مع ديوان "ضحك على ذقون القتلة" للشاعر الراحل طه محمد علي
تاريخ النشر: 13/12/12 | 3:24هذا هو الديوان الشعري الثاني للشاعر الفلسطيني الراحل طه محمد علي ، ابن قرية صفورية المهجرة، واحد تضاريس الادب الفلسطيني ورموز الثقافة الوطنية الفلسطينية الجديدة في هذه الديار. وكنا عرفنا طه منذ الخمسينات قاصاً مجيداً وشاعراً اصيلاً وناقداً جاداً ومثقفاً عميقاً ، حيث نشر قصصه واشعاره ومقالاته الادبية والنقدية في الصحف والمجلات والدوريات الفلسطينية المتعددة . وكان قد اصدر في العام 1983 ديوانه الاول “القصيدة الرابعة” .
وقصائد ديوان “ضحك على ذقون القتلة” هي وليدة المعاناة والحزن العميق والاحساس الصادق ، ومفعمة بحب الارض والوطن والانسان ، وبالحنين والشوق الى الذكريات الحلوة وللماضي الجميل في ربوع صفورية الخضراء، وملأى بالرفض والغضب على الواقع المهترئ والدعوة الى الانطلاق نحو الأفضل والأجمل.
وهي كذلك تستلهم العذاب والهم الانساني وتبرز الانتماء الوطني والطبقي للانسان الفلسطيني المعذب والمقاوم ، وتتغنى بالبطولات والملاحم الاسطورية التي سطرها ابطال الحجارة الفلسطينية ، وتبشرنا بالسلام والحرية.
واننا نحس بحنين شاعرنا طه الى قريته “صفورية” ، التي غدت اطلالاً ،وكان يحج اليها كلما عصفت في قلبه نيران الشوق ، في رائعته “ناقوس مرور الاربعين على تخريب قرية” .. حيث يقول:
صفورية!!
ماذا تفعلين هنا
في هذا الليل المجوس
الطائف على ذاته
عكوف القلب
على البغضاء!؟
واين اقراطك!؟
اماشطة انت
ام مشنقة!؟
ام كنت ملكة
فاين كوفيتك وعقالك؟
وان كنت راقصة
او عين ماء
فاين جواد شرحبيل؟!
ويتجسد حبه لوطنه المقدس ، الذي التصق به حتى النخاع في قصيدة “حبل صبحة” ، التي تروي قصة بقرة ابو هاشم ، التي اكلت الحبل فذبحت على نور القناديل واصبحت رمزاً للوطن الذبيح:
شايف يا ابو احمد!
ان بلدنا مليحة
صحيح كانت فيها اوقات علقم
لكن مرارها طيب
يشبه مرار الصلت
واطيب..!
شايف..
شو كاينه بلدنا مليحة؟!
مليحة..؟
هه..!!
قال مليحة..قال
ولك..!
وكتاب اللـه العزيز
انا سعيد وبفضل
ومن كل قلبي موافق
اكون يومها بلعت حبل
اطول من حبل صبحة
بس نكون
بقينا ببلدنا..!!
وفي قصيدة “الباشق” يكشف طه عن حزنه ، الذي هو في الواقع ، حزن كل فلسطيني. ومن خلال هذا الحزن يرى الخلاص لنفسه ولشعبه ولكل المقهورين :
ما يحيرني
يا حزني
امك اكبر مني
اعمق من يقظتي
واكثر بعداً
من كل احلامي..!!
بصماتك اشد تعقيداً
من هويتي.
اما في “ضحك على ذقون القتلة” فيخاطب قاسم الذي عرفه قبل النكبة ، وقضى معه الطفولة المعذبة ، ولعبا لعبة الغميضة بين ازقة صفورية :
فاسم
ولي
اين انت؟!
انا لم انسك
خلال هذه السنسن
الطويلة كأسوار المقابر
دائماً
اسأل عنك العشب
واكوام التراب
أأنت حي، بعكاز وهيئة وذكريات..؟
وهل تزوجت
ولك خيمة واولاد
هل حججت؟!
ام قتلوك
على مداخل تلال الصفيح!!
وتستوقفني قصيدة “عبد الهادي يتصدى للدول العربية” ، التي تعبر عن اليأس والكفر بكل القيم والمثل الانسانية ، حيث يرمز عبد الهادي للفلسطيني المعذب اللاجئ، الذي ذاق مرارة البعاد والغربة، وتصدى ببسالة للقوى الغازية في بيروت الصمود ، في حين وقفت الانظمة الرجعية تتفرج على ذبحه. وفي هذه القصيدة نجد سخرية لاذعة من الانظمة الرجعية وتعرية لمواقفها المخزية..فيقول:
من عبد الهادي
في بيروت الغربية
الى عنوانكم اعلاه
في الوطن الغائب
اما بعد :
بعد الصلاة والسلام
على خير الخلق وسيد الانام
اعلمكم
باني غافلت الحكام العرب
وفجرت البحارة الامريكان
وطردنهم من لبنان..!
للبيان والتدبر حرر
ولجر الانتباه وقع!
ولغة طه محمد علي في هذا الديوان بسيطة وواضحة ، وصوره الشعرية جميلة وشائقة، وتعابيره عميقة وموحية ، واسلوبه رقيق يلامس شغاف القلب ، والكثير من قصائده يمكن ادراجها وتصنيفها ضمن دائرة “القصة الشعرية”. وقد نجح في توظيف التراث والاستفادة منه ، ويتبين ذلك للقارئ من خلال قرائته لنصوص الديوان.
وفي النهاية ، يمكن القول :ان طه محمد علي شاعر قضية ، اما ديوانه فهو تحفة شعرية ، وقد شكل عند صدوره اضافة نوعية للشعر الفلسطيني الملتزم بالقضايا الوطنية والانسانية والتحررية ، بعيداً عن الشعاراتية الفارغة.