السلام الميت والهُدَّن المتواصلة
تاريخ النشر: 02/12/12 | 6:12عندما قرر الغرب وعلى رأسهم بريطانيا الإمبراطورية، في سنوات العشرين، إقامة وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين، وذلك بإصدار قرار مِن قِبَل وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور عام 1917م، والذي كان بدايةً وأساساً للصراع العربي الإسرائيلي، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتقسيم المنطقة وهذه الغنيمة تركة الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا، وسُميت هذه الاتفاقية آنذاك (سايكس بيكو) ليبدأ الصراع الدموي منذ ذلك الحين، وسقوط عشرات الألوف من الضحايا والشهداء من المجاهدين العرب والفلسطينيين، الذين هبوا لتخليص وطنهم من الأعداء الجُدد، وعلى رأسهم الصهاينة، فكانت الهبة على جميع المستويات والصُعُد، هبةً صادقةً شارك فيها من كل شرائح الأمة سُنة ودروز ومسيحيين.
صحيح أن الهَبة كانت إرتجالية عفوية مع قليل من التنظيم، ليدخل في هذه الهبة المتعلم والأمي، فكانت خلطة، سَهُلَ على العدو اختراقها، واللعب على الطائفية والمذهبية والتقسيمات العرقية، إضافة إلى المال الذي أدى دوراً حاسماً في حسم الصراع في كل مراحله الذي كان يشتعل فيها الصراع.
لقد دخل شيءٌ جديد في هذا الصراع وهي السلطة الرابعة (الإعلام) ليُستَخدم للتضليل والكذب وقلب الحقائق، وخاصةً على المستوى العالمي والدولي، فَنَجَحَ ذلك عند الأعداء، ويعود ذلك إلى التخلف في الجانب العربي والفلسطيني في هذا المجال.
لقد صَوّر هذا الإعلام في مرحلة من مراحله العرب عند الغرب بِأَنَّ لهم أذناب وهم ليسوا بشراً بل شِبهَ حيوانات متعطشين لسفك الدماء ومتخلفين بشكلٍ لا يوصف!!
صحيح أن الحمية والنخوة والمروءة العربية ومعها الفلسطينية، في هكذا صراع، لم تكن تكفي لتكون عاملاً حاسماً فيه لأنَّ الطرف الآخر كان يملك من عوامل القوة أضعاف ما يملكه العرب وما زال!!.
وصحيحٌ أيضاً أن ما قام به المجاهدون في فلسطين والأقطارَ العربية، منذ عام 1920م كان بمعظمه صادق التوجه؛ نظيف المسار؛ ولكن كما ذكرت غياب الوعي الكافي لما يحدث من ضياعٍ للوطن، كان أيضاً سبباً آخر في فشل هذه النضالات؛ وتلك الهبات الصادقة للتصدي للغزاة الجُدُد، فكان سريعاً يتسَربُ اليأس إلى قلوب المجاهدين، فتخيرُ قواهم، ويزيد الوهن في قلوبهم.
وخاصة بعد أن تبين لهم لاحقاً أن هذه القوى المجاهدة كانت تُخترق من قبل العملاء الذين يعملون للصهاينة في داخلهم، وحتى وراء خطوطهم الخلفية وكانوا هؤلاء العملاء أحياناً يكونون من عَلِيةَ القومِ والقيادات، أمثال فخري النشاشيبي، وحسن شكري رئيس بلدية حيفا في سنوات الأربعين وغيرهم الكثير، ناهيك عن وجود أمراء وأنظمة عربية مرتبطين إرتباطاً وثيقاً مع حكومة صاحب القرار الملعون (وعد بلفور) الذي أدى إلى النهايات المؤلمة في كل مرحلة من مراحل الصراع الدموي الرهيب.
لقد اعتمد الصهاينة على نظرية أن الكبار يموتون وأن الصغار ينسون، فأثبت الشعب الفلسطيني خاصة والشعوب العربية عامةً، أن هذه النظرية فاشلة الرؤيا والمضمون!!
ولا بأس أن أذكر هنا أن أحد أسباب عدم نجاح الكفاح الفلسطيني، أن الغالبية العظمى من الذين كانوا يتطوعون للكفاح المسلح ضد الغزاة كانوا من الفقراء والمساكين وعَوام الناس.
ونادراً ما تجد أبناء الطبقة المتنفذة وميسورة الحال ينخرطون في الكفاح المسلح للدفاع عن الوطن، والموت فداءً لَهُ فكانت هذه الشريحة، تدفع المالُ لهؤلاء الفقراء والمعدومين، لأن يقوموا نيابة عنهم بالدفاع عن الوطن والحراسة وإبقاء أبناءهم في أحضانهم لكي لا يصيبهم أذى!!
وهذا أيضاً أحد العوامل المحبطة للمجاهدين الذين كانوا يرون في هؤلاء أصحاب المال والعقارات وميسورين الحال يتخلفون عن أقدس الأمور وهو الدفاع عن الوطن والعرض والكرامة ولكن حتى نكون منصفين أن البعض من هؤلاء دفعتهُ وطنيتهُ الصادقة أن يتجاوز ذلك وينخرط مع المجاهدين حتى وإن كان من ميسورين الحال، ومتنفذاً، ولكن للأسف هؤلاء كانوا قلة.
