقيقة، إن لم تكن الحقيقة بكاملها، وانصرف القائد بعدها، وكان آخر لقاءٍ بيننا ويروي ليَّ الوالد هذه القصة في سنوات الخمسين قبل مجزرة كفر قاسم بقليل وتأتي حربُ الرابع من حزيران 1967م التي سميت بحرب الأيام الستة، وبعد أن أعلن عن الحرب ونحن وكقرية تقع قريبة من الحدود الأردنية، فكانت هناك حركة عسكرية مكثفة فدخلت على والدي وكان يتناول غداءهُ فقال إلى أين؟ قلت له أريد أن أتابع الأحداث على شاشة التلفاز.
فقال لا تشغل بالك سيحتل اليهود كل فلسطين!! فكان جوابي ليس مؤدباً مع والدي (روح يا شيخ)!!! فصدق الوالد وخابت آمالي أنا، وبعد ستة أيام انتهى الأمر واحتلت كل فلسطين كاملة بالإضافة إلى هضبة الجولان كاملةً، وبعد أن هدأت الأوضاع قليلاً أردت أن أتيقن مما رواه لي أبي عن الشيخة عيشة، فتوجهت مع رفاقاً لي إلى قرية مسحة والتقينا مع الحجة عيشة في منزلها المتواضع، وروت لنا القصة الكاملة التي روتها إلى والدي في عام 1948م، بعدها أيقنت أن هذه السيدة الصادقة فيما تقول وتروي، وما ذكرته قد حصل كله ولم يبقى إلى الفصل الأخير فيما ذكرته وروته!! هذه الشيخة الصالحة.
قول الفصل:، سوريا الحبيبة وماذا سيحصل على أرضها من سفك للدماء وخرابٍ ودمار ولكن في النهاية سينتصر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، أي أننا نحن جميعاً في النهايات.
وأن ما يحصل في سوريا سيقرر مصير العالم بأسره وسيكون فيه القولُ الفصل (وفصل الخطاب) استعدوا فإن الطامة الكبرى آتيةٌ لا محالة وأن الصدام الدامي قادمٌ دون أدنى شك لقد ذكرت ذلك في كتابي (الصراع الأبدي) الذي صدر في عام 2007م، يومها جاءتني من بعض الناس ردوداً غير مصدقين مما رويت.
ولكنهم اليوم غيروا رأيهم وأني على يقين أن الشعب السوري هو الذي سيكتب التاريخ من جديد، وأن هزيمة الأشرار والمرتزقة واضحةً كالشمس في وسط النهار..
ولكن!! بعد نزيف من الدماء الزكية وخرابٍ ودمارٍ شديدين ستشرق الشمس من جديد وتعودُ الأمة إلى بدايات جديدة، ونصراً بعد عناء طويل، ولا ننسى مقولة اليهود “أن السيئ قادمٌ من الشمال بالنسبة لهم”.
اللهم إني قد بلغت فأشهد … والله ولي التوفيق
بقلم:الشيخ عبد الله نمر بدير