سوريا والمفاضلة بين “الأسلمة” و “العلمنة”

تاريخ النشر: 23/03/15 | 6:42

لا يختلف اثنان على مكانةِ الدّين في المشرق والعالمِ العربيّ، فالانتماءُ العقائديّ يعدّ مُشكّلاً رئيساً للشخصيّة العربيّة، وواحداً من أبرزِ مُحرّكات الحروب في المنطقة. فلا أكثر من التنظيمات والجبهات والميليشيات والأحزابِ الّتي قاتلت هنا وهناكَ باسم الدّين، وليس الوحشُ المشرقيّ الجديد، والحديث هنا عن تنظيم «داعش»، إلّا واحداً من أشكالها.
يتمايز حُضور الدّين، عربياً، بين دولةٍ وأخرى، حيث يُشكّل لبنان، مثلاً، نموذجاً لعلمنةٍ مشوّهةٍ فرضها التحاصص الطائفيّ، وتنوسُ مِصر بين مدنيّة خجولةٍ ومشروعِ أسلمةٍ تعرّض لصفعةٍ موجعة إبان سقوطِ حُكمِ «الإخوان المسلمين». أمّا المملكة العربيّة السعوديّة، فتقدّم نفسها كنموذجٍ فريدٍ لدولةٍ «إسلاميّة» الهويّة والهوى، يقبض الدّين فيها على مفاصلِ الحياةِ جميعها، حيثُ تُدار البلاد بقوانين ونظمٍ مُستمدّة من الشّريعة الإسلاميّة وفق وجهةِ نظرٍ خشبيّة تُفسّر النصوص القرآنية بحرفيّة عنفيّة.
ماذا عن سوريا؟
افتراضُ وجودِ هويّة مجتمعيّة جامعةٍ في سوريا ليس أكثر من هراءٍ تجميليّ، فاختلافُ العقيدة أو العرقِ صار يستوجبُ، غالباً، انقساماً حولَ مفاهيمَ كثيرةٍ تطالُ أحياناً الهويّة الوطنيّة. وهذا ما أثبتته الحربُ الدّائرة فوق الجغرافيا السّورية منذ أربعِ سنواتٍ ونيّف. وهنا لا بدّ من التمييز بين التنوّع الّذي يستبطن شيئاً من التآلف، وبين الاختلافِ السّوريّ الّذي فرز نفسه، في مواضع كثيرة، على هيئة كانتونات ديموغرافيّة الطابع.
البحثُ عن حزامٍ يضمّ عمومَ الأعراقِ والطوائف والإثنيّات السّورية يستوجب تعويم سلطة قانونٍ يُخاطب المواطنِ السّوريّ المُجرّد ويغضّ النّظر عن عقيدته وشكلِ إيمانه. هذه الفكرة شكّلت جوهر التنظير «الثوريّ» لحزب «البعث». لكنّ صلابةَ «الحِزب القائد» في الدولة والمُجتمع تحوّلت تدريجياً إلى تصلّبٍ يقومُ على لغةٍ خشبيّة تهوى الَقفز على حبال المفردات، كأن يذهب بعضهم إلى حدّ اعتبارِ سوريا «دولةً علمانيّة ذات جوهرٍ إسلاميّ». أو الحديث عن «اقتصادٍ رأسماليّ بجوهرٍ اشتراكيّ».
يغصّ دُستور الجمهوريّة العربية السورية بتشريعاتٍ تُناقضُ العلمنة وتجعلُ الحديث عن بعضِ تجلّياتها أقربَ إلى ذرّ الرمادِ في العيون، فالبند (1) من المادة الثالثة في الدّستور ينصّ على أن «دين رئيس الجمهوريّة الإسلام». هذا المؤشّر السّياديّ كفيل بتشويه مفهومِ المواطنةِ من خلالِ تفضيل السّوريّ المُسلم على السّوريّ غير المسلم. ولا يبدو البند (2) من المادّة إيّاها والّذي ينصّ على أن «الفقه الإسلاميّ مصدرٌ رئيسٌ للتشريع» أفضل حالاً، وهو يُشكّل جسراً قانونياً وشرعياً يتيح الفرصة أمام تكرارِ تجربة العام 2009 الّذي شهدَ ولادةَ مسودة قانونِ أحوالٍ شخصيّة سوريّ شديد المحافظة، والحقيقة أنّ الأمثلة الدّستوريّة السابقة ليست إلّا غيضاً من فيضِ المؤشّرات الّتي تدحض الحديث عن علمانيّة الدولة السّورية، حيثُ أنّ إجراء مسحٍ بانوراميّ للواقعِ المُجتمعيّ لمدينة دمشق يُفضي إلى نتائج كارثيّة، ليس أسوأها أنّ عاصمة أقدمِ حضارةٍ في الأرض تحتوي على ثلاثةِ مسارح وثلاثةِ دورٍ للعرضِ السينمائي، فيما يزيد عدد المساجد والجوامع فيها عن 10 آلاف.
هذا الواقع ليس مُحدثاً، فالدولة السورية اشتغلت، منذ العام 2000، على إفراغِ القسمِ الغربيّ من العاصمةِ من الحانات والمطاعم الّتي تُقدّم المشروباتِ الرّوحية. نذكر هنا على سبيل المثال «اللاتيرنا» ومطعم «النورماندي» و «الفريدي» في شارع العابد والّذي استُبدل العام 2005 بمطعمٍ لبيع المأكولات الجاهزة.
هذه المظاهر وغيرها الكثير، قد تدفع البعض إلى الاعتقادِ بأنّ سوريا باتت قاب قوسين أو أدنى من التديين الكامل، وهذا لبسٌ يقتضي توضيحه الإشارة إلى أنّ اللين الحكوميّ السّوريّ جنح، ولا يزال، إلى سدّ ما أمكن من الثغراتِ الّتي يُمكن أن تُشكّل بوّابةً لشحنِ «السُنّة» السوريين ودفعهم إلى مناصرةِ اصطفافاتٍ معارضةٍ تشتغل على الإطاحة بالنظام الحاكم، وينسحب خطبُ ودّ السنّة على بعضِ عوالمِ السّياسة الخارجيّة السّورية في سنواتِ السّلم، والّتي لا مجال للخوضِ في تفاصيلها هنا.
هذا كلّه وسوريا لم تصِر «إسلاميّة» بالمعنى المشار إليه، ولنّ تصير. فبرغم المدّ الجامع للمظاهر الإسلاميّة (كالنشاط العلنيّ للقبيسيات، وانتشار دور تحفيظ القرآن بشكلٍ غير مسبوق، والتكاثر المُدهش للفضائيات والإذاعات الإسلاميّة) فإنّ سوريا لا زالت تحتفظ بمظاهرَ علمانيّة تقوم على «العُرف» الّذي يُسمّى «تعايشاً».
هذا العُرفُ جعلَ ثنائيّة (الأقليّات والأكثريّة) مُغيبةً على مستوى العلاقات الاجتماعيّة. فالسؤال عن دين السّوريّ وطائفتة كان مُحرّماً قبل 2011، وصار مُستهجناً بعدها، وظلّ الحديث عن التعميم الّذي يقول بأنّ المواطنين السّوريين متساوون، أمام القانون، في الحقوق والواجبات، مقبولاً برغم كثرةِ استثناءاته، وبرغم الحقنِ الطائفيّ الّذي شكّل متلازمةً إعلاميّةً وسمَت أداء بعضِ الميديا العربيّة، والخليجية منها بصورةٍ خاصّة، خلال عمرِ الحرب السّورية. فقد استطاع المُجتمع السّوري، والاستثناءات هنا حاضرةٌ وبيّنة، أن يُحافظ على ما تبقّى من العقد الاجتماعيّ المُهترئ الّذي يجمعه بدولةٍ تصرّ، وعلى طريقة من كلّ باقةٍ زهرة، على أنّ سوريا يجب أن تكون «علمانيّةً وذات جوهرٍ إسلاميّ».
في دمشق، تُشاهد العشّاق جالسين على درج مسجد بني أميّة الكبير في الشّام القديمة. هذا المشهد السّورياليّ يستطيع أن يختصر الهويّة المُجتمعيّة السّورية ويكشف فصامها الجميل، ويستطيع أن يُدلّل على أنّ الإسلامَ الشاميّ المُعتدل لا زال صالحاً للصهر في بوتقةِ العلمنة، وعلى أنّ فرصةَ معالجةِ التفكّك المجتمعي، الّذي يُشكّل خاصرةً سوريّةً رخوة، لا زالت متاحة.
حبلُ خلاصِ «العلمنة» قد يُزعج نسبةً من السوريين، لكنّه يُشكّل مطلباً جامعاً للبعض غير القليل الّذي يؤمن بأنّ الدّين حين يكون لله وحده، فإنّ الوطن سوف يصير للسوريين جميعهم.
رامي كوسى – السفير
kossa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة