ريتا عودة في ندوة مقدسية
تاريخ النشر: 03/04/15 | 21:33ضمن التواصل بين كتاب القدس وإخوانهم كتاب الدّاخل الفلسطيني استضافت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، الأديبة النّصراوية ريتا عودة، حيث ناقشت بحضورها كتابيها:
“أنا جنونك” القصصية الصّادرة عام 2009، وتحوي المجموعة التي يحمل غلافها الأوّل لوحة لبيكاسو وتقع في 107 صفحات من الحجم المتوسط حوالي خمس وعشرين نصّا قصصيّا.
كما ناقشت ديوانها الشّعريّ: “سأحاولكِ مرّة أخرى” الصّادر عام 2008 عن بيت الشّعر الفلسطيني في رام الله، والذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنّان رابي خان، وقدّم له الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة.
بدأ النقاش مدير الندوة ابراهيم جوهر فقال:
الأديبة ريتا عودة وهي تهدي شعرياتها التي حملت عنوان (سأحاولك مرة أخرى) إلى (اللغة التي كلما حاولتها باغتتني باحتمالاتها) إنما تعنون كتابها ليصل إلى المرسل إليه بوضوح عنوان بعيدا عن ضبابية الحيرة. اللغة هي المرسل إليه وهي تتشيّأ في دلالة على سلاح التغيير والتعبير المستخدم في معركة الحياة الجديدة التي تنادي بها الأديبة ريتا عودة.
إنها تعتني باللغة وتلاطفها وتفجّرها وتفاجئها وتعيد صياغة جملتها اللغوية بوعي وتقصّد لتبني معمارها على هواها تماما كما خططت له هندستها المسبقة وفق مشروعها الفني الخاص.
هذه أديبة تسير في حقل الأشواك لا تتسلّح بغير اللغة والعاطفة، وبهما معا تواصل سيرها لتومئ للآخرين المنتظرين بلغة القدوة لا التصريح: اتبعوني إن أردتم. سيروا على وقع خطاي في درب المحاولة والتجريب ولا تغرّنّكم المقاعد الجاهز ولا الغرف المؤثثّة فهي تصادر فراشات تجربتكم وتسلمكم إلى التقليد.
من هنا كانت الأديبة ريتا عودة تحاور الآخرين وتتناص معهم: شعراء وأنبياء وأساطير وحكايات خيالية لتعلي من مكانة المرأة الأنثى والمرأة المبدعة والمرأة الذكية التي تغلّبت على سادية شهريار.
يمكن للدارس الوقوف عند حدود لغة الأديبة ريتا عودة في معمارها الفني الذي شكّلته شعرياتها في كتاب (سأحاولك مرة أخرى). إنها لغة هادئة حينا، مراوغة حينا آخر، ذكية واثقة حينا، متحدّية حينا. تبني جملتها المفيدة بصياغة مفاجئة لتدهش قارئها. سريعة الإيقاع ذات إيحاءات متطاولة شاسعة المساحة حينا، حزينة الوقع مجزّأة التشكيل حينا آخر.
اعتمدت الأديبة هنا على الأحرف المجزأة لتشكّل صورتها في عدد من المواقف لتعبّر عن الحالة الموصوفة فصار تشكيل الجملة زاوية حادة، وفراشة وشجرة وبحيرة ماء، وصار التشكيل اتجاهات مرور وإشارات اختلاف.
إنها ترسم لوحتها باللغة والتشكيل والمعنى، ولا تنتظر طويلا بل تسرع في التعبير القلق كأن الريح تحت قلمها تؤرجحه في فضاء اللغة والحياة.وحول المجموعة القصصية”أنا جنونك” قال جوهر:
ريتا عودة في (أنا جنونك) تصرخ ليصل الصوت إلى غايته
تراوحت أساليب التعبير بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والقصة الفكرة والقصة الشخصية والقصة الموقف. لقد نقلت الكاتبة واقعا متشظّيا فيه البؤس والحرمان وفيه الظلم السياسي والضياع والحيرة والاغتراب، وفيه البحث عن الذات الشخصية والقومية بما أملته الحالة الانفعالية لحظة الكتابة بعيدا عن الاهتمام بأساليب التعبير المطروقة التي تحدد اندفاع الكاتبة في حدود الجنس الأدبي المتعارف عليها. إنها تواصل بحثها عن قالب يستوعب قضاياها وعن لغة تنقل معاناتها وتفجّرها الداخلي.
لقد أرادت الكاتبة في مجموعة (أنا جنونك)أن تصرخ ولم تلتفت للقالب الذي ستصب فيه صرختها لأن المهم لديها أن تصرخ. والكتابة عندها كما تعرّفها هي (فعل بقاء، وفعل ارتقاء. هي جنوني كما أنا جنونك) – صفحة 5 – لذا حاورت علامات الترقيم والذئب والآخر. وكل آخر هو مواز لها حتى يندغم في روحها ويسير معها في معادلة الحياة التي تؤسس لها.
في مجموعتها (أنا جنونك) تكتب ريتا عودة بوعي الفكرة والانتماء لها فجاءت نصوصها محمّلة برسائل وإيحاءات لتستفز الكامن المسكوت عنه في العلاقات البينية بين الإنسان وآخره.
