من وحي الربيع في قمم الكرمل!
تاريخ النشر: 02/12/12 | 4:01أسرة منتدى الحوار الثقافي في مركز التراث البادية عسفيا الكرمل استضافت كلّيّ الوقار سيادة المطران بطرس المعلم، للتحدّث عن كتابه “من وحي الربيع”، وذلك بتاريخ 27-11-2012، تزامنًا مع افتتاح معرض رسومات الفنانة ماري قعبور روحانا في مركز التراث، التي وافت الحضور بنبذة قصيرة عن مشوارها مع الرسم، ومرحلة توقفها الطويل بسبب الواجبات الأسرية، لتعاود مشوارها الفني من جديد، وتتابع الرسم وتطوبر ملكاتها وأدواتها الفنيّة من خلال متابعة متابعة التعلم والدراسة في مجال الرسم.
استهلّ اللقاء الأستاذ رشدي الماضي، ومن ثمّ تحيّة زجليّة خاصّة بالمطران من الزجال اللبنانيّ نجيب سجيم، ثمّ كلمة ترحيبيّة من السيد وجيه كيوف رئيس مجلس عسفيا، تلتها مداخلة نوعية لد. فهد أبو خضرة، وثمّ توطئة شخصية للأديب الإعلاميّ نايف خوري، وتلتها مداخلة خاصّة للمحامي علي رافع، وقد تخلّل المداخلات قراءات من نفس الكتاب قدّمتها سماهر نجّار، أعقبها تعقيبات الحضور، وكانت كلمة مسك الختام المبارك للمحتفى به كل الوقار سيادة المطران بطرس المعلم.
وفي كلمة ترحيبية ألقاها الشاعر رشدي الماضي جاء فيها: جاءني وحيُ ربيعك وحيًا يهتف مناديًا: أيّها البطرس، ها هي الروح القدس تبعث بـ الضاد إليك أمة ربّ مباركة، لتُقرئك فتُبشّرك أنّك “المعلّم” الكلمة التي تتجسّد في بطن الحوت كلمات مؤمنة، طوبى لها مُبشّرة بالأمل مستبشرة بالخير “دون أن تراه”. صحيحٌ أنّها ترفض عامدة متعمّدة أن تصارع التنّين كي تبقى عاصمة فاضلة لابنها الإنسان “ابن الانسان”، اذًا؛ ليس غريبًا عليها إذا تقمّصت مصباح ديوجين بوصلةً نورانيّة، واعتلت الصخرة تراقب متأنّية زماننا العربيّ الرديء، تراقبه وهي العارفة أنّ زيت قنديل إشراقه شحيح ونور مشكاته شاحب خافت!
نعم؛ أنت يا بطرسي ترى ألوان هكذا محنة دونما دهشة. لماذا؟ لأنّك تعي أنّ أبناء غسق “خطيئة التفاحة” لمّا يزالوا كُثرًا، تنخر بهم “شهوة” ظامئة للإثم، وبين جلجلة وجلجلة في محطة من محطات طريق الآلام نسمع الآب يناديك: أنا يا بُنيّ لم أتركهم أمس، ولن أتركهم في قابل الأيام!
وها هي سيدة الأيقونة قد غادرت “عشائي السرّيّ”، تحمل ربيعك أبجديّة من “وحي الروح” و”خشبة للخلاص”، خذهما أيّها “البطرس المعلّم” يدًا شافية ليصل إلى الأرض السلام وتهبط على الناس المسرّة. خذهما لأنّك واحدٌ من رُسُل الكلمة تلاميذ الآب الأوفياء. خذهما لتظلّ ضادُّكَ جرسًا يُقرع، وصلاةً تبتهل في حضرة الإله، تُقرع وتُصلّي صوتًا تعمّد وتناول ليصعدَ مُقدّسًا مُبارَكًا سلّمَ القيامة؛ سرَّ الديمومة والبقاء.
نعم يا معلّمي، وحيُ ربيعك هُدهدٌ في صحراء تضاريس زماننا العربيّ القاتم. هُدهد يحمل رسالتك الإنسانيّة “نهرًا” طاهرًا طهورًا، “الأرجل” عطشى تنتظر مَن يغسلها لتعود وتتجسّد إنسان العقيدة والإيمان، الذي يشعر حقًّا أنّه إنسان ابن انسان.
