رواية لفح الغربة في اليوم السابع
تاريخ النشر: 22/03/15 | 11:19ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية”لفح الغربة” للأديب المقدسي ابن بلدة بيت حنينا عبدالله دعيس، والتي صدرت عام 2015 عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس. وتقع الرواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّانة المقدسية جيهان أبو رميلة في 219 صفحة من الحجم المتوسّط.
بدأ النّقاش ابراهيم جوهر فقال:
رواية تكتب سيرة المكان من بدايات القرن العشرين وتستعرض تاريخ التحولات الثقافية، ولا تنسى في سياق السيرة المكانية سيرة الناس الجمعية بلهجتهم ودلالات عاداتهم وإطلاق الألقاب والتوجّه طلبا للراحة والعيش الرغيد إلى بلاد الغربة التي تطحن إنسانيتهم.
(لفح الغرب) تقدّم غربة الإنسان بعيدا عن وطنه، وغربة الإنسان في وطنه، وغربة الغرباء الذين جاؤوا إلى البلاد في الوقت الذي خرج بعض أهل البلاد باحثين عن رزق مغموس بدم الكرامة أو واصلوا البحث في أرضهم في زمن ساده الجهل والسذاجة، لتكون النتيجة ضياعا واغترابا وشبكة خيوط ضاغطة حاكتها مؤامرة غربية وساعدتها أياد ملوّثة ورؤوس رأت الأرض سماءها والبساطير غايتها.
نقل الكاتب بجمالية الروي الخارجي على لسان الراوي العليم أسماء الأماكن في بيت حنينا نموذجا للمكان الفلسطيني المحاصر بالجدار والأسيجة والأوامر الاحتلالية. واستعرض مستعينا بالحلم وسيلة فنية واقع الأرض المهجورة من أبنائها الباحثين عن دروب رزق بعيدا عنها، كما نقل واقع القدس ممثلا في شخصية (رضوان) الغريبة المحمّلة بالألغاز والأسرار.
يمكن الاستفادة من رواية (لفح الغربة) في رسم ذاكرة قرية اسمها بيت حنينا وصولا إلى واقع هشّ تضافرت في صنعه أيادي الجهل الاجتماعي والسياسي والوطني. ويمكن أيضا تأثيث متحف تراثي للّهجة المحكية وبعض الأدوات والألعاب الشعبية التي جاءت في سياق السرد الروائي لتضفي حنينا عاطفيا وجمالا فنيا وفّر خصوصية للرواية.
لقد انتبه الكاتب (عبدالله دعيس) للمرأة في عمله الأدبي هنا فأنصفها وهي تمثل عنده ذاكرة وحامية حارسة صابرة لا تيأس.
وقال جميل السلحوت:
عرفت الأديب عبدالله دعيس منذ أكثر من عام عندما شاركنا لقاءات ندوة اليوم السّابع الثقافيّة، ولفت انتباهي بعمق أدبه وهدوئه، وعمق تحليلاته للكتب التي تناقشها النّدوة، إلى أن فاجأنا بروايته البكر “لفح الغربة” التي نحن بصددها، وكانت مفاجأة مدهشة حيث وجدت نفسي أنّني أمام أديب يمسك ناصية الّلغة، ويتقن السّرد الرّوائي بطريقة فريدة…فروايته يمكن قراءة فصولها الخمسة عشر كقصص قصيرة، وكلّ قصّة منها تكاد تكون رواية، ويمكن أيضا قراءتها كرواية أحسن البناء الرّوائيّ فيها…فقد ربطها بخيط لتكمل كرواية، لا ينقصها عنصر التّشويق الذي يجذب القارئ إليها. وكانت مفاجأة أخرى من حيث المضمون، فموضوع الرّواية يعالج قضية الهجرة والاغتراب وما يعانيه المغتربون اللاهثون وراء بريق الدّولار. وهكذا فإنّنا أمام عمل متميّز شكلا ومضمونا يكاد يكون غير مسبوق. وهكذا فإنّ أديبنا الذي هو على عتبات الخمسينات من عمره، لم يتعجّل النشر؛ لتكون بداية إصداره قويّة ولافته، فنجح في ذلك.
وهذه الرّواية التي اعتمدت على قصص واقعيّة مطعّمة بخيال واقعي، يهديها كاتبها” إلى كلّ من ترك الحياة الرّغيدة في الغربة وعاد ليرابط في وطنه”ص9 وهذه تجربة مرّ بها الكاتب نفسه، حيث كان مغتربا في أمريكا، واختار العودة للعيش في بلدته بيت حنينا، ووطنه فلسطين رغم قسوة الحياة في هذه البلاد التي تئن من ثقل بساطير جنود الاحتلال. ويواصل إهداءه:”إلى كلّ أمّ اختارت أن تربّي أبناءها في وطنها، فكانت لهم الأب والأمّ معا…إلى أمّي”ص9، وسواء عاشت والدة الكاتب مأساة هجرة الزّوج وتركها حاضنة لأبنائها أم لم تعشها، إلّا أن هناك آلاف النّساء اللوّاتي هاجر أزواجهنّ وتركوهنّ مع أبناء أو بدون أبناء، غير عابئين بمعاناة هذه النّساء الصّابرات المحتسبات. وهكذا فإنّ الكاتب بإهدائه هذا يختزل الرّواية مشجّعا المغتربين على العودة لأرض الوطن “للرّباط” فيه، ولم يكن استعماله للرّباط عبثا فله دلالاته أيضا، وهو أيضا يطرح معاناة زوجات المغتربين.
ومعروف أن بلدة الكاتب بيت حنينا الواقعة شمال القدس في الطّريق إلى رام الله غالبيّة مواطنيها من المغتربين في الأمريكتين. ممّا ترك أثارا كبيرة على البلدة. والقارئ للرّواية سيكتشف ما يرمي إليه الكاتب من خلال فهم ما بين السّطور…التي تنبّه من بداياتها إلى ضرورة التّفكير مرّات ومرّات قبل الهجرة من الوطن، وأنّ هناك مبالغات كبيرة في ثروات البلاد التي يهاجَر إليها، ويتخيّل البعض أنّه سيحقّق طموحاته بالثّراء بيسر وسهولة. عدا أنّ الهجرة من بلادنا فيها مخاطر تفوق فرقة الأهل ومعاناتهم، وتتعدّى إلى المساهمة في ضياع وطن يتكالب الآخر على الهجرة إليه واستيطانه لذا فإنّ “الصّوص” وهو من أوائل المهاجرين يتساءل:” لماذا يأتي هؤلاء اليهود من بلادهم إلى هنا؟ فأصحاب البلاد أنفسهم يتركونها ويهاجرون طلبا للرّزق؟ ما الذي يأتي بهم؟ وكيف تسمح لهم حكومة السّلطان والصّدر الأعظم بالمكوث في هذه البلاد المقدّسة؟”ص20.
وتفريغ البلاد من أهلها لم يبدأ بالهجرات الطّوعيّة فقط، فقد سبقه حروب العثمانيّين في أواخر عهدهم، وكيف كانوا يأخذون المجنّدين إلى حروبهم في البلقان وغيرها، فيكونون وقودا لتلك الحروب وتننقطع أخبارهم.
والهجرة لم تكن سهلة أيضا، فالصّوص عندما هاجر تمّ تهريبه مع شخص من مدينة البيرة إلى سفينة بخاريّة خفية عن الرّبان…وبقوا يعبئّون الفحم في “موقد”السفينة بعيدا عن عينيّ الرّبان، الذي ما كان ليتردّد بالقائهم في البحر لو اكتشفهم…ليصلا بعد ذلك إلى جزيرة في عرض البحر، وليعملوا كرقيق لدى أحد الأشخاص هناك في ظروف لا إنسانيّة مقابل طعامهم…ولمّا اكتشفهم الأمن الأمريكي تمّ وضعهم في معسكرات كأسرى إلى أن انتهت الحرب؛ ليتمّ ترحيلهم إلى بلدهم ثانية. ويعود الصّوص إلى بيته بعد أن خسر زوجته وابنيه.
ويلاحظ في الرّواية أن هموم ما جرى ويجري في بيت حنينا يشكّل عبئا كبيرا ما كان ليحصل لولا هجرة أبنائها…وهذه الهموم جعلت الكاتب يركّز على ذكر أسماء العديد من الأماكن في البلدة، والتي لم يعد أحد يذكرها لتغيير ملامحها…واطلاق مسميّات جديدة عليها…ولا ينسى الكاتب دور السّماسرة في عمليات بيع الأراضي حتى لجهات معادية، مستغلّين طيبة بعض النّاس تارة وبالاحتيال تارة أخرى.
وتعرّج الرّواية على جدار التّوسّع الاحتلالي وكيف مزّق البلدة إلى أشلاء غير مترابطة، وما ألحق ذلك من أضرار بالبلدة ومواطنيها. وتبلغ المأساة ذروتها بقوانين الاحتلال التعسّفيّة والتي تجرّد المواطنين أرضهم وعقاراتهم، فحامد الذي استولى أحد السّماسرة على بيته، حكمت المحكمة بابطال عمليّة البيع بالتّزييف، لكنها حوّلت البيت إلى حارس أملاك الغائبين بحجّة غياب مالكه مع أنّه موجود في المحكمة، والسّبب هو تقسيمات الاحتلال الاداريّة التي لا تعترف بوجود من لا يملك “بطاقة الهويّة الزّرقاء الاحتلاليّة” ضمن قانون جائر لا مثيل له في العالم وهو قانون”الحاضر الغائب”.
والقارئ للرّواية سيجد نفسه أمام مأساة متراكمة عمودها يتمثّل بالهجرة من البلاد، وبالاحتلال وقوانينه وممارساته العنصريّة.
ويتضّح من الرّواية مآسي الهجرة وترك الوطن، ولوعة الأمّهات اللواتي كنّ ينتظرن عودة أبنائهن دون جدوى، ولم تتوقّف حياة بعض من اغتربوا على ترك الوطن والأهل والضّياع التي يعيشونها في غربتهم، بل تعدّت ذلك إلى عودة البعض منهم لا من أجل الاقامة والاستقرار، بل لبيع ما تبقّى لهم من أملاك هنا، غير عابئين بمن تبقى من أهلهم كالزّوجة وبعض الأبناء والأمّهات.
وقد أبدع الكاتب بوصف حالة رزق الذي عاد إلى البلدة بولد وبنت من زوجة أمريكيّة ماتت في حادث طرق حسب زعمه، ليزوّج ابنته لابن المختار وتهاجر مع زوجها إلى أمريكا مصطحبا معه ابنه ليضيع هو الآخر هناك، في حين ترك ابنيه ” شان” الذي أصبح اسمه “شعلان” وابنته” تين” التي أصبح اسمها “تينة” في رعاية زوجته هنا، فتربّيهم أحسن تربية، وتعلّمهم في الجامعات، وتتعلم تينة وتصبح طبيبة، ويتعلم شعلان ويفتتح معرضا للألكترونيّات، وعندا عاد الأب لبيع البيت بمائتي ألف دولار، اشتراه ابنه هنا، أي أن الابنين اللذين تربيّا هنا –مع أنّ أمّهم أجنبيّة- توفّقا ونجحا في البلاد، في حين فشل أبوهم في أمريكا. وهذه دعوة إلى الصّمود، ومن يجدّ في هذه البلاد سينجح بالتأكيد، وكما يقولون” من لا يثمّر في بلده لن يثمّر في بلاد الغربة”.
والرّواية التي بطلها الحقيقي هو بلدة بيت حنينا بأبنيتها التّاريخيّة، وبأسماء تلالها وسهولها وأرضها تحتاج إلى دراسات معمّقة لتعطيها حقها، وتكشف جماليّاتها وأهدافها النّبيلة، وهي تشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة.
وكتب موسى أبو دويح:
اختصر الكاتب روايته بقوله: “هذه الرّواية من وحي الغربة الّتي عصفت ببلدة بيت حنينا، وجدار الفصل الذي مزّقها وشتّت القلّة الباقية من أهلها.”
وفّق الكاتب في اختيار عنوان روايته (لفح الغربة) حيث جاء في لسان العرب (5/4053): (لفح: لَفَحَتْه النارُ تَلْفَحُه لَفْحًا ولَفَحانًا: أَصابت وَجْهَهُ إِلَّا أَن النَّفْحَ أَعظم تأْثيرًا مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ لَفَحَتْ وَجْهَهُ. وَقَالَ الأَزهري: لَفَحَتْه النارُ إِذا أَصابت أَعلى جَسَدِهِ فأَحرقته.
وقال الْجَوْهَرِيُّ: لَفَحَتْه النارُ والسَّمُومُ بحرِّها أَحرقته. وَفِي التَّنْزِيلِ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ؛ قَالَ الزَّجَّاجُ فِي ذَلِكَ: تَلْفَحُ وتَنْفَحُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا أَن النَّفْحَ أَعظم تأْثيرًا مِنْهُ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَمِمَّا يؤَيد قولَه قولُه تَعَالَى: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ.
وَفِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: تأَخَّرْتُ مَخافَة أَن يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحها؛ لَفْحُ النَّارِ: حَرُّها ووَهَجُها. والسَّمُوم تَلْفَحُ الإِنسانَ، ولَفَحَتْه السُّمُومُ لَفْحًا: قَابَلَتْ وَجْهَهُ.
