الاسلوب هو الكاتب والمعجم الشعري هو الشاعر
تاريخ النشر: 23/03/15 | 10:05عمان – الدستور – عمر أبو الهيجاء
لكل شاعر، أو أديب، قاموسه الإبداعي الخاص، بحسب الدراسات النقدية المتخصصة، التي تؤكد أن ذلك القاموس بمثابة «روح النصّ» الإبداعي، فـ»الأسلوب هو الكاتب، والمعجم الشعري هو الشاعر، ولكن ليس كل منا من يهتدي، فالأمر يحتاج إلى متابعة ومعرفة وتدبر وأصول».
والمعجم الشعري كذلك هو «البناء الدّال على خصوصية النص الشعري، ليس دلالة لفظية يمارس معها قلقه في مواضع شتى، بل دلالة حصرية هو مُنزلها الأول في الجملة الشعرية»، وإذا كان «الشعر لغة في المقام الأول، فإن المعجم الشعري للشاعر هو الحارس الأمين على انتزاع أحقية البنية الأسلوبية التي يفرضها الشاعر على المفردات والألفاظ لشحنها بطاقة الذات».
«الدستور» استطلعت آراء كوكبة من الأدباء والنقاد، الأردنيين والعرب، حول القاموس الشعري ومدى تأثيره في سياق البنية الشعرية، أو الإبداعية، للمثقف من خلال القاموس اللفظي، الذي يستند إليه ويغرف منه معانيه وألفاظه، فكانت هذه الرؤى.
د. فاروق مواسي:
أرى أن «القاموس الخاص»، له علاقة وثيقة بالأسلوب، وإذا كان بوفون قال: «الأسلوب هو الكاتب»، فإن المعجم الشعري أيضًا يحدد تعريف الشاعر من خلال نصه الشعري. والمعجم الشعري هو روح النص، تجد في تضاعيفه الألفاظ واختيارها، وتجد الانتقال وتراسله، كما تجد طريقة الإيقاع الموسيقي أو الدلالي، أو النزول في المعنى، بمعنى طرح العبارة من دون سياق وتقديم. قلتُ: إنه «روح النصّ»، و»الروح» هنا من أمر الشاعر.
كنتُ وقعت في أكثر من امتحان لمعرفة من هذا الشاعر أو ذاك- من شوقي إلى السياب إلى نزار، عبد الصبور..إلخ فما كاد القارئ يقرأ بضعة أسطر حتى أقول: هذا والله شعر يوسف أبو لوز، أو هذا شعر يوسف عبد العزيز، أو شعر يوسف الصايغ، بالطبع يجب أن تكون هناك قراءة ومتابعة ومعرفة أولية لن أغامر في تحديدها، وأنا أزعم لنفسي أنني أتابع، وأن لدي مسبارا للصدق في النص، فهل أدعي وأغالي؟ أترك ذلك للقارئ لتصديقي أو للشك فيما خطر لي بالقول! تنتبه كاتبة لقصائد الشاعرة آمال رضوان، فتقول: انظروا إلى نصها ففيه عَناصرِ الوُجودِ والحياةِ: «ندى، ضفاف، سدود، أخاديد، فيضانات، بحر، تجلّدَ، قوسك القزحي، يفيضُ، يغسلُ، موجات وشلّالات»، فأقول: هي بينت سمات ودليلا أو مفتاحا لنصوص الشاعرة، ومن حقها أن تتيقن أن عالم الشاعر يتراوح ويتجلى بين مفردات تشكل لوحة نسميها باسم الشاعر، وأعود إلى الأسلوب لأسأل: هل كان النص ساخرًا أم ساردًا؟ هل هو يستخدم اللفظة الشعبية أم يتعمد العبارة القديمة؟ هل هو يتفلسف ويفكر أم يكتب شعرًا رعويًا؟ هل يكرر أم يقطّع الكلمات أم يتخيرها منغومة؟.. الأسلوب هو الكاتب، والمعجم الشعري هو الشاعر، ولكن ليس كل منا من يهتدي، فالأمر يحتاج إلى متابعة ومعرفة وتدبر وأصول.
الشاعر أحمد الخطيب:
لكلّ شاعر غواية، وغوايته أنْ تصبح مادته الإبداعية حاضنة لكلّ ما يؤشر على تجربته وخصوصيته، والناظر في التجربة الشعرية العربية نادراً ما يجد هذه الغواية في مدونات الشعراء، ويعود ذلك إلى تتبعهم لأصوات المنجز الشعري العربي، وعدم خوضهم في حديقة الشعر العليا.
إنّ أهم ما يميز المدونة الشعرية لأيّ شاعر، هو قدرته على اختراق المألوف، والإنصات إلى تحوّلات المفردة، في سياق ما تنتجه من دلالات جديدة بمفردها، أو في احتضانها لمفردات أخرى، عبر وسيلة انتقاء المفردات والألفاظ من منبعها اللغوي، وتجيّرها لصالح الغواية، غواية الابتكار، وغواية كل ما من شأنهِ أن يلج مرآة الذات، لا صورة المحيط، لأنّ الشاعر كفيل بالكشف عن أبعادها التي لا تُرى بالعين، بل يتقاذفها الإحساس، ويلوّنها كيف شاء، بعيداً عن مظاهر الجلبة التي يحدثها المنجز الشعري.
من هنا أستطيع القول إنّ المعجم الشعري هو البناء الدّال على خصوصية النص الشعري، ليس دلالة لفظية يمارس معها قلقه في مواضع شتى، بل دلالة حصرية هو مُنزلها الأول في الجملة الشعرية، وليس تكراراً للفظة هنا وهناك، بل الحرص على جيناتها التفاعلية، والاحتفاظ بها بعيداً عن أعين القوالب الناسخة، كما أنّ المعجم لا يقاس بترحيل المفردات في النصوص، بل بإخفاء المادة الأولى للدلالة المعجمية، والاحتفاء بولاداتها الجديدة في كل نص، فالمعجم الشعري الذي أراه هو الوقوع على تربة تخصيب المفردات، ونشوء تراكيب فنية غير مستهلكة، وغير قابلة للتخاطر الذهني بين الشعراء، هو إعادة تدوير وتشكيل، وتخصيص مقامات عليا وجديدة للاستئناس التصويري والتخيّلي للعلاقات.
وإذا كان الشعر لغة في المقام الأول، فإن المعجم الشعري للشاعر هو الحارس الأمين على انتزاع أحقية البنية الأسلوبية التي يفرضها الشاعر على المفردات والألفاظ لشحنها بطاقة الذات، فالذات المولّدة هي القادرة على تشكيل المعجم الخاص بها.
الشاعر المصري فتحي عبد السميع:
لكل شاعر معجمه شاء أم أبى، والمعجم يتكون من عدد من الكلمات تتوزع على قسمين، قسم يحمل الكلمات العادية التي نعرفها جميعا بدلالاتها الشائعة أوالعامة، وقسم يتكون من الكلمات التي ترتبط بحباة الشاعر ارتباطا خاصا، وتلك هي الكلمات التي تعبر عن معجم الشاعر، فالكلمة في النص الشعري كائن حي، يولد من أعماق الشاعر ويحمل شيئا من تلك الأعماق ، وعلاقة الشاعر بالكلمات لا تتساوي، فهناك كلمات تلتحم بحياته التحاما كبيرا،حيث ترتبط باستخدامات ما، أو ذكريات ما، أو تشكل مفاتيح لتجارب معينه أو وجهة نظر معينة في الحياة، تلك الكلمات قد تحمل قفيمة موسيقية أو دلالية حيث تمتلئ برمزية خاصة بالشاعر باالإضافة لرمزيتها العامة، تلك الرمزية الخاصة تصنع خصوصية الشاعر، أو تحدد هويته، وثراء الشاعر من حيث وعيه بطبيعة الشعر ووعيه بالحياة عموما يتجلى في تلك الكلمات ، فالمعجم يمكن أن يشير إلى ضعف الشاعر كما يمكن أن يشير إلى قوته وتميزه، وعندما ننظر في تجربة شاعر سوف نجد مجموعة من الكلمات المتكررة بشكل لافت، وتكرارها يؤكد على عمق وجودها في حياته، أو قدرتها الكبيرة على مد العون للشاعر وهو يصارع أثناء الكتابة، ومن الممكن استخراج تلك الكلمات واتخاذها محورا لدراسة تجربة الشاعر، والوقوف على تلك الكلمات المفاتيح يمكن بالفعل أن يقدم لنا رؤية عميقة لتجربة شاعر خاصة لو كانت كبيرة ، كما ينبغي في تقديري أن يهتم الشاعر نفسه بتلك الكلمات التي تتكرر في شعره، ويحرص على عدم استخدامها بنفس الدلالة، فالتكرار حين لا يقدم إضافة يمكن أن يفقد الكلمات جوهرها الحي، ويحولها إلى قطعة جامدة، أو مجرد أداة تيسر له الأمور، فتحرمه من الإبداع.
