تشريح القصيدة المحور في " طائر " سامي مهنا

تاريخ النشر: 14/12/12 | 11:12

الناقد : نور عامر الجليل

ربما ينبغي لنا أن نستفتح بقصيدة ” لا أريد منك سوى نفسي ” من الديوان الجديد

” تلاوة الطائر الراحل ” للشاعر سامي مهنا.

فهذه القصيدة تفصح عن نفسها كقصيدة محورية ، أو مركزية ، وهي مغرية للنقد بحيث يجْتَس القلم فيها دروبا عدة تفضي الى ملامح مختلفة ، يبدو أنها حصيلة مخاض عقلي وشعوري مكثف ، أثمر كمًا كبيرا كان ضرورة لاكتمال السياق بشكله الطبيعي .

لقد عرّف رومان جاكبسون الشعر بأنه : ” اللغة الموظفة جماليا ” . وهذه الجمالية تتوافر عند سامي مهنا ، تترغل في القصيدة ومنذ لحظاتها الأولى : ” ضعْ وردة بيني وبينكَ / واحتضن ضوءا تهافت / من جموح الموج ….. ” .

ولا يخفى ولع الشاعر بانتقاء واختيار المفردات وبكل عناية . وإن كانت هذه العملية مستحسنة في الشعر ، إلا أنها تقلص من نسبة العفوية ، وقد يقع الشاعر في التكلف كقوله : ” الوعي المرتّب ” .

والشاعر يتخطى في بعض سطوره ما ألفته الأسماع من الشعر، مما يتواءم مع ما نادى به حازم القرطاجني : وجوب الغرابة والتعجب في الشعر.

” لنفترش نهرا يهب / على نواحي الروح في فيض الضفاف ” .

ويتكرر ذكر الروح ( النفس ) إحدى ملكات الإدراك عند الانسان، ترتاد هنا ما يوافق هواها ويغذي رغبتها : ” في هذا المدى القُدسي / يحتفل المكان بعاشقين تدرجا شغفا / كعزف يرتقي بالروح نحو الانخطاف .

تعبير ثري، بإيحائه، وبصيغته الحداثية !.

كذلك يتكرر ذكر ” النبيذ “، السائل المعشوق عند الشعراء منذ الجاهلية، مرورا بالعصر العباسي، حتى اليوم. إلتهمناه سالفا شعرا مضفورا بأغنى الدلالات واصدق المناسبات. واليوم نتلقاه وقد فرغ ـــ غالبا ـــ من المعاني العميقة وفنون القول ، يُزَج في النصوص تزويقا ، أو تقليدا ، أو تيمنا بالملك الضليل : “لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر “.

ماذا ترون في التعبير التالي لسامي مهنا : ” ضعْ وردة فوق انكسار الضّوء / في صحو النبيذ ….. لنرتقي “.

وإذا كان الشعراء قد تناولوا وبكثرة ” القُبّرة ” ، التي ” تحمل الى السماء فرح الأرض ” كما عبر ميشليه . فقد أصبح طائر النورس محط الإهتمام ؛ ويمكن القول أنه أصبح أسلوبا جماعيا في الشعر . لذلك ليس من السهل دائما ـــ ولظروف مختلفة ـــ أن يحوّل الشاعر ، أي شاعر ، الأسلوب الجماعي الى تجربة ذاتية . يكفي في هذا الصدد أن سامي مهنا قد أولَ هذا الطائر الرمز أهمية متشحة برؤية إبداعية :

” دعْ موعد اللاوعي يكتب نوتة الخطوات / فوق الشاطئ المنسيّ / لا تتركْ نوارس بحرك / المنثور بين حديقتين من الغروب ” .

من اللافت أن الشاعر يطمح بأن يكوّن له عالما شعريا متميزا مبتكرا. بيد أنه ينساق أحيانا الى تكريس حقائق عامة معروفة، كقوله : ” لا جمالا دون رأي الذوق ” .

ان ضرورة الذوق للإنسان اجتماعا وفنيا ، قضية ثابتة ومفروغ منها .

وقوله : ” فالشعر لا يتنفس الإلهام إلا في السماء ” .

فهذه مسألة حُسمّت من زمان : ان الشعر يحتاج الى مناخ من الحرية كي ينمو وينتشر القصيدة مشحونة بالتخييل والخيال والرموز . وإذ نمعن النظر في هذه الخطوط، نجد التخييل وفيه جوانب من الوهم والمبالغة ! ثم نكتشف الخيال المحلق يبعث في نفوسنا التشوق والإثارة ! . وكأني بالشاعر في لمحة من هذا الخيال يحاول الهروب من واقع ما ، واقع مزعج ربما ؟ ! .

وفي الرموز التي هي وسيلة توفير لعمليات عقلية – كما مر معنا – استغلها الشاعر في تكثيف العبارة ؛ مما يتيح لنا استشفاف أشياء كثيرة في ثوان ، زمن القراءة :

” وأريد صوتكِ كي أرى الأسماء في الأشياء / كي أتنفس البَرّ المشع على عيون غزالة / وأضيع كالسحب الشّريدةْ ” .

وثمّة نقطة تستحق الإنتباه ، وهي أن الشاعر يواكب عجلة التطور اللغوي لفظا واسلوبا :

” يا امرأة تعيد تشكل الدنيا / وتحملني إلى السُدُم البعيدةْ ” ( النجوم ) .

لو قال الأرض البعيدة ، لَمّا كان للمعنى من أثر يذكر ، نظرا لوسائل النقل الحديثة أذابت المسافات .

أيمكننا اعتبار قوله مجازا ؟ . على أساس ان المجاز ظاهرة لغوية تقوم قبل كل شيء على نقل الألفاظ من المعاني القديمة الى المعاني الجديدة .

وبخصوص الفكرة فهي جيدة دون شك، لكن الشاعر يسعى إلى إظهار فكرته ، وكأنه يحثنا على الإعجاب بها ! وهذا مأخذ عليه ،إذا سلمنا بقول بول فاليري : ” يجب أن تكون الفكرة خفية في الشعر ، كما هي القيمة الغذائية للثمر ” .

لقد قرر الأولون استحالة الخلق من العدم ، في الأدب وغيره من الإنجازات البشرية. وحديثا أوضح أدونيس النظرة الاتباعية للشعر ، والتي ترى أنه كسب لا خلق .

وفي هذا ما يدعم رأينا ان ثقافة سامي مهنا الواسعة المتنوعة ، ساهمت بأن يرقى بقصيدته إلى مستوى يؤكد مصداقية هذه الشاعرية المعطاء.

كتب قي هذا السياق:

رؤيا طائر فلسطيني راحل…”قراءة في قصائد الشاعر سامي مهنا”

“تلاوة الطائر الراحل ” للشاعر سامي مهنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة