رحم الله أياما قالوا فيها: "كاد المعلم أن يكون رسولا"
تاريخ النشر: 02/12/12 | 4:37يوميات مربي متقاعد
حدث هذا الذي أرويه لكم قبل نصف قرن ونيف.. كان الوقت ضحى وفي فصل الشتاء يومها كان الجو باردا جدا والأمطار تنهمر غزيرة.. كنا مجموعة من المعلمين الشباب الجدد نحتسي الشاي عند أحد الزملاء في يوم عطلتنا الأسبوعية، أي يوم الجمعة..ونحن نتجاذب أطراف الحديث ونتبادل الطرف الملح وخاصة التي تحدث معنا ومع طلابنا. وفجأة وإذ بوالد لطالب مدرستنا يدخل علينا دون استئذان وقد أمسك بابنه ابن الثانية عشرة بإحدى أذنيه، دخل وهو يصرخ على ابنه حافي القدمين والابن يرتجف خوفا وبردا.. دفعه دفعة أي “دفشة” كما نقول في لغتنا العامية وهو يصرخ قائلاﹰ: ادخل.. وقف المسكين بيننا وهو يرتجف رعبا وبردا، رعبا من والده ومن الزملاء المعلمين كما يبدو. ومرت فترة قصيرة انتابنا فيها ذهول غريب وصمت قاتل لهول المنظر الذي شاهدناه أمامنا بأم أعيننا…وخيم على الغرفة وعلينا صمت قطعه صوت صفعة قوية سددها الوالد على وجه ابنه المسكين. وما كان من أحد الزملاء إلا أن انقض على الأب كالنسر الذي ينقض على فريسته وأمسك بيد الوالد وحال دون استمرار الوالد في صفع ابنه المسكين، وصاح على الأب قائلا: ماذا دهاك؟ ماذا أصابك؟ أين حنانك وعطفك يا قاسي القلب!! والولد يبكي بكاءاﹰ مرا ويصرخ بأعلى صوته من الألم.. وأفلتنا الولد من قبضة يد والده وانزوينا به في الغرفة بعيدا عن متناول يدي والده..ونحن في حيرة من الأمر ونضرب أخماساﹰ بأسداس كما يقولون وإذ بالوالد يبادر بالقول موجها إلينا كلامه: “الذي لم تفعلوه مع ابني أريد أن أفعله أنا هنا وأمامكم! لماذا لم يعاقب بما فيه الكفاية على مخالفته لأنظمة المدرسة وقوانينها؟ كان عليكم أن تنزعوا اللحم عنه وتبقوا العظم، فقط العظم..
أفهمتم؟! ولنعد إلى القصة من بدايتها وما الذي دفع بهذا الأب أن يفعل بابنه ما فعله! فقد اقترف هذا الطالب ذنباﹰ داخل غرفة الصف عوقب عليه عقاباﹰ خفيفاﹰ من قبل المعلم أدى بهذا الطالب إلى الهروب من المدرسة منصرفاﹰ إلى بيته شاكياﹰ المعلم ولوالده بالذات، وكان اليوم الدراسي الذي حدث فيه هذا الأمر هو يوم الخميس، أي نهاية الدوام المدرسي الأسبوعي.. وكما يبدو فأن الأمر لم يرق في عيني والده ورأى عمل ابنه هذا ضارا لمستقبله وليس في صالحه مطلقاﹰ وأنه إذا ما أيده ووقف إلى جانبه فلن يكون ذلك في ميزان تحصيله وسيؤدي في نهاية الأمر إلى تعقيدات هو في غنى عنها…والذي علمناه أن طالبنا هذا قد نال قسطا وافرا من العقاب من والده وأن الأب تحين الفرصة التي اجتمع بها الزملاء المعلمين وقدم إليهم وقد اقتاد ابنه بالشكل الذي وصفناه.
وأنا وان كنت لا أبرر العقاب البدني ولا أوافق عليه ولا بأي شكل من الأشكال، إلا أنني أثمن وأقدر غالياﹰ موقف الآباء آنذاك تجاه المدارس والمدرسين.. فقد كانت نظراتهم تقديسية وعالية التقدير وكانت قناعاتهم أن “المعلم كاد أن يكون رسولا” كما قال عنه أمير الشعراء أحمد شوقي.
ولإعطاء هذا الموضوع حقه فلا بد أن نقف ولو قليلاﹰ عند طفل الأمس الذي أصبح اليوم أبا وجدا لبنين وأحفاد كثر، وهو يزحف نحو الشيخوخة زحفا وعمره الآن أربعة وستون عاما، وكثيرا ما ألتقيه وأجالسه وإياه وبعض الأتراب، وكثيرا ما روى لجلسائه ما رويته لكم عنه وبحضوري. وكان أن سألته ذات مرة: هل أنت ناقم على ما فعله بك والدك آنذاك؟! وكان جوابه سريعا، معاذ الله، وأنا متفهم لما فعله وان كانت فيه مبالغة وقسوة زائدة إلا أن تصرفه هذا كان من روح العصر الذي عاشه والذي آمن بقوله تعالى: “ولكم في القصاص حياة” والقول المأثور: “العصا من الجنة”…وان المعلم هو لإنسان صاحب الرسالة السامية النبيلة والبعيدة عن التحيز والانتقام، هدفها التعليم والتربية وغرس الأخلاق الفاضلة السامية”
نصّ هادف فيه عبرة وموعظة: احترام المعلّم واجب، وهو يؤدّي رسالة سامية!
أعتقد أنّ ما يلائم طلاب الماضي من عقاب وثواب، أصبح غير ملائم في أيّامنا!
مع ذلك، أدعو المعلّمين والآباء إلى اتباع أساليب جديدة في التربية تحترم شخصيّة
الطالب، وتعزّز ثقته بنفسه وبقدراته!