بطرس المعلم أيّها الثوب المقدّس، واصِل التعبّد في هيكل الكلمات. واصِل عظتك ليبقى صليبك هو هو “الفداء” على كتف الحقيقة فداء، يجعل “الراجمين” يُعيدون إلى “صخرتك” حجارتها كي تكمّل عمارة “بيت الله” محبّة ومَسرّة، قيامة وحياة!
وفي مداخلة د. فهد أبو خضرة حول فكرة تطوّر العقلانيّة وتاريخها جاء: العقلانيّة هي من تجلّيات الثقافة الأوروبيّة وابتكار غربيّ حديث، وذلك بعد النهضات والثورات والفتوحات التي شهدتها أوروبا منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر، وعصر الأنوار في القرن الثامن عشر، مرورًا بعصر الحداثة والثورة الصناعيّة في القرن العشرين، وصولاً إلى عصر ما بعد الحداثة والعولمة وثورة المعلومات في القرن الحادي والعشرين. الحداثة أبرزت مكانة العقل البشري بشكل لافت، وقد سُفِكت فيها دماء وأُحرقت كتب وصَدرت مراجع وأطروحات، لكن مسيرة التطوّر العقليّ ظلّت مستمرة لإعادة اعتبار الذات الإنسانيّة ومكانتها المتجدّدة، والاعتراف بالحرّيّة الذاتيّة للأفراد. ففي حين كان الخروج من استعمال للفكر مقيّدًا جدًّا إلى استعمال للفكر واسع حُرّ إلى حدّ ما، ولكن ظلّ في تلك الفترة خاضعًا للرقابة الدينيّة والزمنيّة، وإذا لم يحدث تعارض بين الفكر العقلانيّ والفكر الدينيّ أو فكر السلطات آنذاك فلم تكن هناك مشكلة، ولكن إذا حدث تعارض فهناك مشكلة كبيرة، وغالبًا هذا الفكر الحُرّ كان يتراجع.
استمرّ تطوّر الفكر العقلانيّ تحت السلطة الدينية أو الزمنيّة سنوات طويلة، وفي كلّ مرة كانت تحدث محاولات لتحرّرٍ أكبر، واستعمال التوجّه العقلانيّ بصورة حُرّة غير خاضع للمراقبة، ولم يحدث ذلك إلاّ في أواخر القرن التاسع عشر، وبالذات في سنة 1892 وهي بداية الحداثة في الفكر العالميّ المعاصر، ومن هناك انطلق الفكر حُرًّا حُرّيّة كاملة.
المشكلة أنّ هذه الحرّيّة اقتضت أن يكون الاتّجاه العقلانيّ اتّجاهًا إلحاديًّا، فاقترن التحرّر بالإلحاد والخروج عن الدين خروجًا كاملًا، وكان الأمر مقبولًا في كلّ أوروبا ولكن لفترة محدودة جدًّا، لأنّه خلال أقلّ من ثلاثين سنة تبيّن لهم أنّ هذا الاتّجاه هو اتّجاه غير مقبول، ولا يمكن أن يكون مفيدًا للعالم، فقد طوّروا الأسلحة ووسائل الدمار، ولكن لم يُطوّروا ما يفيد الإنسانيّة، ولم يستطع العقل وحده أن يحلّ مشاكل البشريّة، وبدأ التراجع عن هذا الاتّجاه، ولا زال الخلاف موجودًا في أوروبا حتى هذا اليوم.
نحن في العالم العربيّ تأثّرنا بالحداثة الغربيّة ابتداء من سنة 1910، عندما أقيمت الجامعة في مصر، وجاء المستشرقون وألقوْا محاضرات، وتطوّر هذا التأثير خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين من سنة 1930 حتى 1940، فكان الاتّجاه عقلانيًّا ولكن ليس مُلحدًا، إنّما حاول أن يجمع بين الدين والحرّيّة بحذر شديد، ويبدو أن قسمًا آخَر خاصّة من الأدباء تأثّروا بالاتّجاه الغربيّ أكثر، فكانوا يحاولون أن يتركوا الدين جانبًا، وحتى أن يُغيّبَ العقل أيضًا، أي تغييب للعقل والدين معًا. وما زال موجودًا بما يُسمّى الحداثة وما بعد الحداثة. اليوم العالم العربيّ في تساؤلات كثيرة: ما هو الاتّجاه؟ أي هل يمكن أن تكون الحداثة الغربية هي المُوجِّه لنا؟ معظم المفكّرين العرب يقولون لا، فما الذي نجده عند سيادة المطران بطرس المعلم في كتابه “من وحي الربيع”؟
نجد اتّجاهًا عقلانيًّا فيه خضوع للناحية الدينيّة، ولكن خضوع داخليّ أي رقابة داخليّة، ولا تقتضي الرقابة الذاتيّة دائمًا أن يكون الكاتب رجلَ دين، ويكفي أن يكون واعيًا ومسؤولًا فيما يكتب، كي يكون هذا الاتّجاه اتّجاهًا سليمًا، وهذا التوازن بين الاتّجاه العقلانيّ والرقابة الدينيّة الداخليّة هي التوجّه الصحيح والسليم إلى حداثة عربيّة سليمة، تجمع بين ما يُسمّونه الدين والعقل، والعلم والإيمان.