وأَصابه لَفْحٌ مِنْ سَمُوم وحَرُورٍ. الأَصمعيّ: مَا كَانَ مِنَ الرِّيَاحِ لَفْحٌ، فَهُوَ حَرٌّ، وَمَا كَانَ نَفْحٌ، فَهُوَ بَرْدٌ. قال ابْنُ الأَعرابي: اللَّفْحُ لِكُلِّ حارٍّ والنَّفْحُ لِكُلِّ بَارِدٍ.
فبيت حنينا مثلها مثل كثير من القرى والمدن الفلسطينيّة التي أصابها (لفح الغربة) على رأي الكاتب، وهجرها شبابها إلى أمريكا الشّماليّة أو الجنوبيّة، وأصابها ما أصابها نتيجة هجرة الشّباب منها، وبقيت النّساء والكهول ينتظرون عودة الشّباب؛ ليعمروا بلدانهم، ولكنّ الغربة لفحتهم، وأخذت منهم كلّ مأخذ، وعاد من عاد منهم إلى بلده، بعد فوات الأوان، وبعد أن ضاع كلّ شيء، ندموا ولات ساعة مندم.
حاول الكاتب في روايته أن يظهر الوجه البشع للغربة؛ لعلّ ذلك يحول بين الشّباب وبين الهجرة، أو يقلّل منه؛ وبهذا يكون الكاتب قد عالج بقلمه معضلة عصفت بكثير من القرى الفلسطينيّة. وكثير من هذه المدن أو القرى، وإن بنيت فيها ناطحات السّحاب، والقصور الفارهة، والبنايات المزخرفة الجميلة، إلا أنّها خواء؛ لأنّها فارغة من أهلها، أو خالية من الشّباب، ولا يعمرها إلا الكهول من الرّجال والنّساء، الذين ينتظرون آجالهم؛ ليدفنوا في أرضهم، لا في أرض الغربة.
لغة الكاتب في الرّواية لغة عربيّة فصيحة، وإن جاء فيها بعض الجمل باللغة العامّيّة، الّتي جاءت على ألسنة العجائز من الرّجال والنّساء؛ ما أضفى على الرّواية مسحة من الجمال. كما وجاء في الرّواية بعض الكلمات والجمل باللغة العبريّة الّتي اشتهرت على ألسنة أهل البلاد؛ لأنّه لا بدّ لهم من استعمالها؛ لوجود يهود على المعابر والحواجز التي يقيمونها في كلّ مكان، ولا بد للعرب الفلسطينيّين من دخولها والخروج منها في كلّ صباح ومساء.
الرّواية جيّدة وهادفة، وتستحق القراءة، وهي قليلة الأخطاء اللغويّة، وإن وقع الكاتب في بعضها مثل:
– صفحة 13: ربما سيكون عند الحاجة خضرة (جوابًا). والصّحيح: جوابٌ اسم سيكون مرفوع.
– صفحة 16: (كانت) العديد من السّيّدات. والصّحيح: (كان) العديد من السّيّدات.
ومع كلّ هذا، فالرّواية قليلة الأخطاء بالنسبة لما ينشر في هذه الأيّام، وهي جديرة بالمطالعة، وحريّة بالاقتناء وأخذ العبرة منها؛ وهي الانزراع في الأرض وعدم التّفكير بالهجرة منها إلى غيرها.
وكتب محمود شقير:
ينهي الكاتب عبد الله دعيس روايته على نحو مبشّر بالأمل. ذلك أن أرْوَد الذي كان رأسه إلى أسفل على الدوام، ينتصب واقفًا على قدميه وينظر نحو السماء، ويطلق السؤال الذي يشي بالمستقبل: هل يعود ربيع القرية من جديد؟
على امتداد 219 صفحة من القطع المتوسط نتابع عبر التفاصيل الحميمة والشخصيات المتعددة معاناة قرية بيت حنينا من هجرة أبنائها إلى أمريكا، تاركين قريتهم التي تقع على تخوم القدس لهجمة الاستيطان الصهيوني التي تحاصر القرية من كل الجهات، تلك الهجمة التي لا ينفع معها نداء الآباء والأجداد الذين غيبهم الموت، داعين الأبناء لحراثة الأرض وفلاحتها. فالحاجة خضرة وأبو رزق اللذان قرّرا تلبية النداء لم يتمكنا من ذلك، بسبب وقوع الأرض تحت سيطرة الأعداء.
ولم تكن تلك السيطرة هي الخطر الوحيد الذي يتهدد القرية، بل إن قيام عزّام، ابن الحاجة خضراء، المغترب القادم من المهجر، بهدم العلية التي أقامت فيها خضراء سنوات عمرها الطويل، و شهدت فيها كثيرًا من المناسبات، يعني أن ذاكرة القرية يجري محوها على أيدي أبنائها الذين اختاروا الهجرة على البقاء في الوطن. وبالطبع، فإن الراوي العليم الذي ينطق بلسان المؤلف لم يترك فرصة إلا اغتنمها للتنفير من عواقب هذه الهجرة المدمرة.
يكتب عبد الله دعيس روايته “لفح الغربة” بسرد ممتع وبلغة جميلة شابتها هنات نحوية طفيفة، وبتقنية ملائمة يجري من خلالها تتبع مصائر شخصيات الرواية التي تفترق حينًا وتتقاطع حينًا آخر، بحيث كانت القرية هي البؤرة التي يبدأ منها السرد ويعود إليها، وبحيث يستعرض الكاتب من خلال ذلك ليس فقط مصير القرية وإنما المصير الفلسطيني برمّته، وما مرّ على الفلسطينيين من أحداث ومآس وتطورات خلال مئة عام، بما يذكّر من بعض الوجوه برواية “المرايا” لنجيب محفوظ التي استعرض فيها مصائر خمسة وخمسين نموذجًا بشريًّا، وقدم من خلالهم رصدًا لواقع مصر خلال أعوام طويلة.
وفي حين نجح عبد الله دعيس في تقديم العديد من شخوص روايته، وقدمهم بطريقة مقنعة، فإنه لم ينجح في أحيان قليلة أخرى. وأمثّل على ذلك بالرصد الذكي لتجربة “تينة” على الحاجز العسكري، وتبيان مدى الإذلال الذي يتعرض له الفلسطينيون على أيدي المحتلين الصهاينة. فيما لم يكن مقنعًا ذلك المصير الذي رسمه الكاتب لرائد، الذي وضع نفسه من دون مبرّر في دائرة الشبهات وهو يجتاز بوابة الجدار العنصري بالتنسيق مع أحد ضباط الاحتلال، ما جرّ عليه تهمة العمالة للعدو، وما أدى إلى فسخ خطيب أخته للخطوبة، ومن ثم إقدامها على الانتحار. هنا يجري تركيب المشهد من تفاصيل غير مقنعة وفيها مبالغات.