الشاعر غازي الذيبة:
قراءة المعجم الشعري لأي شاعر مرتبط بالتنشئة الثقافية و البيئة الجغرافية، هو، أي المعجم، يتشكل ضمن هذا الأفق، لكن الشاعر البارع هو الذي يصوغ منظومة من المفردات التي ترسم بصمته الإبداعية في أي نص يكتبه، وهي علامته المميزة التي يخلّق من خلالها عوالمه وصوره ورؤاه.
المعجم الشعري للشاعر لا يقتصر على المفردة وتكرارها، بل يتجاوز ذلك الى الصورة والرؤيا والمعنى والفكرة العامة للنص، بهذا يتمايز الشعراء ويشكلون خصوصيتهم وحساسيتهم، والشاعر برأيي الذي لا يمتلك معجما أو خواص إبداعية يفقد نصف إبداعه.
الشاعر يونس أبوالهيجاء:
اللغة عصبُ البناء الفني للنص الأدبي، وهي أهمُّ ما يمكن أنْ ينماز به النص المعيّن عن غيره من النصوص على اعتبار أنَّ النص الأدبي عامّةً والشعريِّ خاصّةً مرآةُ صاحبه وبصمتهُ المنتقاة، وبما أنَّ اللغة واحدة من أهم الأدوات السحرية التي يمتلكها الشاعر لابدَّ لها وأن تظهر بمظاهرَ مختلفة وتتشكّل وفق رؤى متنوّعة تبعًا لاختلاف البيئة الشعرية لذلك الشاعر وتبعاً للأبعاد الثقافية التي نهل منها تجربته، وباختلاف البيئات تختلف اللغة المحاكية لها فلابدَّ وأن يكون لكلِّ شاعرٍ معجمه اللغوي واللفظي الخاص به والذي يميّزه عن غيره في الانتقاء والاستخدام والتجديد والبناء، وهذا لايتأتى إلا إذا سبقه رؤى لغوية خاصّة وتجربة معجميّة متعمّقة، فالشاعر المجدد هو الذي ينفث روح المعاني الجديدة في الألفاظ المستهلكة أولاً ثمّ يعود لجذور الألفاظ في تخومها ويُعيدُ تشكيلها من جديد على هيئاتٍ مغايرة للنسق التقليدي لذلك البناء القديم، ولا يعني ذلك اللعب باللغة والاستهزاء بها وإنما هي الولادات الجديدة المستنسخة من أمّهاتٍ عربيّات الأصل والمنشأ، ومن هنا كان لابدً من توضيح فكرة الاستخدام حيث أنَّ البناء الصرفي للّفظة الواحدة في العربية تحمل في طيّاتها الكثير من التحولات الشكلية والمعنويّة والعبرةُ تعودُ لاقتناص اللحظة الشعرية لتلك اللفظة حين بلوغها وتنقيحها بالرؤى الجديدة لتُنجبَ معانٍ فريدةِ ينماز صاحبها بها عن غيره ويتفرّدُ، لذلك كانت اللفظة في العربية تُفسّرُ بمعايير المعجم اللغوي والمعجم السياقي والمعجم البيئي والمعجم الدلالي وغيرها إلى أن بات لكلِّ شاعرٍ معجمٌ خاصٌ به لألفاظٍ أنجبهم هو على طريقتهِ بين الأصل والتجديد عبر رحلته الطويلةِ مع اللغةِ وبناتها ولنتمكّن من دراسة حالةٍ شعريّةٍ جديدة ونسبرُ أغوارها لابدَّ لنا أولاً بالوقوف على مفرداتها كاملةً من ألفها إلى يائها.