هذه نماذج ممتازة جدًّا بهذا التوجّه يمكن أن تُناقش، ليُستنتج منها فيما بعد التوجّه الصحيح المبنيّ على نفس هذا الأساس، وأنا أعتقد أنّ هذه الكتابات التي قدّمها لنا سيادة المطران بطرس المعلم، يمكن أن تكون نموذجًا جيّدًا جدًّا لهذا التوجه، وهو التوجّه الذي نبحث عنه اليوم لهذه الفترة الحرجة من تاريخنا، والربيع العربيّ الذي نتحدّث عنه أنا متفائل منه وقد بدأ، ومهما حدَث فإنّه سيمتدّ امتدادًا خيِّرًا إلى الأمام، لأنّ الزمان لا يعود إلى الوراء أبدًا، فوحيٌ من الربيع سيؤدّي إلى الربيع حتمًا مهما حدث من عراقيل، ونحن في بحثنا عن الربيع في الحداثة العربيّة، لا يمكن أن نأخذ الحداثة الغربية وحدها كنموذج، بل يجب أن تكون الحداثة نابعة منّا، وهذا الكتاب هو نموذج ناجح جدًّا للحداثة العقليّة الدينية.
وفي مداخلة المحامي علي مصطفى رافع: “هو، قبل كلّ ذلك وبعده وفوقه، هو إنسان” جاء:
يوم الخميس 2-2-2012 مساءً، اتّصل بي هاتفيًّا سيادة المطران بطرس المعلم، وأبلغني أنّه مسافر في اليوم التالي إلى لبنان للمشاركة في السينودس، وقال إنّه عازم على إصدار مقالاته الأخيرة، التي كتبها بعد صدور كتابه الأخير “من وحي الأحداث” في كتاب جديد، واختارني لأكتب مقدّمة للكتاب مع سيادة المطران بولس ماركوتسو، فلم أتردّد للحظة في قبول هذا التكليف، الذي أعتبره تشريفًا وليس تكليفًا فحسب. هذا التشريف جاء بعد أن توطّدت علاقتي مع هذا المطران الإنسان، الذي يمتاز بحُسن الخُلُق وطلاوة الحديث، والاطِّلاع الواسع على مختلف الثقافات والفنون، فهو محدِّثٌ لَبِقٌ موسوعيّ المعرفة، لا تملّ من الاستماع إليه في جميع المواضيع التي يطرقها أو يتطرّق إليها .
وكنت قد بدأت أتعرّف عليه من خلال لقاءاتنا في مؤتمراتِ “مركز اللقاء” في عدة أماكن من وطننا العزيز. وفي شباط 2011 شاركْنا سويّة في مؤتمر اللاهوت في دير مار إلياس في حيفا، وهناك أهداني كتابه الأخير “من وحي الأحداث”. سهرتُ تلك الليلة وقرأتُ الكتاب وكتبتُ عنه مراجَعةً تلوتُها في اليوم التالي على مسامع الحاضرين، الأمر الذي أثار إعجابَ المطران واستغرابه كيف قرأتُ الكتاب بصفحاته المئة والسبعين واستوعبتُه وكتبتُ عنه في ليلة واحدة. من هنا بدأت تتوطّد العلاقات فيما بيننا.
الكتاب الذي أقدّمه، مثل الكتب التي نشرها المطران المعلّم من قبل، يتضمّن مقالات في مناسبات عديدة، عاشها وعايشها شخصيًّا، وعلّق عليها بأسلوبه المنفرد والمميّز، مواكِبًا الأحداث في تسلسلها الزمنيّ. أمّا أنا فسأراجع بعضها وفقَ ترتيبٍ شخصيّ، عفويّ، أستوحيه من فكر المعلّم المهيمن على جميع المقالات، والذي يربط بينها كسِلكٍ ذهبيّ، فيه تندرج لآلئ هذا العقد الفريد..