والأمر نفسه يحدث مع رزق، الذي عاد من الغربة إلى البلاد أول مرة وفي ذهنه بيع البيت القديم في القرية، لاستثمار ثمنه في تجارته هناك. لكن الراوي لا يتعرض لذلك إلا بعد سنوات لدى عودة رزق مرة ثانية. في المرة الأولى ثمة تفاصيل غير مبررة، إذ يترك رزق طفليه من زوجته الأمريكية عند زوجته الأولى، ويصطحب ابنه وابنته منها إلى المهجر. وحين يعود في المرة الثانية ويهم ببيع البيت يتصدى له ابنه الذي تركه في البلاد، ليصطدم رزق بالحقيقة المرة، وليهتدي فجأة ويعود إلى جادة الصواب.
رغم هذه الملاحظات، فإن هذه الرواية الأولى لعبد الله دعيس تبشر بولادة كاتب مقدسي جديد.
وقال محمد عمر القراعين:
هذه الرواية تضم مآس عادت بي لذكريات مواقف خرجت منها محظوظا أو موفقا. ففي بداية الخمسينات، كان أملي أن أسافر إلى أمريكا لدراسة الهندسة، بعد توفير 750 دولارا، ولما حصلت على الفيزا سنة 1953 طلّقت الفكرة اعتقادا أنّ الذي يذهب إلى أمريكا في تلك الأيام لا يعود للبلاد، ولو فضلت البقاء في الرياض بعد انقضاء فترة الإعارة سنة 1966، لما تواجدت في الضفة زمن النكسة، ولما صرت سعيدا بوجودي معكم منزرعين في القدس الحبيبة.
في الماضي، كنا نغرّب ونشرّق ونعود للقدس، التي كنا نعتبرها قريبة منا، مؤمنين بمقولة أن:
بلاد العرب أوطاني…. وكل العرب إخواني
فمن نجد إلى يمن…. إلى مصر وتطوان
غير أنني أجدني الآن أردد دوما قول الشاعر أحمد عبد أحمد:
في وطني أحببت جميع الأشياء
لأن الأشياء هنا في وطني تبدو أجمل
من شدة حبي لترابي
يتساوى عندي طعم العسل الخالص والحنظل
أبذل كل جهودي
حتى لا أصبح في كندا حمالا
أو بائع أقمشة
في فنزويلا يتجول
وأنا في هذه القراءة سأركّز على شخصيات الرواية، مستقرئا ما قصده الكاتب من إبراز تينة والحاجة خضرة في المقدمة، أو الجزء الأول تتحدثان عن القرية الخاوية من السكان بسبب الهجرة، مما حفزني إلى تناول الرواية كصراع بين الأجيال، أي بين القديم والحديث.
أظهرت الرواية الجيل القديم سواء جيل نهاية العهد التركي مثل الصّوص، أو جيل الانتداب ممثلا برزق، سلبيين مهزومين أنانيين غير مهتمين بأحوال القرية، فالأول هو الذي استنّ سنّة الهجرة باعتراف ابنته الحاجة خضرة، والثاني ابتلعته أمريكا، ليعيش بين المخمورين والحشاشين واللصوص، والذين بقوا في القرية، انشغلوا بالقيل والقال ولعبة “دندن ورسن” والبعض أصابته حمّى بيع الأراضي والسمسرة، حتى أنها أشغلت الحاج رمزي، الرجل الصالح موضع ثقة الناس، عن مهمته في الإصلاح وحماية الشباب من الغوغائيين الذين انتقلوا إلى رأس الطريق، أي بيت حنينا الجديدة، وانقطعوا عن القرية، ولم يربطهم بها إلا الهوية الخضراء لدى بعضهم.
ومن الناحية الأخرى من المعادلة، حاولت الرواية إبراز دور الجيل الجديد بشكل حييّ، تيمّنا بأنّ شباب الربيع العربي لم ينجحوا بعد، فكيف ينجحون في بيت حنينا إلا بشكل جزئي؟ فحين امتنع رائد وسليم عن الالتحاق بشلة أبو الفيلات، الذي كان يزود المستوطنة بالعمال، اتجهوا ليعمّروا أرض الوقف، ضد صلف الغراب وسليمان الأهوج وأبو إياد المختار، الذين أفشلوا محاولة الشباب في العمل الجماعي، فلم يبق إلا المحاولات الفردية، ممثلة برائد وشعلان.
لم يتحمل رائد رؤية الأراضي تتسرب لإقامة المستوطنة عليها، فذهب إلى المستوطنة وغاب في بطنها، يقوده الغضب والرغبة في الانتقام، مما قاده إلى السجن. وبعد تحرّره، لم يتحمّل الجدار يحيط بمنزله من كل الجهات، ولا يخرج إلا بإذن الكابتن شمعون، وأقاويل المغرضين بأنه عميل، فلم يجد أمامه إلا المعول يهدم به منزلهم، ثم يتجه لهدم الجدار. يصوّب الجنود أسلحتهم إليه فيكشف عن صدره أمامهم بشجاعة.
أمّا شعلان، فكان نقطة الضوء الأخيرة في نهاية النفق، حيث نجح بكده وجهده مهندسا قدّ الدنيا، حتى أنه رمى أمام والده رزق أو ريكي مبلغ مائتي ألف دولار، ليمنعه من بيع الدار. ومن الشباب أيضا، تنجح تينة كطبيبة في مستشفى المقاصد، تتحمل شقاء المحاسيم في تنقلها من وإلى القرية، غير أن الرواية لا تنصفها في تحقيق رغبتها بالاقتران بمن تحب، لأن أمّ حامد تريد تزويجه بكنّة تحمل الهوية الزرقاء، لتساعده في عملية جمع الشمل. وقديما منعت التقاليد من اقتران محمود (أبو رزق) بالصبية خضرة التي كانت تتغندر أمامه، وتزوجت ابن عمّها، بعذر أن ابن العم يستطيع إنزال بنت العم من على ظهر الفرس.
حاولت الرواية إضفاء شيء من التشويق لكسر الملل من سرد الأحداث، فزرع أرود هنا ورضوان هناك. يمكن قبول رضوان كملح للطبخة، أما أرود، ففيه هدم للإنسانية، إذ أنه مسخ يجسد السادية عند الذين يستمتعون بركله بالبساطير، والماسوشية التي يستمتع بها كلما كان البسطار الذي يركله أكبر.