صحيح أن كل ثورة كانت تقوم في فلسطين، كانت بدايتها نظيفةً خالصة ولكن مع مرور الوقت كان يخترقها أوباش القوم المزروعين والخونة والذين باعوا دينهم بعرضٍ قليلٍ من الدنيا، من أجل تشويه صورة الثورة، وتغيير مسارها الشريف والحقيقي، لإظهار هذه الثورة وكأنها ثورة زعران ومارقين، فكانوا هؤلاء الأوباش يقومون بأعمال النهب والسلب والاغتصاب، والقتل المتعمد لبعض الناس، وكانت هذه الأعمال مخططٌ لها مسبقاً، من أجل أن يكره الناس والشعب الثورة، ونجحوا في ذلك، وما تقوم به إسرائيل اليوم من قتل وهدم وخراب للبنية التحتية لهو جزءٌ من هذا المخطط، لقد كانت هذه الفئة الملعونة الذراع الأمني الطويل لمخابرات العدو، التي تقوم بتعقب الثوار والمناضلين، لتصطادهم الواحد تلو الآخر!! ويَتمُ قتلهم وتصفيتهم، وعلى سبيل المثال أذكر هنا قصة حدثني بها رجلٌ مسن بلغ من العمر 90 عاماً قصةً حدثت في ثورة 1936م الذي كان هو مشاركاً بنفسه في هذه الثورة، وأن فصيلاً من هذه الفصائل المكون من عدة أشخاص التجأ إلى إحدى بيارات يافا بعد أن كان مطارداً من قبل الجيش البريطاني، وكان في هذه البيارة يسكن رجلٌ وزوجته وبناته الثلاثة، فحل هذا الفصيل على هذا الرجل ضيوفاً فآواهم في منزله المكون من طابقين فأعطاهم الطابق الأرضي، فصار كل يوم يأتي لهم بالطعام والشراب وهيأ لهم كل وسائل الراحة، وفي ذات يوم تَغَّيب الرجل لأمر ما عن منزله، فقام هؤلاء الأوباش باغتصاب زوجته وبناته، فعاد الرجل من غيبته، فوجد ما وجد فقرر الانتقام، فلجئ إلى إحدى القبائل البدوية العربية في مكان سكناه، فلبت هذه القبيلة رجاء الرجل وطلبهُ وقاموا معه عشرات الرجال، يبحثون عن هذه الحثالة، فعثورا عليهم في إحدى البيارات القريبة وفتحوا عليهم نيرانهم وأردوهم جميعاً قتلى وتركوهم تأكلهم الحيوانات البرية المفترسة فبعد أيامٍ علم ذويهم بالخبر وجاءوا ليأخذوهم لدفنهم، فلم يجدوا سوى عظاماً ورفاةً بالية مزقتها الوحوش وتُرِكوا فوق الأرض برائحتهم النتنة.
هذا هو مصير الخونة والعملاء الذي لا يحزن عليهم أحدٌ، ولا يأسف على مصيرهم ضمير.
هذه الآفات التي تُطَوِقُ الثورات وتكلفها ثمناً باهظاً! من الصعب إصلاحه.
ولكن الأمر اليوم اختلف فأصبح كلُ ثائرٍ ومناضلٍ تحت العيون الساهرةِ والمجهرِ مراقَبَاً جيداً لذا يكشف الخونة سريعاً وتنكشف نواياهم، فيقل الضرر وينتهي!!
بالرغم من تسليح هؤلاء تسليحاً تقنياً عالياً ولكن العين الساهرة هي أيضاً طورت من أساليبها وأُعطي مثالاٌ على ذلك أسر الجندي شاليط في غزة أكثر من خمس سنوات في محيط لا يتعدى الكيلو مترات محدودةَ المساحة.
مع ما تملك هذه المخابرات الإسرائيلية وتُعاوِنُها مخابرات عربية بالإضافة إلى مخابرات SIA الأمريكية فشلت بالعثور عن مكان أسر الجندي شاليط.
وهذا تطورٌ لافت لدى المقامة الفلسطينية وسر نجاحها بإدخال كل أنواع السلاح المتطور وآلاف الصواريخ القصيرة والبعيدة المدى، التي دقت المدن والبلدات الإسرائيلية في حرب السبعة أيام، 2012م حتى وصلت إلى القدس وتل أبيب.
ويأتي من يسأل إذن كيف استطاعوا اغتيال المقاوم أحمد الجعبري؟ ما دام المقاومين يملكون السرية العالية، أرد على هذا السؤال أن الوقت الذي اغتيل فيه هذا المقاوم الفذ كان هناك اتفاق هدنة ما بين إسرائيل والمقاومة بوساطة مصرية قد سبقت الاغتيال وانتهكتها إسرائيل!!
فإن عملية القتل هي الغدرُ بعينه، فكانت سبباً في هذا الكم من السبيل للدماء وهدم البيوت في كلا الجانبين.
يبدوا أن نجم هذه الدولة بدأ بالأفول والتراجع، وأن المقاومة الفلسطينية ستفرض وجودها، وهي الآن لاعباً حاسماً على حلبة الصراع العربي الإسرائيلي.
وأن الدلائل تشير إلى أن السلام أصبح ميتاً وبعيد المنال ومن الصعب إحياؤه وإعادة الروح إليه، وأن كل المؤشرات تدل على أن الصدام حتمي، وأن الحسم في هذا الصراع قادمٌ لا محاله، وأن رياح التغيير بدأت تهب لأنها قَدَّرُ الله وإرادته “وتلك الأيام نداولها بين الناس” والشعب الفلسطيني جزءً من الناس.
إن الهُدَّن المتواصلة هي محطات أنية وقتية حتى يأتي أمر الله، فلن تضيع دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والمجاهدين هدراً.
لأن الله لا يغفل عما يَعمل الظالمون ويُمهل ولا يُهمل وعندما يحين العقاب سيكون عقابَ جبارٍ شديد.
الله ولي التوفيق
بقلم:الشيخ عبد الله نمر بدير