وبدايةً، أشير إلى أنّ أكثر ما يعجبني في كتابات هذا المعلم، أنّه إذا كتب في موضوعٍ معيّن، واستشهد فيه بآياتٍ من الإنجيل المقدّس، فإنّه يستشهد أيضًا بآياتٍ مشابهةٍ من القرآن الكريم، إذا ورد في القرآنِ ذكرٌ للموضوع نفسه. وحسبُنا شاهدًا على ذلك ما ورد في مقالة “العالم يحترق ولكن…”، حيث الكلام على بشارة الملاك للسيّدة العذراء مريم، فيذكر النصوص الإنجيليّة والقرآنيّة في تَوازٍ رائع (لوقا 1: 26-28، 42/ آل عمران 42، لوقا 1: 29-32/ آل عمران 45؛ لوقا 1: 34-37/ آل عمران 47). ومن هذه المقاربة في النصوص يدعو سيادته إلى مزيدٍ من التقارب بين المسيحيّين والمسلمين، لا بل يدعوهم إلى جعل عيد البشارة المسيحيّ عيدًا دينيًّا مشتركًا، أسوةً بما فعل إخوانهم وجيرانهم في لبنان، الذين اتّفقوا وقرّروا جعل هذا العيد عيدًا وطنيًّا مشتركًا للجميع. وأنا شخصيًّا من محبّذي هذه الفكرة، بل قد عرضتُ أن نحتفل كلّنا معًا، مسيحيّين ومسلمين بعيد الميلاد المجيد، وبعيد المولد النبويّ الشريف. ولكن هذا يقتضي إعدادًا واستعدادًا يبدو أنّهما، لسوء الحظّ، غير متوفّرَيْن بعدُ عندنا إلى الآن.
السيّد المسيح عيسى ابن مريم يحتلّ كلّ كيانِ وفكرِ وقلبِ ووجدانِ المطران المعلّم. فالمسيح هو مِثاله وقدوته وأسوته الحسنة، يسير على خطاه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويقدّر كلّ كلمةٍ أو قولٍ أو عمل أو حركة قام بها السيّد المسيح. ويشعر القارئ بأنّ المطران إذا كتب عن المسيح، فإنّه يكتب بإجلال ومحبّة لا يوازيهما أي إجلال أو محبّة لأيّ شخص، وهذان؛ الإجلال والمحبّة ينسابان، كما في عدوى سريّة، من تحت قلم الكاتب إلى قلب القارئ. ففي المقال “نريد أن نرى يسوع” نرى الكثيرين يتلهّفون إلى رؤيته، حتّى اشتاقت أرواحنا نحن أيضًا ليسوع. وفي المقال “على مدار الساعة لليوم الأخير” يتأثّر مَن كان مثلي حتّى الأعماق، إذ يرافق يسوعَ في ليلته الأخيرة مع تلاميذه، حيث يغسل أقدامهم ليُعطيَ لهم ولنا وللإنسانيّة جمعاء درسًا عمليًّا في التواضع لا أسمى ولا أبلغ، ومحبّة المطران ليسوعه ليست مجرّد عاطفة سطحيّة، بل هي انتماءٌ والتزامٌ لا يتزعزعان، لأنّ هذا المسيح ليس كائنًا غيبيًّا متفرّجًا ينظر إلينا من بعيد، أو يحرِّك العالم بملقط. ففي عصرِ “الثورات” الحائرة أو المتذبذبة أو المتعثّرة يبقى، هو “المسيح الثائر”، (لا بالعنف والبطش وحقّ القوّة، بل بصلابة الحجّة وقوّة الحقّ) على كلّ ظلم واستبدادٍ وقهرٍ للحرّيّة والعدالة. وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الثورة الفريدة. الرئيسُ الشهيدُ الراحل ياسر عرفات، باسم شعبنا الفلسطينيّ كلّه، ألم يعتبرْ سيّدَنا يسوعَ المسيح الشهيدَ الفلسطينيّ الأوّل، الذي استشهد فعلاً وحقًّا، لتكون كلمةُ الله هي العليا، وكلمة أعداء الحقوق الإنسانيّة المشروعة هي السفلى؟
هذا “اليسوع”، الذي يمثّل للمطران أسمى القِيَم على الأرض، يبقى في الكتاب المنظارَ الذي من خلاله يرى المؤلّف باقي المواضيع أشخاصًا وأحداثًا. فـ “الصغيرة الكبيرة” القدّيسة تريزيا الطفل يسوع، التي زارت ذخائرُها بلادَنا على مدى شهريْن ونصف الشهر، هي القدّيسة التي تستحقّ المحاكاة والتأمّل، لِما فيها من إيمانٍ صادق عميق، لا يداخله أي شكّ أو انحراف. أمّا البابا يوحنّا بولس الثاني، الذي يُخصّص له المطران أربع مقالات في الكتاب، فهو وجهٌ من ألمع وجوه الإنسانيّة في العصور الحديثة، إذ كان أوّلَ من كسَرَ قيودَ العزلة خلف جدران الفاتيكان، فطاف العالم كلّه، وعاش آلامه وآماله وحمل إليه رسالة “المسيح الثائر”، فأجرى فيه الكثير من التحوّلات الجذريّة، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها. وقد كان للمطران المعلّم شرف الحظوة بصداقته الحميمة، ممّا قلَب منحى حياته.