وقال عماد الزّغل:
“لا يعرف الشوق إلا من يكابده.” بهذه العبارة أبدأ تعليقي على رواية (لفح الغربة) للمهندس عبد الله دعيس، لأنه كتب القصة من وحي تجربته البحتة، ومن واقع معاناته ومعاناة قريته التي ذبحت بسكاكين أهلها، قبل الغريب، بيت حنينا، تلك القرية الوادعة التي كانت في بؤرة التطوير لدى الحكومة الأردنية، فجعلت فيها أول كلية لدار المعلمين في الخمسينات، وكانت هذا الكلية مصغرا لمشروع جامعة كانت ستكون الأولى في فلسطين.
وهبّت رياح التغيير والتغريب على هذه القرية قبل غيرها من قرى القدس، بعد نجاح تجربة الهجرة إلى أمريكا عند بعض أهلها، حيث أثرى بعضهم وعلى رأسهم عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي أول بنك في فلسطين، هذه التجربة أغرت الكثير منهم بالهجرة، فأصبحت الهجرة مطمحا للكثير منهم ودفعت بيت حنينا الثمن، وهذا تجسّد في الرواية في شخصية الصّوص ورزق اللذين تركا عائلاتهم وهاجرا إلى غير رجعة.
لفح الغربة، نعم، وكأن الغربة نار تلفح وجوه المغتربين فيكتوون بها، ولكنهم على الرغم من ذلك يستمرئون البقاء في أمريكا، ولا يعرفون قيمة بيت حنينا إلا عندما (يطفر) أحدهم فيأتي لبيع قطعة أرض هنا أو هناك. ومما يحسب للكاتب أن الغربة لفحته هناك، وأشهد أنه كان مكرها على ذلك، لكنه آثر العودة والبقاء في الوطن على الرغم مما يعانيه هنا، فظلم الوطن والاحتلال أرحم من لفح الغربة، وهذا ما صدّر به الكاتب إهداءه في مطلع روايته، فقد جعلها مهداة للمرابطين في أرض الوطن.
هي رواية مكانية، شأن معظم الروايات الفلسطينية، التي يقف كل شخوصها على مسافات مختلفة من الأرض، فالشخصيات تسمو في الرواية بقدر تمسكها بالأرض وتشبثها بترابها، وهذا ما تجسد في شخصية خضرة تلك الشجرة المتجذرة في المكان، وفي بيتها وعليّتها التي تعاقبت عليها الأجيال جيلا بعد جيل.
أما رائد فهو الذي يمثل بارقة الأمل في الإصلاح، فهو نموذج للشاب الذي يريد إحياء الأرض وإعمارها من جديد على الرغم من كل محاولات الهدم التي تقوم بها القيادات التقليدية في القرية. أما الابداع في صناعة الشخوص فقد بلغ القمة في شخصية “أرود” التي تشكل نموذحا فانتازيّا في الرواية، فهو يرى الأمور بالمقلوب، وهو يمثل انقلاب مفهوم القيم في بعض فئات المجتمع الفلسطيني، الذي أصبح يمجّد الرذائل والباطل ويحتقر الفضائل والحق، وقد اختار المؤلف حيلة فنية لتجسيد ذلك فهو يمشي على رأسه بالمقلوب.
أما الأرض في الرواية، فهي نموذج للأرض المستلبة، ولكن الجرأة عند الكاتب أنه جعلها مستلبة ليس من الاحتلال فقط، فركّز على شخصية السماسرة الذين يسرّبون الأرض ويزوّرون مستنداتها لتسريبها للاحتلال، أو لبناء مشاريع خاصة لهم. وهذه هي مأساة بيت حنينا اليوم، فأمام هجرة أهلها إلى أمريكا، قام اللقطاء والدخلاء وبالتعاون مع بعض المحامين الذين باعوا ضمائرهم بالاستيلاء عليها، والكاتب ممن يقفون اليوم سدّا منيعا في وجه هذه المؤامرات.
إن القصة تمثل قمة الصدق والواقعية والموضوعية والجرأة في الطرح، وهي وثيقة وشاهد على ما حلّ بهذه القرية التي وقعت بين سندان الاحتلال ومطرقة السماسرة ومبضع الجدار الذي شطرها نصفين فوقا وتحتا.
أما أدوات الكاتب الفنيّة:
فاللغة طيّعة منقادة للكاتب، سلسة سهلة مشبعة بلهجة أهل القرية ومفرداتها، وإن كانت تقريرية أحيانا وينقصها الخيال في كثير من حالات السرد. ومما يؤخذ على الكاتب إلصاق بعض الألقاب بالشخوص كنعته سليمان بالأهوج، ولو ترك للقارئ وصفه بهذه الصفة لكان أجمل.
إن هذا العمل الذي هو باكورة أعمال عبد الله دعيس الذي بدأ ناضجا في كتابته، غير فجّ كما هو متوقع من أول الأعمال عادة، يمثّل تأريخا لقرية فلسطينية مقدسية باتت شاهدة على ظلم الاحتلال وطلم ذوي القربى.