وقال جميل السلحوت:
هذه هي المرّة الأولى التي أقرأ فيها قصصا لأديبتنا، وكانت مفاجئة لي كوني أعرف أن أديبتنا شاعرة، وتبيّن لي أنّها قاصّة ولها روايتان قصيرتان أيضا كما جاء على غلاف مجموعتها القصصيّة، وجهلي باصداراتها السّرديّة لا ينتقص من أدبها شيئا.
واعترافي هذا يأتي لصالحها طبعا، حيث أنّني من المعجبين بشعرها ولغتها –مع أنّني لا أعرفها شخصيّا- وهذا يعني أنّ شهادتي حول قدراتها الأدبيّة تأتي محايدة لا تأثيرات عليها، وإن كنت أعترف بأنّني لست ناقدا محترفا، وأزعم أنّني أقرأ الأدب وأتذوّقه، وأكتب انطباعاتي الشّخصية حول بعض قراءاتي. وطبعا ستكون لي قراءة لأحد دواوينها الشّعرية، مع تخصيصي هذه القراءة المتواضعة لمجموعتها القصصيّة”أنا جنونك.”
وقد لفت انتباهي في قراءتي لبعض نتاج أديبتنا هو ثروتها اللغويّة الواضحة، وارتكازها في نتاجها على جماليات الّلغة لتخدم مضامين نصوصها، فالّلغة الشّاعريّة واضحة في نثرها أيضا، ممّا يزيد نثرها جمالا على جمال…ونصوصها تشي بثقافتها الرّفيعة، ممّا يثبت بأنّها مطالعة ومطّلعة على الكثير من موروث ثقافتها العربيّة، وثقافات أخرى، ويبدو أنّ دراستها للغة الانجليزية قد أعطاها فسحة أخرى للمطالعة بهذه اللغة، وبالتّالي فإن التّزاوج الثّقافيّ عندها مع موهبتها الأدبيّة ينضح بالتميّز.
وممّا يلفت الانتباه في كتاباتها الأدبيّة أنّها تكتب وتبوح بلسان أنثويّ، أي أنها منحازة لبنات جنسها، وهذه نقطة أخرى لصالحها…وواضح لمن يقرأ نتاجها أنّها تكثر من استعمال البحر والسّمك في نصوصها، وسواء جاء ذلك بشكل مقصود أو عفويّ، فإن لذلك دلالاته الّلغويّة والمعنويّة أيضا…فالبحر عميق لا حدود له، والسّمك هو ابن البحر الذي يعيش في أحضانه أيضا.
وإذا عدنا إلى بعض نصوصها القصصيّة سنجد في بعضها انحيازا لقضايا شعبها وما يعانيه من اضطهاد وتمييز، ويظهر ذلك جليّا في قصّة”الفستان الأحمر” حيث جاء فيها: “بدأت أعبر الشّارع الفاصل كحدّ السّيف بين الحيّ العربيّ المهمل عبر سنوات الجفاف، والحيّ الآخر المزروع بالجنّة”ص9. والحديث عن حيفا طبعا، وهذه إشارة واضحة إلى التّمييز بين العرب واليهود في حيفا المدينة المختلطة، وبالتّالي فإنّ هناك من يقف حائلا بين خروجها من “الحيّ العربيّ المهمل، وبين دخولها للحيّ اليهوديّ”المزروع بالجّنة” تقول: (خطواتي متثاقلة كسلى، صرخ أحد السّائقين الذي كاد يدهسني بشاحنته الضّخمة، “عمياء…الضّوء أحمر.)ص9 وطبعا فإنّ عبور الطريق في الضّوء الأحمر ممنوع، والذي صرخ بها جنديّ طبعا. وهذا الجنديّ يذكّرها بممارسات جنود الاحتلال القمعيّة فماذا كانت ردّة فعلها؟ “بدأت تتراقص في ذاكرتي صور أجساد مبتورة، وبيوت مهدّمة، دموع، هلع، دم، صور تطالعنا بها النّشرات الاخباريّة كلّ يوم، بل كلّ ثانية”ص9. وهي تتعاطف مع أبناء الكادحين والمحرومين أيضا، فالسّاردة التي تتحدّث بلغة”الأنا” في وهي عاملة بسيطة فقيرة تعيل براتبها الذي لا يتجاوز الألفي شاقل أهلها وإخوتها الثمانية، كان في خاطرها أن ترتدي فستانا جميلا أحمر الّلون، رأته معروضا في واجهة إحدى المحلّات، فسألت البائعة عن ثمن الفستان(كم؟ همست ببرود ” ألف”)ص11 ورغم حاجتها الماسّة للألف شاقل إلا أنّها قرّرت شراء الفستان، فأخرجت ألف شاقل من حقيبتها؛ لتدفعها ثمنا للفستان، وكانت المفاجأة:” ابتسمت المرأة بإعياء ولم تتناول المبلغ، ابتسامتها الصّفراء شلّت حواسّي، بعثرت هدوئي، قالت: ألف دولار “تركتْها خائبة و”استدارت لتحيّي امرأة تلفّ جسدها بالفراء”ص12، إذا فالفقراء غير مرحّب بهم في هكذا محلّات.