ولأنّ المسيح، في نظر المطران المعلّم، يبقى هو المرجعيّة الأخيرة في كلّ شيء، فمن خلاله يتوجّه إلى المسيحيّين (المنقسمين على ما لا يعلمون)، في المقال “إلامَ الخُلْفُ بينكم إلامَ”، وفي المقال “عام جديد: خواطر وتأمّلات”، داعيًا إيّاهم إلى المحبّة والوحدة، ومستشهدًا في المقال “وأنت ماذا تقول؟” بقول المهاتماغاندي: خذوا مسيحيّاتكم كلّها واتركوا لنا المسيح، فلا أمل لنا إلاّ فيه. ومن سياق الكلام أنا أفهم أنّ الدعوة تتجاوز المسيحيّين إلى المسلمين أيضًا. فالطريق إلى الوحدة تبدأ بمحاسبة النفس وتغيير الذات قبل الطموح إلى تغيير الآخرين: “علينا جميعًا أن نتغيّر بالنصر الذي يؤتيناه الله…” (1 كورنثس 5: 51-57). أليس عندنا في القرآن “إنّ الله لا يغيّر ما يقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم” (الرعد 11).
غريبٌ شأن هذا المطران، فهو كمسيحه لم يأتِ لفئةٍ دون أخرى، بل لخدمة الإنسان وكلّ إنسان، وقبل أن يكون مطرانًا أو علمانيًّا، مسيحيًّا أو مسلمًا، درزيًّا أو يهوديًّا، فلسطينيًّا أو إسرائيليًّا، رجلاً أو امرأة… هو، قبل كلّ ذلك وبعده وفوقه، هو إنسان. ذاك هو تعريفه بنفسه في المقال: “إلى قرّائي الكرام”. ولذلك فهو في “الفضيل المبارك” يعايد المسلم في رمضانه، وفي “الأضحى والضحايا” يشارك كلّ متألّم مسحوق في ألمه. وفي “ويكيليكس والمغارة” كما في “كنيسة المهد إن حكَتْ” حديثٌ صامت بين المطران وقارئه، يُفهَم منه أنّ العيد ليس زينةً ومظاهر، يكون كلّ شيء فيها حاضرًا إلاّ صاحب العيد، أي وليدَ المغارة وكلّ فقير مهمّش مثله. فالمسيح يجب أن يكون في قلبِ وفكرِ ووجدانِ كلّ مؤمن، أي أنّ على المسيحيّ أن يكون مسيحًا حيًّا. أليس أنّ إسلامنا أيضًا يطلب من المؤمن أن يتّخذ الرسولَ قدوته؟
وهذا المطران، الذي يعيش بين شعبه، ويجسّ نبضه، ويشاركه آلامه وآماله، يرى في “موسم الزلازل” وفي “عيد الأقباط… وسينودس المسلمين” واجبَ التنبيه والتحذير من خطر الفتنة، التي أخذت تعصف حولنا باسم التطرّف والتعصّب الدينيّ المتزمّت. وإذ نحن نشارك سيادته هذا القلق والخوف من الخطر الداهم، نريد أن ندعو علماءَنا إلى تأييد سيادته في الدعوة إلى حريّة الفكر والتعبير والعبادة والضمير بجميع أشكالها. فكما عندنا سورة للمؤمنين فعندنا أخرى للكافرين، ومَن خالفنا في المعتقد فلكم دينكم ولي ديني، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن الشطط تسخير الدين للسياسة والسياسة للدين. وفي النهاية لا سلام يُرتجى ما لم تؤمَّن لكلّ إنسان حريّة ضميره واختياره.