وقالت سوسن عابدين الحشيم:
تحكي الرواية قصة قرية من قرى القدس وهي بيت حنينا، والتي تم تقسيمها بجدار الفصل العنصري الى قسمين من قبل الاحتلال الاسرائيلي، قسم يتبع الضفة الغربية، وقسم يسمّى ببيت حنينا الجديدة تتبع لبلدية القدس، ويحمل قاطنوها بطاقة الهوية الزرقاء….تسلسل الكاتب في روايته متبعا أسلوب السرد الروائي بلغة سهلة بسيطة، تناسب موضوع الرواية والذي يعرض فيه سلسلة الوقائع التي مرت بها القرية منذ الانتداب البريطاني، وبداية هجرة اليهود الى فلسطين، حتى تم احتلالها بالكامل، وتنتهي باقامة جدار الفصل العنصري… تنوع الكاتب في عرض شخصياته، وتعددت صفاتهم وأسلوب حياتهم، كان أهل القرية يعيشون حياة بسيطة كادحة يعتمدون في معيشتهم على الزراعة يحرثون أرضهم ويأكلون منها، ويخبزون الطابون…يجلسون ويتسامرون في العلية وباب الدار بكل حب ووطيبة…لكن تحولت الأمور كليا بوجود الاحتلال…أدخل عليهم العمل في المصانع والمعامل الاسرائيلية فطمع شباب القرية بهذا العمل الذي يجلب لهم المال الوفير، مما اضطرهم لترك أرضهم واهمالها، فبعضهم أعمى الجشع والطمع قلوبهم، وباعوا ضمائرهم من أجل المال…فراحوا يبيعون أراضيهم أو يسمسرون لبيع الأراضي لصالح اليهود، لاقامة منشآت ومستوطنات اسرائيلية، أمثال سليمان الأهوج والغراب وشيخ القرية الذي اتخد من الدّين واق له يحميه من الشك فيه، كأكبر خائن لبلده يبيع أراضي القرية ثم يذهب للصلاة، ويقوم بموعظة الناس وارهابهم وتحذيرهم ممن يبيع أرضه لليهود… عرض الكاتب شخصية أرود الذي يمشي على يديه كرمز لما يراه عكس ما يراه الناس، فهو يعيش بذل وهوان لمسحه بساطير الجنود، ويرى الحق باطلا والباطل حقا، تدور أحداث الرّواية في مكانين، فعنصر المكان كما هو جليّ في قرية بيت حنينا، والقسم الآخر في أمريكا، فأحد أبطال الرواية رزق، والملقب بريكي كان من شباب القرية الذين هاجروا الى أمريكا تاركا بلده وأرضه وزوجته وأولاده عبد الفتاح وفتحية، تلفحه الغربة فيضيع شبابه وتمضي به الأيام ناسيا أهله وبلدته، ها هي الغربة بقسوتها تقذف به الى الهاوية والضياع، فكل من بالحيّ الأمريكي يهديهم الله بعد ادمانهم للخمر، ويقيمون مسجدا ويأمّونه وهو بمحله رابض خلف زجاج واق للرصاص، يرفض الهداية ويفكر بالرحيل من الحي لافلاسه بعد تهديده عدة مرات من أهل الحي بترحيله، فيفكر ببيع أرضه وبيته بالقرية ليشتري به محلا آخر في فلوريدا، ولكن أحلامه باءت بالفشل لرفض أمينة مطلبه…شبه الكاتب أمريكا بالساحرة، فهي التي سحرت عقول الشباب وجلبتهم اليها يبيعون الخمر في محلات نيويورك ،وهي كانت للشباب بلد الفرص والأحلام… فرزق يأخذ أولاده بعد ما ربتهم والدتهم ليعيشوا معه في أمريكا، فينسون أهلهم وبلدهم مغموسين في معيشتهم الجديدة، استخدم الكاتب أسلوب السخرية من حال هؤلاء الرجال الذين يهجرون زوجاتهم، يعانون الكد والتعب في تربية الأبناء ويعودون ليأخذوهم، فرزق يعود بطفلين من زوجته الأمريكيه بعد وفاتها لتربيهم زوجته في القرية، يعود مرة أخرى ليأخذهم بعد أن أصبحوا شبابا، وقد أنهوا تعليمهم الجامعي وحصلوا على وظائف محترمة، شعلان وتينة التي أصبحت طبيبة في مستشفى المقاصد تعاني عذابا شديدا ومهانة كبيرة بسبب مرورها على الحاجز العسكري كل يوم، صور الكاتب النساء بصورة جميلة جدا فهن الأمهات المربيات الكادحات الصابرات، فأمينة تأبى أن تعطيه أولاده، والحاجة خضرة تتمسك بعليتها وببيتها فترفض وبشدة التنازل أو اخلاء عليّتها، وتصبر على بعد ابنها عزام، وعندما يعود بعد خمسين عاما تواجهه بكل برود، فقد اعتبرته ميّتا لتركها كل هذه المدة الطويلة، قصة رائد الشاب المكافح وذو الضمير الحيّ والذي يحرص على أرضه فيواجه كل السماسرة لوحده؛ لينتهي به الأمر باتهامه بالعمالة، وصدّ أهل القرية له، وانتحار أخته لفسخ خطوبتها من صديقه سليم الذي سجن. بيّن الكاتب المقارنة بين هجرة اليهود الى هذه البلاد من جميع انحاء العالم، وهجرة شباب القرى منها طلبا للرزق الرغيد والدولار الامريكي، ويتساءل الكاتب على لسان أحد الشخصيات لماذا يهاجرون الى هذه البلد. ولماذا نهاجر نحن منها؟ ينهي الكاتب روايته بموت الحاجة خضرة، وأبي رزق حزنا وألما في مشهد لدمار بيوت القرية القديمة وحقولها من جميع جوانبها، فلا شجر ولا حرث ولا أرض…يظهر أرود في النهاية ليقول هل يعود ربيع القرية من جديد؟ بعد أن يمشي على قدميه وينظر الى السماء مخالفا لما كان عليه في معظم الرواية… فهنا يبعث الكاتب الأمل في ذهن القارئ بهذا التساؤل الختامي للرواية.
وكتب رفعت زيتون:
رواية تتحدث عن واقع قرية من قرى القدس تقع في منطقتها الشمالية، وتتوسط المسافة بين البلدة القديمة ومدينة رام الله. حيث تدور أحداث الرواية في تلك المنطقة. وبعض أحداث الرواية تدور في المناطق التي سافر إليها أولئك الذين تركوا قريتهم قاصدين مدن الأحلام التي ظنوا أنها ستعيدهم إلى قريتهم أثرياء. وطبعا تحقق ذلك للبعض، ولم يتحقق للبعض، والبعض
لم يعد أصلا إلى قريته. الرواية تُصوّر المجتمع الفلسطيني عموما، فما حدث فيها يحدث تقريبا
في كل قرية ومدينة، كذلك الشخوص فهم يمثلون عينة عشوائية من شخوص المجتمع عموما. فالمجتمع فيه الغني والفقير والمتعلم والجاهل والأصيل والعميل.
قرية بيت حنينا لموقعها الاستراتيجي وطبيعتها الجميلة وكونها طريقا يصل الشمال بالجنوب، جعلها محطّ أنظار المستثمرين وكذلك الناس العاديين، مما رفع سعر الأراضي هناك في الآونة الأخيرة، ولأن هناك حركة بيع وشراء وعرض كثير وطلب، فقد برزت شخصيات تمتهن التزوير بشتى الطرق، أحيانا ساهم بعض الجهل بنجاح هؤلاء، وكذلك غياب أهل تلك الأراضي، الرواية تتحدث عن ذلك بشكل جميل، ولم يهمل الراوي دور المختار، الذي ساهم كثيرا في أغلب الأحيان في الحفاظ على تلك الأراضي من العبث، وليس هذا فحسب بل ساهم في حلّ المشاكل والنزاعات بين العائلات. وقد كان هذا الدور للمختار ضروريا في ظل غياب السلطة تحت الاحتلال.
تحدثت الرواية كذلك عن المعاناة التي يعيشها المغتربون، من لحظة تركهم لمدنهم وحتى عودتهم هذا إن عادوا. وعن أثر ذلك على عائلاتهم، فمنهم من فقد عائلته، فعاد ليجد أن بعض أفرادها قد رحل عن الدنيا، وربما تزوجت زوجته ظنا منها أنه قد مات في الغربة، فعرف أنه ربما كسب المال ولكنه فقد ما هو أغلى من المال.
تحدثت الرواية عن الجدار الفاصل الذي تعاني منه كل المدن الفلسطينية، وكيف أنه قسم البلاد والعباد، وشتت شمل الأسر.
لغة الرواية كانت سهلة فيها جماليات ظاهرة ولكن الكاتب لم يغرقها بها. أحيانا شعرت بتكرار في المواقف وفي الأحداث، ربما لأن القرية تتكرر أحداث أهلها.
طغت شخصية الراوي إلى حد ما على الشخوص. فلم تبرز الشخصية بكامل تفاصيلها. طبعا بعض الشخوص كان حضورهم لافتا في الرواية فالحاجّة خضرة مثلت الأصالة والتمسك بالثوابت.
وحرت في شخصية أرود ومدى قربها من الواقعية، وهل لوجودها دلالة رمزية أرادها الكاتب؟
شخصية رائد تمثل الشباب الذي أغلقت في وجهه السبل، ولكنه لم يعرف المستحيل، رغم ما تعرض له من مضايقات. هذا بالنسبة لبعض الشخصيات، أمّا بالنسبة لوصف المكان فقد كان موفقا. والتشويق تذبذب في مستواه خلال صفحات الرواية.
الرواية توثيقية موفقة لمدينة مقدسية في حقبة من تاريخها، أعتقد أنه كان بالإمكان أن يخفف من شخوصها وأحداثها وأن تتوزع هذه الأحداث والشخوص على أكثر من رواية واحدة. ولكن طبعا للراوي الحق في أن يقدم رؤيته حسب ما يريد هو.
أقترح أن يتبع الراوي هذا العمل برواية أخرى عن الغربة، بحيث تدور كل أحداثها في تلك البلاد الغريبة.
وكتبت ديمة السّمان:
عندما تلفح الغربة من يجهل قيمة الوطن.. فيكتشف أنه قبل أن يخسر وطنه.. خسر ذاته وكيانه.. وهدرت كرامته.
كان قد رحل إلى بلاد العم سام.. ظنا منه أنه سيحقق ذاته.. ويجد نفسه.. ويصبح سيدا يلعب بالدولار.. فإذا به يفقد ما تبقى منه.. ويصبح عبدا للدولار.. غارقا في تيه ليس له قرار.. ليكمل مشواره مع الذل والندم.. يعيش غريبا.. ويموت غريبا.
لفح الغربة رواية وثقت سيرة قرية من القرى الفلسطينية تقع شمال القدس.. تحمل اسم بيت حنينا.. هجرها أبناؤها.. تاركين الحنين يعصف بأسَرهم. أما الحنينيات فقد كنّ الحارسات الحاميات اللواتي قمن بدورهن ودور رجالهن على حد سواء.. وصمدن وحافظن على الأرض والتراث.. واحتفظن بالعادات والتقاليد واللهجة المحكية التي تميز أهل البلدة عن غيرها.. وتمسكن بالقيم والمباديء التي تربين عليها.. وأنشأن أطفالهن -الذين ذاقوا طعم يتم الأب وهم ليسوا بأيتام- على المثل والأخلاق.. وحثثنهم على التمسك بالأرض.. وزرعن فيهم حب الوطن. لقد أبرز الكاتب دور المرأة الفلسطينية بحرفيّة الفنان.. قد يكون ذلك تقديرا منه لجهودها.. التي لا يمكن تجاهلها.. فلولاها لصودرت أراضي البلدة.. ولفقدت أصالتها.. ولأصبحت في خبر كان.
استطاع الكاتب من خلال الشخوص أن ينقل لنا واقع بيت حنينا طيلة قرن من الزمن.. منذ أواخر العهد العثماني.. مرورا بالانتداب البريطاني.. إلى يومنا هذا.. الاحتلال الاسرائيلي بمراحله…ووصف معاناة أهل البلدة بدقة.. خاصة بعد أن شق الاحتلال قلب البلدة بجدار الفصل والتوسع الذي زاد الطين بلّة.. وفقد أهل البلدة إمكانية التواصل مع بعضهم البعض.. وصودرت بعض أراضيهم.. وأصبحت البلدة عرضة لدسائس العملاء والمتعاونين مع الاحتلال. ولأساليب الاحتلال القذرة من خلال سياسة فرّق تسد.
لم تكن بلدة بيت حنينا سوى نموذج يمثل الواقع الفلسطيني بشكل عام في ظل احتلال بغيض أكل الأخضر واليابس.. ونكّل بالفلسطينيين.. وسلبهم حقوقهم على مرأى من العالم.. دون أيّ ردّ فعل يُذكر.
رسالة بعثها الكاتب من خلال روايته.. قال فيها الكثير الكثير.. ولكن أهم ما قيل فيها: لن تشهد فلسطين ربيعا دون أهلها.. عودوا أيها المغتربون.. بكم يعمر الوطن.. وبكم يسعد.. لا حرم الله وطنا من أهله.
وكتبت نزهة أبو غوش:
في روايته نفح الغربة، رصد الرّاوي عبدالله دعيس أحداثًا واقعيّة حدثت أمام عينه وكان شاهد عيان عليها.
وظّف الرّاوي أشخاصًا للرّواية حرّكت أحداثها من البداية حتّى النهاية.
نلحظ من خلال قراءتنا للرّواية بأنّ كلّ شخصيّة كان لها دور ومساحة عبّر من خلالها الرّاوي عن الأحداث، وكانت رموزًا معبّرة.
الشخصيّات المركزيّة في الرواية:
– أرود: أرود هو تلك الشّخصيّة الخياليّة المعكوسة الّتي ابتدعها الروائي دعيس بذكاء، رجل يمشي على يديه منذ صغره. يقدر أن يمشي على رجليه، لكنّه سعيد بحالته تلك. يرى كلّ شيء معكوسًا يقلب الحقّ إِلى باطل والباطل إِلى حقّ. يتمسّح بالأحذية ويسعد بلمسها وشمّها. يحاول خلق الفتن ونقل الأخبار إِلى المختار، حيث بدوره يعمل على نسج الاشاعة. ترمز تلك الشخصيّة إِلى الزّمن الّذي نعيش فيه حيث تقلب فيه المعايير، وينقلب الحق باطلًا في ظلّ احتلال متسلّط. كما أنّ شخصيّة أرود ترمز لبعض النّاس في مجتمعنا الفلسطيني، الّذين يتملّقون ويتماهون مع الاحتلال. ليس لهم كرامة ولا يعرفون إلا الذّل والمهانة وهم بطبعهم جبناء. عنما وقف أرود على قدميه في نهاية الرّواية يعود هذا إِلى النّدم والنيّة لإصلاح الذّات. فهو يعبّر عن فئة ليست قليلة بالمجتمع.