وفي قصّة “وقد لا يأتي” ص48 تثير أديبتنا قضية غاية في الأهميّة، وهي منع الزّواج بين أتباع الدّيانت المختلفة، فقد صاح والد الفتاة بها:”تخطّطين أن تضعي رأسي في الطين؟” ص48، فردّت البنت التي كانت تنتظر المساعدة من والدتها:”كيف أضع رأسكم في الوحل وأنا أسعى لرباط مقدّس؟ “ص49 فعاجلها بالسّؤال:”هل فاتك أنّه من غير دينك؟”ص49 واجتمع وجهاء العائلة من مناطق مختلفة و”قرّروا أن يقوم أبي وابن عمّي بالمهمّة، ثمّ عاد كلّ إلى تجارته وخمّارته وبقيت وحدي”ص50، وعندما استلّ والدها السّكين وهجم عليها لذبحها:”أجفلتُ…انتفضت كقشّة في مهبّ الحقد…صرخت من قحف رأسي: يمّاااااا…صرخ بي أن أصمت صونا لكرامتي”ص51 وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تتساءل”متى ترقص الفراشات الحالمة حول قناديل العشّاق؟ متى؟ متى؟”ص51.
أمّا بالنّسبة لديوانها”سأحاولكِ مرّة أخرى” فإنّ ريتا عودة تختزل الرّواية بقصيدة فالدّيوان لافت من عنوانه، مع أنّ هذا العنوان هو عنوان قصيدة في الدّيوان، لكنّ الخطاب في القصيدة من أنثى لذكر “سأحاولكَ”على عكس عنوان الدّيوان فالخطاب من ذكر لأنثى! وبالتّأكيد فإنّ الشّاعرة لم تخطئ، بل قصدت هذا الاختلاف مع سبق الاصرار والتّرصد، فإذا كان الذّكر يحاول الأنثى، فالعكس صحيح أيضا، ومن حقّ القارئ أن يتساءل عن اختيار الشّاعرة خطاب الذّكر للأنثى في عنوان الدّيوان، بينما عكسته في الدّاخل. فهل أرادت أن تتساوق مع ثقافة شعبها وأمّتها التي تبيح للذّكر أن يتغزّل بالأنثى، ويبوح بعواطفه على رؤوس الأشهاد، بينما الأنثى تخفي عواطفها في دواخلها؟ فكلّ الاحتمالات قائمة، ومن حقّ القارئ أن يفهم النّص حسب ثقافته ووعيه، خصوصا أنّ الابداع بعد نشره يعتبر ملكا للمتلقّي. وهذا يقودنا إلى الاهداء الذي اختارته شاعرتنا، وهو:” إلى الّلغة الّتي كلّما حاولتها باغتتني باحتمالاتها” وهذه يعني أنّ مفرداتنا الّلغويّة حمّالة أوجه…وبحر الّلغة هذا مفتوح أمام الجميع، فليغص به الجميع، والحاذق هو من يستطيع الفوز بلآلئه الأثمن والأغلى. وواضح أنّ شاعرتنا غوّاصة تجيد العوم والغطس في لجاج بحر الّلغة، وتعرف كيف تنتقي مفرداتها، وكأنّها ساحر يخرج من قبّعته ما يدهش متابعيه…وانتقاؤها لمفرداتها لا يعني أنّها تتصنّع الّلغة، فموهبتها الابداعيّة خصوصا في الشّعر – مع أنّها تكتب القصّة والرّواية- تجعل لغة أغنياتها الشعريّة انسيابيّة تغزو الأذن بسهولة، فتشعل ذائقة المتلقّي وتغذّيها بمعزوفات عذبة.
وتقديم الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة- الّذي يتغنّى هو الآخر بجماليّات الّلغة- للدّيوان، أضاءت جوانب عديدة حول الشّعر وشعريّة شاعرتنا، ولمعرفتي بقدرة الشّاعر الرّيشة، فإنّني لم أقرأها إلا بعد أن انتهيت من قراءة الدّيوان، ووضعت ملاحظاتي عليه، كي لا أقع تحت تأثير ما كتب. فوجدت تشابها كبيرا بين رأيي ورأيه، حتّى أنّني فكّرت بعدم الكتابة عن الدّيوان حتّى لا أكرّر شيئا ممّا كتب.
ومع ذلك فهناك في الدّيوان ما يستحقّ الانتباه والتّفكّر والكتابة، خصوصا وأنّ هناك قراءات وليس قراءة واحدة للابداع وخصوصا الشّعر، ففي قصيدتها “يحبّني بالثّلاثة” ص23، نلاحظ الدّهشة من العنوان، يقول بلزاك:”العدد ثلاثة علامة الخلق، وهو عدد يعجب الله” والعدد ثلاثة مقدّس عند السّاميّين، وكانت آلهة البابليّين العظيمة ثلاثة، واحدة للسّماء وواحدة للأرض وواحدة للمياه. والتّثليث معروف في الدّيانة المسيحيّة، فسرّ التّثليث يقول بثلاثة أقانيم في الذّات الإلهيّة:” أب، ابن وروح قدس” وينذر الرّاهب ثلاثة نذور”الفقر، العفّة والطّاعة” و”يرسم المسيحيّون الأرثوذكس إشارة الصّليب بثلاثة أصابع”.