وهناك في الكتاب مقالان على جانب كبير من الأهميّة. فـ “يوبيل اللقاء” وثيقةٌ ثمينة كتبها سيادته مؤخّرًا في اليوبيل الفضّي لمجلّة “اللقاء”. وأنا الذي عايش المجلّة منذ نشأتها، بل “مركزَ اللقاء” منذ تأسيسه قبلها، كم استفدتُ من هذا المقال في أمورٍ كثيرة كنتُ أجهلها!
أمّا “حنّا الفاخوري مع الخالدين” فأشبه بدائرةِ معارف عن هذا الكاهن الراهب، العملاقِ في شؤون اللغة والأدب والفلسفة العربيّة. كنّا لا نكاد نعرف عنه سوى أنّه صاحب “تاريخ الأدب العربي”، الذي قلّما تخرّج طالب في العالم العربيّ كلّه دون المرور به. وإذا نحن نكتشف في المقال أنّه خلَّف أكثر من مئة وأربعين كتابًا في خدمة العربيّة. فكم نحن له مدينون، وكم نحن في حقّ إكرامه مقصّرون! وكم نحن فخورون أنّ مطراننا المعلّم هو أحد تلاميذه، بل ساعده في بعض الكتب، وقد كانت له التعزية بحضور مأتمه في6-10-2011، (وكان قد توفّي في 4 منه عن 97 سنة).
وهل يمكن أن أنسى هنا المقال الأوّل من الكتاب “نعي المفاوضات” الذي كُتب في10-2-2010، ومقالاً آخر بعنوان “الربيع” والميلاد بتاريخ 23-12-2012 وبينهما سنة؟ إنّي لأعجب حقًّا من حدْس هذا المطران ومن ثاقب نظره ودقّة تحليله في مواكبة الأحداث. هل كان في المقال الأوّل يتنبّأ؟ هو لا يدّعي ذلك، ولكن تصويره “للربيع” في آخر السنة، هل جاء مخالفًا لِما كان توقّعه في أوّلها؟ يا ليت أرباب السياسة ومعلّقي وسائل الإعلام يقرؤون تلك السطور، فلَكَم كانوا يستفيدون ويُفيدون!
فيما كنت أقرأ هذا الكتاب للمطران، وأقرأ منه عن أستاذه حنّا الفاخوري، كانت ترتسم في ذهني أوّل كلمة في قرآننا الكريم “اِقرأ”. فأين اليوم في شعبنا وأمّتنا الذين يقرؤون لأمثالهما؟ ألا يصحّ فينا ما نسمعه مرارًا، وبحقّ، ومن كُتَّابنا أنفسهم: “أمّة “اِقرأ” لا تقرأ”؟ أمنيتي في نهاية هذه السطور أن يُقْبِلُ أبناؤنا وشبابنا على هذا الكتاب الثريّ وأمثالِه، فيتعلّموا فيه صفاء اللغة وإشراقها، مع رجاحة العقل وسداد التفكير، إلى جانب القيم الأخلاقيّة والروحيّة السامية. وأملنا أن لا يطول الوقت حتّى يُطلَّ علينا سيادة المطران المعلّم “المتقاعد، ولكن المِش قاعد”، أن يُطلّ علينا قريبًا بكتاب، بل بكتبٍ جديدة أخرى، لإثراء تراثنا الثقافيّ والإنسانيّ، فيزيدنا علمًا بما ينفعنا ونفعًا بما يعلّمنا، وأن يُرينا الحقّ حقًّا ويرزقنا اتّباعه، والشرّ شرًّا فيرزقنا اجتنابه.
وفي مداخلة نايف خوري جاء: سيقدّم الشاعر وهيب وهبة النسخة الأولى من كتابه الرباعية الكاملة من دار النعمان في لبنان، التي لم تصدر بعد، ولكن تم تصميمها خصّيصًا لهذا اللقاء، وذلك لأنّ المطران بطرس المعلم كان أوّل من قرأ كتاب “مفاتيح السماء” فأعطى الملاحظات والتصويبات وأثنى على الكتاب، وباركه ليتمّ طبعه في لبنان، وقد حاز كتاب السماء على جائزة نعمان بتوصية من المطران بطرس المعلم أثناء وجوده في بيروت.
ومن ثمّ كانت مداخلات للزملاء والزميلات، وقبل التقاط بعض الصور مع المحتفى به سيادة المطران بطرس المعلّم، قدّم شكره لجميع الحاضرين والقيّمين على هذه الأمسية الأدبية الخاصّة بكتابه “من وحي الربيع”.