– شخصيّة أبو رزق: تمثّل شخصيّة أبو رزق فئة الشّباب الّذين رحلوا عن الوطن؛ وخاصّة في بلدة الكاتب المتاخمة لمدينة القدس، لأنّهم لم يقدروا على العيش في ظلّ الخوف والحاجة تحت احتلال لا يمكّنهم من التّحرك في بلدهم. فاختاروا على الأغلب أمريكا كوجهة لهم. ونسبة كبيرة منهم هجرت الوطن ولم تعد.
عاشوا مشتّتين غي مرتاحي البال، لا مستقرّ لهم في وطنهم ولا في غربتهم، عملوا بأيّ وظيفة أُتيحت لهم، حتّى وإِن كانت متدنّية.
شخصيّة الحاجّة خضرة: شخصيّ الحاجّة خضرة شخصيّ ثابتة مستقّرة تمثّل الوطن الأُم بأصالته وعراقته، لا ترضخ. ولا تستسلم. تنتصر للحقّ وتساند على رفض ودحر العدوّ. ولا يهمّها أيّ مصلحة شخصيّة. عاشت مئة عام، فهي هنا شاهدة على أحقاب زمنيّة فرضت على وطنها فلسطين. الاتراك، ثمّ الانجليز، الحكم الأُردني ثمّ الاسرائيلي.
وهي أيضًا تمثّل حسرة الوطن على الابناء الّذين يتركونه ويهربون خارجه.
– شخصيّة سليمان أبو الاهوج والحاج رمزي امام المسجد، وأبو الفيلات ونادر الأعمش، الأعمش، اللحام: هي شخصيّات ثانويّة استخدمها الكاتب لتحريك الأحداث؛ كلّها شخصيّات متملّقة ومتسلّقة، لا يهمها اللعب على عقول البسطاء من النّاس.
أمّا شخصيّة هالة أُخت رائد، والحاجّة خديجة الّتي أُصيبت بخلل دماغي، وشخصيّة الرّجل السمين العائد من الغربة، والمجنّدة على الحاجز، والدكتورة تينة؛ جميعها شخصيّات وظّفها الروائي دعيس بإبداع؛ من أجل تمرير صورة الحاجز الاسرائيلي الّذي يقف شوكة في حلوق الفلسطينيين، يقطعهم من التّواصل بين الأهل وأبناء البلد الواحد، ويمنع عنهم احتياجاتهم الضّروريّة، وسبل الحياة السليمة.
شخصيّة رائد: هي شخصيّة الانسان الصّالح، المبادر لعمل الخير، الّذي رفض العمل مع المحتلّ وقرّر أن يصلح بلده؛ لكنّ تواطؤ الآخرين الّذين لا يحبون الخير لغيرهم جعلت منه انسانًا خائفًا على حياة أهله من ظلم وقهر الاحتلال. جعل منه الاحتلال فريسة لظلم الأهل.
جعل الرّوائي من هذه الشّخصيّة شخصيّة متحديّة ، حيث راح يهدم بيته الّذي اعتبره الآخرون وصمة في حقّه. ان الدّور الّذي اختاره الكاتب دعيس في نهاية الرواية لهو دور مقنع وابداعي.
شجرة الزيتون: جعل الكاتب من شجرة الزيتون رمزًا للأصالة والعراقة، وقد أسقط على الشّجرة كلّ هموم الوطن، وضعفه، وقوّته، ثمّ فلسفة الكاتب، حيث أنّها مرّة تميل ومرّة تتحرك بسرعة اثر الرّيح، ومرّة يداعبها النّسيم، وفي النهاية تقطع.
وكتبت رائدة أبو صويّ:
اللفح:هبة ريح حارة صيفا وريح باردة شتاءا.أقوى كلمة ممكن أن تعبر عن الشعور بالغربة عن الوطن هي تلك العبارة. الكاتب كان موفقا بانتقاء العنوان. لفح الغربة تعكس مشاعر ورؤيا انسان عاش الغربة ومرارتها والعودة الى الوطن رغم ضيق العيش. الكاتب نقل لنا ألأحداث وصور المكان بجمالية مميزة. نقل لنا أحداث حصلت في منطقة بيت حنينا القرية التي تقع في شمال مدينة القدس. الأحداث التي كان الكاتب موفقا بانتقاء الشخوص فيها تبدو واقعية ونسمع من أجدادنا عنها، أسلوب الكاتب ممتع والأحداث سلسة، وصف لنا الأماكن القديمة بمسمياتها مثل حاكورة الدبوس.الحارة الفوقا.علية الدار.
الصّوص لقب بطل الرواية وكيف أن الكثيرين من الناس لم يكونوا يعرفون الا بألالقاب ولكل لقب قصة، مرّت ببالي ألقاب كثيرة كانت تطلق على أشخاص في قريتي سلوان مثل لقب الديك والحوت والفر والسنيور، الصباح وصفه الكاتب في صورة رائعه عندما كتب في ص 15.في أيام الشتاء تبادر العجائز بالجلوس مع أول خيط من خيوط الشمس، يتسلل من بين البيوت الشرقية، عندما غادر الصوص بيت حنينا الى يافا (بالبابور) ﻷول مرة ورغبته بالهجرة الى أمريكا كما فعل غالبية أبناء البلدة، وكيف أن صالحا شجع الصوص على الاستمرار بالرحلة، أريج بيارات البرتقال كان حاضرا بالرواية عندما مرّ الصّوص من يافا، وشاهد الصيادين وهم يلقون أحمالهم من السمك، وتحمل وجوههم تعب الليل واستبشارهم بالنهار، العساكر التركية كانت تجوب المكان وتحرس الميناء الذي رست فيه العديد من السفن الفخمة المحملة بجميع أنواع البضائع، سؤال شعرت باﻷلم عندما قرأته في الرواية صفحة 23 عندما شاهد الصوص مئات من الركاب اليهود ينزلون من السفينة القادمة من اوروبا الى يافا، وسأل صالح عن سبب مجيئهم بهذه الأعداد الكبيرة الى فلسطين فأجابه صالح: هؤلاء بنو( كوبانية) لهم بالقرب من يافا ويأتون للعمل بالزراعة وتربية البقر، عندها تساءل الصوص: الناس يأتون الى بلدنا ونحن نغادرها، السفر كان مخاطرة
رواية مؤلمة تفتح جراح الكثيرين من المغتربين، سؤال الكاتب في نهاية الرواية هل يعود ربيع القرية من جديد؟
وكانت مداخلة هاتفية للفتاة شهد محمد من طولكرم، كما شارك عدد من الحضور في النقاش منهم حسن أبو خضير.