والعدد ثلاثة عند المسلمين له دلالات كثيرة، فعلى سبيل المثال تفسير قوله تعالى: “وبالآخرة هم موقنون”، قسّموا اليقين إلى ثلاثة:” يقين عيان، يقين خبر ويقين دلالة” والأمثلة كثيرة.
والعدد ثلاثة عند العبرانيّين يدلّ على التّشديد والالحاح.
وعودة إلى قصيدة شاعرتنا” يحبّني بالثّلاثة” فالحبّ بين الرّجل والمرأة فيه تملّك وتفرّد، لذا فإنّ المحبّ يؤكّد بالثّلاثة” أحبّكِ…أحبّكِ أحبّكِ” وهي لازمة كلّ مقطع في القصيدة. تماما مثلما تبدأ كلّ مقطع بتساؤلها التقريريّ “من سِواكَ؟” ونلاحظ أنّ الشّاعرة كثيرا ما تلجأ إلى مخزونها الثّقافي للتّعبير عن ذاتها في قصائدها، ولنلاحظ كيف لجأت إلى المأثور الدّينيّ في الثّالوث المقدّس وكيف سحبته على العشق فتقول:
“فشرَعَ يشدو بأصوات أسراب من الطّيور، ثالوث العشق المقدّس: أحبّكِ…أحبّكِ…أحبّكِ” ص23. وتضيف متسائلة:
“من سِواكَ؟
أطعمني القمح حبّة حبّة”ص24
وهذا يذكّرنا بالموروث الشّعبيّ” طعميني حبّة حبّة زيّ العصفور” وهنا إشارة أنّ الحبّ لا يقع دفعة واحدة، أو من أوّل نظرة كما يقولون، بل هو أوقعها بالحبّ بتؤدة وأناة، تماما مثلما يطعم الطّائر صغيره، وبعدها وضعها في عيونه
“وحين سوّرتني العيون بالمحبّة” ص 24
فماذا فعل ليتأكّد أنّها تبادله حبّا بحبّ؟
“أخضع دمي لفحصٍ مخبريّ عاجلٍ، فجاء بنبأ
“الإنيميا الحادّة”، وسارع بضخّ كريات العشق
للجسد الماثل للذّهول”ص24
ونلاحظ هنا كيف استعارت العلوم الطّبّيّة وجيّرتها للحبّ، المختبر، والاينيميا التي تعني فقر الدّم” وعلاجه تزويد المريض بالدّم لرفع نسبة الهيموغلبين فيه، لكنّ صاحبتنا تعاني من فقر في العشق، أي أنّ قلبها لا يخفق حبّا لأحد، فكيف أخرجها من هذا الفقر؟ والجواب قوله لها:
” أحبّكِ…أحبّكِ…أحبّكِ”ص24.
وبعدها تتساءل مستذكرة كيف وقعت في شباك حبّه، فتستعير تصرّفات عالم الأسود، حيث أنّ الّلبؤة هي التي تصطاد فرائسها، لكنّ هذه الّلبؤة الإنسانة هادنت استئسادها عندما سمعت كلمة أحبّكِ” ثلاثا.
وتتابع تساؤلاتها لتذكّره بأنّه هو من أوقعها في شباك حبّه، مستعيرة حكاية قيس بن الملوّح الّذي جُنّ بحبّ ليلى.
وماذا كانت ثمرة هذا الحبّ، لذا فهي ترى شريكها الرّجل بأنّه الوحيد على الأرض، فتتساءل سؤال العارف فتقول:” من سّوّاكَ
أبدعَ..وحين على عرش النّعمة استوى، تركنا نثمر
نكثرُ، نملأ الأرض ونسود عليها
ثمّ نظر فرأى كلّ الحبّ الذي عمله، فإذا هو:
حسن جدّا…جدّا…جدّا.”ص25.
وهنا استعارة دينيّة أيضا ” الرّحمان على العرش استوى” و”والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلّى، وما خلق الذّكر والأنثى، إن سعيكم لشتّى”.و “لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم”.
ويلاحظ من نهاية القصيدة أنّ الشّاعرة التي تتحدّث بلغة “الأنا” في القصيدة لم تكتب شأنا ذاتيّا، وإنّما طرحت قضيّة أنثويّة محضة…فإذا كان الذّكور يؤمنون بأنّ الغواية في الأنثى، فإنّهم من يوقعونها في هذه الغواية، ولا ضير في ذلك فهذه سنّة الحياة واستمراريتها، ونتاج علاقة الجنسين”الذّكر والأنثى” هي تعمير الكون بخلق جميل جديد.
وفي هذه القصيدة تختزل شاعرتنا ريتا عودة رواية العلاقة بين الرّجل والمرأة.
