عادة من عادات الفنلنديين
تاريخ النشر: 02/12/12 | 13:28
يدأب الفنلنديون المسنّون أيضا على الاحتفال بعيد ميلادهم لا سيما إذا كان العمر خمسين عاما. يَعتبر المجتمع الفنلندي هذه المناسبة محطّة هامّة وسارّة في سحابة حياة الإنسان على هذه الأرض. من الفنلنديين من يحتفل بعيد ميلاده هذا على نطاق ضيّق، يقتصر على العائلة المصغّرة، أو يسافر الزوجان إلى خارج البلاد كما يُفصح عن ذلك في الصحف المحلية. من ناحية أخرى هنالك الكثيرون الذين يحتفلون بهذه المناسبة، نصف قرن من العمر، على نطاق واسع، يشارك فيها الأقارب والأصدقاء وقد يصل عددهم إلى مائة شخص أو أكثر.
اشتركنا مؤخرا، زوجي وأنا، في مثل هذا الاحتفال لأحد أبناء عم زوجي الذي بلغ من العمر ثمانين عاما وهو أكبر فلذات أكباد الأعمام والعمّات سنّا. وصلتنا الدعوة الورقية قبل موعد الاحتفال بأسابيعَ عديدة وفيها ما تلزم معرفته بخصوص مكان الاحتفال والبرنامج وإمكانية حجز غرفة للمبيت في الفندق ذاته، مكان الاحتفال، بسعر مخفّض. عادة يلبّي كل المدعوين مثل هذه الدعوات ويحاط صاحب الاحتفال علما بخصوص التأكيد على الحضور أو الاعتذار في وقت مناسب. كان الاحتفال في فندق ودار نقاهة في متنزّه وطني يقع في مدينة توركو التاريخية. الاسم “توركو” مشتق من اللغة السلاڤية القديمة ومعناه “السوق”، وتقع هذه المدينة على الساحل الجنوبي الغربي في فنلندا الواسعة، ٣٣٧ ألف كم٢، واسمها بالسويدية، اللغة الرسمية الثانية في البلاد، “أوبو” (Åbo) وهي من أقدم مدن البلاد وأعرقها. يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر وتعتبر أهم مدن فنلندا من ذلك القرن ولغاية سنة ١٨١٢ وكانت العاصمة الأولى لفنلندا في الفترة ما بين ١٨٠٩ و ١٨١٢. يقع الفندق المذكور في قلب غابة على أحد شواطىء بحر الجزر حيث يتقاطع بحر البلطيق وخليج فنلندا وخليج پوثنيا. وردت في الدعوة أيضا معلومة لافتة للبصر والبصيرة مفادها أن المحتفِل أوالمحتفَى به لا يودّ تسلّم أية زهور أو ورود ولا هدايا كما هي الحال في مثل هذه المناسبات، بل يطلب من المدعوين التبرّع بما تجود به أريحيتهم من مال وفق حساب بنكي فُتح خصيصا لهذه الغاية لصالح مؤسّسة أبحاث مرض السرطان. وصل مبلغ هذه التبرّعات حتى نهاية الحفل الذي استمر أربع_ خمس ساعات إلى أربعة آلاف يورو ونيّف. من سمات مثل هذه الاحتفالات المعتبرة في فنلندا أعرّج على ما يلي. يأتي المدعوون قبيل الموعد المحدد مرتدين الملابس الرسمية ويصطفون بالدور بصبر بيّن وهدوء لمصافحة المحتفَل به وزوجه الواقفين في صدرالقاعة، ثم يقوم أحد ضئضئي الأسرة وبيده قائمة أبجدية بأسماء الضيوف بإرشاد كل ضيف إلى المائدة الخاصة به. الموائد مرقّمة وقرار توزيع الضيوف علىها كان قد قرّره أصحاب الحفل بكل دقّة واهتمام. يتسلّم كل ضيف كأسا من الشامپانيا بعد المصافحة والتهنئة وينتظر لرفعها وقوفا على نخب صاحب العيد الذي يرحّب بكل الضيوف الذين لبّوا الدعوة وقدموا من أماكن بعيدة، مئات الكيلومترات أحيانا. تُعتبر الموسيقى عزفا وغناء من أبجديات مثل هذه الحفلات واللقاءات الاجتماعية في هذه البلاد الشمالية، العزف كان على البيانو والغناء كان جماعيا شمل أغنيات حنينية (نوستلجية) مختارة حمل بعضها هذه العناوين “أرض الحكاية”، أغنية الصديق”، “ثانية إذا استطعت القدوم إليك”، “أنوار موسكو”، “النجمة والملاح الشاب”، “الشباب الذهبي”، “مساء لا يُنسى”. تبدأ مثل هذه الاحتفالات بفقرة قصيرة يُعدد فيها أحد أبناء أو بنات صاحب الاحتفال المدعو بالفنلندية بـ “بطل اليوم” (päivänsankari) أهم مراحل حياته وميزاته العامّة من مهارات ومواهب وهوايات وطرائف، يعقب ذلك عرضٌ لصور فوتغرافية تذكارية له مع أسرته منذ الطفولة المبكرة وحتى اليوم، يُعلّق عليها بإيجاز دون أي لف أو دوران، إذ أن لكل كلمة إضافية ينبغى أن تكون لها ضرورة وفائدة. تناول طعام العشاء يتمّ بالدور لا نوادل أو نادلات، اللهم إلا اثنتين أو ثلاث يحرصن على توفير ما يلزم وتلبية طلبات الحضور الخاصة، أسرة المحتفل به تتوجّه أولا إلى الموائد المعدّة العامرة بما لذّ وطاب من طعام فنلندي لاختيار ما يطيب لكل فرد منها، يجيء بعدها دور جالسي الطاولة المجاورة وهكذا دواليك حتى آخر ضيوف الطاولة الأخيرة. من عادة الفنلندي الرجوع إلى مائدة الطعام أكثر من مرة للاستزادة ولا يرى الملاحظ صحونا فيها بقايا طعام إذ أن الشخص يعرف ما ينتقي من ألوان الأكل ويأتي عليها كلها. من مميزات الطعام الفنلندي الأسماك على أنواعها لا سيما سمك السلمون الطازج والمدخّن والبطاطا المسلوقة والخضراوات. هنالك فرصة يُعلن عنها في الوقت المناسب لإلقاء أية كلمة من الحضور وهي غالبا ما تكون مختصرة وشديدة التركيز تلقي بعض الضوء على جانب أو عدة جوانب في شخصية صاحب العيد. كما يقوم الضيوف بتسجيل أسمائهم في “كتاب الضيوف” للذكرى والتاريخ. يرى معظم الفنلنديين في احتفالات كهذه فرصة سانحة للقاء الأقرباء والأصدقاء الذين نادرا ما يتسنّى لهم اللقاء بهم وجها لوجه لكثرة الأشغال وابتعاد أماكن السكن عن بعضها البعض قد تصل مئات الكيلومترات. احتساء القهوة الفنلندية الفلترية وتناول الكعك يختمان الاحتفال ثم يصافح الضيوف “بطل اليوم” وزوجه ثانية متمنين له سنين طويلة من الصحة والسعادة بقدر الإمكان وشاكرين لهما كرم الضيافة ودفء الاستقبال.
بقلم أ. د. حسيب شحادة , جامعة هلسنكي