وقال محمّد يوسف عمر القراعين: ريتا عودة قاصة وشاعرة صادقة في مشاعرها، تتناول في قصصها القصيرة أحاسيس المرأة في مختلف حالاتها، عاطلة عن العمل يقتلها الفراغ، عاملة دخلها لا يلبي تطلعاتها، تعيش التمييز في وطن مغتصب، ولكنها تحلم وتصل بحلمها إلى السماء، وأحيانا تشدها الوساوس لقارئة الفنجان. هي قوية لتدوس من يلسعها كأنّه صرصار، وتعطي الأمل للمحكومين بالألم، فإذا مات بلبل واحد لا بد أن يولد من رحم الأرض ألفُ ألفِ بلبل، وإذا سقط خالد فهناك من يرتدي السروال الأبيض من بعد خالد، جيّاشة في مشاعرها نحو الفقراء والمظلومين، حتى أنها أنطقت قطرة المطر، موضوعها القلوب مهما اختلفت الأديان، إلا أن سكّين شرف العائلة كانت أقوى من أحاسيسها، فما عليها إلا انتظار نيسان. ولتقديم العذر لأنّها لم تقدّم الحلّ لهموم حواء، تحجّجت بأنّ هذا ليس من وظيفتها التي هي أن تلقي حجرا في بئر راكدة، وهذه هي الدّنيا، أحيانا بالمقلوب، “تيجي تِصيده يْصيدك”. كل هذا وذاك، تعبر عنه ريتا بأسلوب أدبي شاعري جميل، حافل بتخيلات ثرية وتشابيه غنية، قصصها كأنّها قصائد نثر، والشّعر في ديوانها حدوثة، فيختلط الشعر مع القصة بلغة ليست بالبسيطة ولا بالمعقدة ولكنها ملونة، كما قال محمد حلمي الريشة، لتثبت أنها تملك زمام اللغة، وتلجأ في خيالها إلى رمزية مناسبة للموضوع، لا تتعدى ربات الحب والخصب، بحيث يبقى المعنى في متناول القارئ.
تناولت حدوثتها الشعرية قصّة البقاء في الحياة في ومضات جميلة، تبدأ في أولاها ” السنونوّة المجبولة من طين الحنين…المنسوجَ حلمها من حرير الحب “، ولكنها تحتاج إلى جناح ثان مع جناحها لتتمكن من التصفيق. كأنثى تبحث عن فارس كما دون كيشوت، يحارب طواحين الهواء لتحرير حبيبته، فليحارب فارسها طواحين كبريائه حتى ” ترخي له جديلتها ليصعد إلى قلبها.. يحتاجها لبؤة وقطة وديعة، تحتاجه رعدا وبرقا ومطرا بديعا”. لا تنسى ضيفتنا المساواة والحرية. “أكون له سنونوّة.. حين لا يكون ليَ القفص”، وجزيرة يحيط بها البحر، فيفيض عليها بالنسيم.
وفي الومضات الرابعة، تبلغ قمة التعبير عن حالتهما في الجوى والهوى، تُطوّف بهما الجهات الأربعة ” ال..تتجاوز مدًا وجزرًا.. شوقًا وشرقًا..جنوبًا وجنونًا”.
لها الحق أن تحلم “سقطت تفاحة فوق رأسي، ورأيت فارسا فوق الغيم يراقصني، وفي البحر قوارب تمنيت لو إليك تحملني، وبساطا انتظرت أن يأتي بك إلي”.
لجأت إلى عشتار وهيرا وإيزيس وشهرزاد، فلم تجد حلا، ” فسقط الحب في جب الحكاية، وظل للآنَ أحجية”.
الحياة كما تعلمون مدّ وجزر، فبعد أن آمنت بأقانيمه الثلاثة، عمدها بالأرق مع الفجر، وأسلمها للنهر، ” ووحده الموج حن على أشلائها، ومنحها حق الغرق”. نعم قهرها الموج مرارا، ولكنها “كالعنقاء من بين الركام تقوم”.
وفي إحدى الومضات، تشعر بيأس لأنهما تباعدا ” كخطين متوازين، لا أحد يود أن ينكسر..كالنهر الذي فقد مجراه أنت.. كالسكة التي غادرها قطارها أنا “، فأصبحت وحيدة “، وحيدة، حتى أنني لم أعد أعرفني”. كل شيءٍ هائم، أما الحب فقد قرفص، “وكل شيء عائم، إلى أن أعثر..على من تعشقه الأذن قبل العين”، فنفتتح مهرجان العودة.
مع كل هذا، لم تردعها الحسرة، والذكريات المدمرة عن أن تعلن “أن قلبها وطن”، وهي مدمنة، فكلما وأدت حبا ولد اثنان، “فقد آن الأوان أن أحاولك مرّة أخرى.. لأحاور شهر ياري..من الليلة الألف للحكاية”…
وفي نهاية الومضات تهتف…في الشعر ما خفي كان أعذب
الكتابة فعل بقاء
سأمضي لأفضح الصمت”
ملاحظة: ثمة خطأ نحوي في ومضات (9)، حيث تعتبر” لو” أداة جزم، (لي قلب عصفورة… لو رق تذب من عذوبته الصخور)، والحقيقة أنها لا تجزم مطلقا.
وقال الشّاعررفعت زيتون: ديوان سأحاولكِ مرة أخرى للشاعرة ريتا عودة من الناصرة هو ديوان الحب واللوعة والمحاولة واللغة، هو ديوان الأنثى وانفعالاتها، حبها وكرهها، غرورها وهدوؤها إن هدأت وعواصفها إن عصفت، هو الأنثى بكل ما فيها. والديوان من نوع قصيدة النثر حيث لم تلتزم الشاعرة بتفعيلات الخليل، رغم استخدامها القافية في بعض القصائد.
هذه قراءة مررت فيها على أغلب قصائد الديوان أو الشعريات الفلسطينية، كما شاءت أن تطلق عليها الشاعرة ريتا، ولسوف أبدأ بنظرة عامة عن الديوان وملامحه وأسلوبه، ثم أدخل لتفاصيل أغلب القصائد أتناول كثيرا مما احتوت، وليس كل ما احتوت من جمال أو ملاحظات.
أولا : ملاحم عامة للديوان
في بنائها العام لنسيج القصيدة وتقديمها للنصوص اتّكأت الشاعرة ريتا عودة على مجموعة دعائم، واستخدمت أساليب مختلفة لإيصال نصّها وفكرتها إلى قلب وذهن المتلقي ومن هذه الدعائم:
– البلاغة: تمييز الديوان بأسلوب بلاغيّ رفيع المستوى، كما سيظهر من خلال تحليلي للقصائد حيث طغى فيه استخدام محسنات البديع والبيان، من تشبيهات واستعارات وانزياحات وجناس وطباق وسجع ومقابلة وتضاد وغيرها.
والشواهد على ذلك كثيرة سأفصل بعضها خلال القراءة العامة للقصائد.
– التناص القرآنيّ والإنجيليّ في كثير من النصوص، فكرة وجملا وألفاظا. وأحيانا الاقتباس الحرفيّ لهذه الجمل والألفاظ، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
– ( على عرش النعمة استوى) صفحة 25 تناصّ قرآنيّ
-(أين المفرّ ) صفحة 35 تناصّ قرآنيّ.
– (لا تقصص رؤياك على أحد) صفحة 49 تناصّ قرآنيّ.
– (ربّ الفلق) صفحة 55 تناصّ قرآنيّ.
– (مثنى وثلاث ورباع) صفحة65 تناصّ قرآني.
– (في غيابة جبّ الغياب ألقيتني) صفحة 65 تناصّ قرآنيّ.
– (مع الريح يأتي.. كالبشارة) صفحة 30 تناصّ انجيلي.
– (تراه بالزيت يُعمّد حروف الحكاية) صفحة 36 تناصّ مع الموروث المسيحي.
– (لتسلم السنونوة للجلجلة..فيصيح المسيح) صفحة 63 تناصّ إنجيليّ.
– (في الهزيع الأخير) صفحة 100 تناصّ إنجيليّ.
– (العذارى الخمس) صفحة 100 تناصّ إنجيليّ.
وغيرها الكثير.
• التناص الشعري مع بعض الشعراء أمثال امرؤ القيس ونزار في بعض القصائد
ومثال ذلك:
– (تكفّ الأرض عن الدوران) صفحة 72 تناصّ مع نزار قباني.
– (أكرُّ، أفرُّ، أُقبلُ، أُدبرُ) صفحة 74 تناصّ مع امرؤ القيس.
– استدعاء الرموز التاريخية والأسطورية بشكل مكثف في الكثير ما من النصوص مثل قيس، شهريار، شهرزاد، عشتار، هيرا، إيزيس، ولادة، وغيرهم.
– استخدام الظواهر الطبيعية والنظريات العلمية وتطويعها لخدمة الفكرة التي تريد، ومثال ذلك الجاذبية الأرضية لنيوتن، مثلث برمودا، المدّ والجزر وظاهرة الخسوف وغيرها.
– تدعيم القصائد بشيء من الموروث من العادات والتقاليد والأمثال الشعبية والمقولات المعروفة والحكايات، والأحاديث النبوية الشريفة ومثال ذلك:
– (إقرأ كفّ من تشاء من النساء) صفحة 69.
– (سيكون للروح التي مع أشباه الظلال تنافرت.. فاختلفت) صفحة 75.
– ( بيدي… لا بيد ابن الغجر) صفحة 75.
– (إكرام الحزن دفنه ) صفحة 82.
– (بلغني أيها القمر البعيد) صفحة 52.
– التركيز على موضوع واحد وهو الشعر الوجداني دون سواه من أنواع الشعر في هذا الديوان، بكل تفاصيله، كالعشق والهيام والبعد والهجر والغيرة وغيرها.
– استخدام القصص والأحداث التاريخية الحقيقية منها والأسطورية مثل حصان طروادة، قصة سيدنا يوسف، والمثلوجيا الإغريقية واليونانية والمصرية القديمة.
– استخدام أسلوب التكرار في بدايات الفقرات ونهاياتها للتأكيد غالبا ومثال ذلك:
– (من سواك ) في قصيدة (يحبني بالثلاثة) صفحة 23.
– (أحبكِ، أحبك، أحبك) من قصيدة ( يحبني بالثلاثة) صفحة 23.
– (أنا أنثى ) في قصيدة (أنا أنثى) صفحة 26.
– (أشقّ البحر ) في قصيدة (في طريقي إليك ) صفحة33.
– (حين فاضت ) في قصيدة (لا تقصص رؤياك على أحد) صفحة 49.
– (سيدي) في قصيدة (معمودية القلق) صفحة54.
– (لا أريد / سيكون) في قصيدة (ابن الغجر) صفحة 74.
وغيرها في مواضع أخرى.
• المزج بين الومضات والقصائد:
فقد احتوى الديوان على تسع عشرة قصيدة، وأربع عشرة صفحة من الومضات.
• تضمين الفلسفة والفكر الإنساني في بعض القصائد ومثال على ذلك،(الحب كالموت، وكالمطر وكالفكرة، يكفر بالمواعيد المسبقة) في صفحة 40.
ثانيا: عنوان الديوان، وصورة الغلاف: بداية العنوان وهو أحد قصائد الشعريات الفلسطينية، وهذا ما أطلقت شاعرتنا على نصوصها الشعرية، ربما لتفادي النقد الذي يمكن أن يقال في حق ديوان نثري من قبل بعض الكلاسيكيين الذين يرفضون فكرة أن يطلق على النصّ النثري قصيدة.
وأنا أكون من هؤلاء في أحيان كثيرة، ولكنني أحيانا أكون أكثر تشدّدا منهم فأسقط كلمة ديوان أو قصيدة عن نصّ التزم القافية والوزن، ولكنه كُتب بحرف ركيك لا روح شعرية فيه. وبالتالي فالشعر كمفهوم هو أكبر وأشمل من وزن وقافية، الشعر شعور وصور ومجاز وابتعاد عن التقليد، الشعر مفاجأة ودهشة إن لمْ يحققها الكاتب في نفس المتلقي فهو ليس شاعرا، وهذا رأي وقد لا يعجب الكثيرين.
ومن منطلق هذه المقدمة أريد أن أحكم على شاعرية صاحبة الشعريات، ولكن ليس قبل أن أغوص في النصوص ومعي من يحب الإبحار في عالم الكلمة، فإذا أصبت في مكان شدّ على يديّ وإن أخطأت صوّبني وكلنا نخطئ.
” سأحاولكِ مرّة أخرى” والحديث على لسان ذكوري موجه لأنثى، وهذا يجعلني أتخيل أن النصوص قد تأخذ هذا المنحى في الحديث، لأن العنوان غالبا ما يعبر عن مضمون الكتاب، والمفاجأة أن كلّ النصوص أو أغلبها كانت بلسانٍ أنثوي، على عكس ما توقعت في البداية. ولكن عند العودة إلى القصيدة وجدتُ أن عنوان تلك القصيدة يختلف، وكان على لسان أنثى كباقي القصائد وهو في صفحة 94 وكان على هذا النحو ” سأحاولكَ مرة أخرى” والخطاب موجه لرجل حسب مضمون النصّ الشعريّ وكذلك الفتحة الظاهرة على كاف ( سأحاولكَ )، فهل هناك خطأ في العنوان عند الطباعة؟
أم أن العنوان قد تغيير لغاية في نفس الشاعرة قضتها؟ وهذا سؤالي الأوّل للشاعرة.
أما صورة الغلاف فقد حجزت جزءًا يسيرا من هذا الغلاف في وسطه، وقد امتزج فيها اللونان الأبيض والأسود، وتداخلت فيه الوجوه، وللوجوه دلالاتها وكذلك للألوان، فهل كان لاختيار هذين اللونين غرض وغاية عند الشاعرة؟ الأبيض يظهر الأسود، وكذلك الأسود يظهر نقيضه الأبيض، ولكن لا يمكن للواحد منهما أن يظهر بدون الآخر، وكذلك الذكر والأنثى، كلّ يحتاج الآخر ليكون.
ثالثا: قراءة في القصائد:
بداية الإهداء:
تقول الشاعرة في صفحة 15( إلى اللغة /التي كلما حاولتها / باغتتني باحتمالاتها )، وقد اعتاد الكتّاب أن يهدوا إصداراتهم إلى من لهم فضل عليهم، وإلى الأعزّ والأقرب من الأهل والأصدقاء. والأمّ أقرب الأقربين، وشاعرتنا في إهدائها اختارت أمّا من نوع آخر لتهديَها نصوصها، شاعرتنا اختارت اللغة أمًّا فقالت في إهدائها “إلى اللغة /التي كلما حاولتها/.. باغتتني باحتمالاتها.”
إهداءٌ يدخلك في جوّ خاصّ من السكينة والارتياح، ويشعر القارئ بالأصالة والانتماء ويأخذنا إلى بَرٍّ من البِرّ لا حدود له، بِرّ من ابنةٍ بارّة بأمّها اللغة.
هي تقول ( كلّما حاولتها) والمحاولة فيها شيء من التعدّدية والحيرة، والحيرة لها أسبابها، وتكون إمّا لصعوبة في الموقف، أو لتعدّد سبل بلوغ المراد فلا يدري سالكها أيّ السبل يسلك، أو لجمال الآخر فنحار كيف تكون أقصر وأفضل الطرق لوصله. وكلّ ذلك يحتاج المحاولة. واللغة أمّ جميلة، تسعى الشاعرة للوصول إلى رضاها، فتحاول ذلك بكل الطرق، لتصنع من حليب حروفها أجمل قصيدة، فإذا باللغة تفاجئها باحتمالاتها الكثيرة، تفاجئها بحبّ متعدد الرؤى، وتفتح لها أبواب الجمال على مصراعيها قائلة لها: أي بنيّتي، هذه بساتيني
فاقطفي ما شئتِ من أزهار وخذي منها الرحيق.
بدأت شاعرتنا شعريّاتها، كما أسمتها، بالومضات، وجعلت هذه الومضات بين قصائدها حسب رؤية خاصة بها. أنا شبهت هذه الومضات بالمقبلات التي تسبق الوجبة الرئيسية والطبق الشهي،فهي بذلك تهيّئ المتلقي لما هو أشهى.
في هذه الومضات كانت شاعرتنا ترسم جزءا من شخصياتها الأدبية وهويتها الشعرية، قبل الغوص بالقصيد. ولعل هذه الومضات كذلك عبّرت عن شخصيتها الإنسانية، أو الشخصية الإنسانية لبطلة القصيدة، فهي إنسانة قبل أن تكون شاعرة وأديبة.
تقول في أول ومضة لها والتي أطلقتُ عليها ومضات التعريف أو ومضات الهوية
(على مهل)، ثم تجلس لارتشاف الشاي بالنعناع وتطلق العنان لخيالها، ثم يكون انفجار القصيدة، فهي تعتني بالتفاصيل، لهذا تتروى كفراشة تطير من زهرة لأخرى تنتقي منها أعطر الرحيق، فهناك متسع من الوقت كيْ لا تخرج القصيدة طفلا خداجا. وجملة ( لانفجار ومضة شعرية) استعارة مكنية جميلة حيث شبهت الومضة بالانفجار وحذفت المشبه به ( القنبلة) مع ذكر قرينته الدالة عليه وهي كلمة (لانفجار.)
ثم تمضي الشاعرة بالتعريف بنفسها فتقول إنها ( السنونوة التي نذرت نفسها للحبّ، والزهر، والقصيدة). ونذرت نفسها أي أنها أخلصت لهذه القضايا دون سواها، فانتبذت كلّ ما يهوى الآخرون من مادة، فكانت هنا كأنها مريم الشعر.
ولأنها سنونوة فهي من صنف الطيور، والطير حديثه التغريد، ولأنها هناك في الأعالي يكون طيرانها عفويا، فيحسدها من لا يطير.
هي لا تضيرها عينُ حسود، لهذا تقول في صفحة 18 ( وإن لفّها الضباب /تبقى الشجرة الوارفة وارفة). ولا تخفى رمزية الضباب والشجرة الوارفة على القارئ الذي يقرأ ما بين السطور. ولأنها طيرٌ من شعر، نذرت حرفها للحبّ فهي تبحث عنه بانتقائية العارف بما يريد فتقول ( كما نبحث عن إبرة في كومة قش ). وهي كذلك تجد اكتمالها به، فهي تهيئ لذلك كل الظروف، وأعدّت متكأها وأصرت إصرار صاحبة يوسف حبًّا، فنثرت خصلات شعر بطلة القصيد، لكنه هو لم يرَ برهان ربّه كما يوسف، فألقى حجر نرده وكتبها قصيدة.
تقول في صفحة 21:
“أنا أحلم.. إذا أنا أحيا
وما دمتُ أحيا… إذا أنا بحبر
وما دمتُ بحبر… إذا أنا على قيد حبّ.”
انزياحات نحوية وإضافية جميلة تجعلك تتوقع أو تنتظر الكلمة القادمة والمتعارف عليها لتفاجئك بغير المنتظر، فالمتعارف عليه أن نقول ( أنا بخير )، ولكن غير المتوقع والمنتظر أن تقول الشاعرة ( أنا بحبر)، وتقول ( أنا على قيد حب) والمتوقع أن تقول ( أنا على قيد الحياة)، وهذا هو المتعارف عليه والمنتظر، فتضيف غير المنتظر بكلمة حبّ بدل حياة، وتقول ( ما دمت بحبر) أي ما دام قلمي يكتب (إذا أنا على قيد حب) تكون بذلك على قيد الحياة، فأي معنى أجمل من ربط الحياة والحب بالكتابة والمداد؟
كذلك هناك تسلسل وربط أنيق للأفكار، وصور تكتظ بجمال خاص، تأخذك الواحدة لتسلمك للأخرى بسلاسة، لعلها هنا تجعل من لا يطير من الحاسدين… يطير.
وفي هذه الومضات تشبيهات واستعارات، منها مثلا التشبيه المرسل في جملة (كاللقلق على ساق واحدة/ في بحري تقف)، (آه من الحب/ كالنُّسغ / يسري في العروق)، ( كالنسر/ يسمو لا يخشى بروق). والجمل السابقة كلها جمل خبرية. وهناك ترصيع في بعض الجمل في إحدى الفقرات، وهو من السجع إذ تضمنت الجمل سجعتين، وكان ذلك في جملتيّ ( الحنين يعبران)، ( للأنين يلوّحان)، هذا عدا عن السجع العام في الفقرة في الكلمات (يلتقيان، يتدثران، يعبران، يلوحان، يسيران)، وربما يضعف هذا السجع النص كما قال بعض أهل البلاغة إذا كان فيه تكلف ويكون مناسبا إذا طلبه المعنى وساق إليه. وتنتهي رحلة المقبلات الأولى (الومضات) وتبدأ عملية انتظار الطبق الشهي والوجبة الدسمة، فهل ما سيأتي من قصيد سيكون فعلا كذلك؟
قصيدة ( يحبني بالثلاثة) تبدأ بجملة ( من سواك) وتكررها في كل فقرات القصيدة، وتنهي بجملة ( أحبكِ، أحبك، أحبك ) ما عدا في آخر فقرة.
جملة ( من سواك) تفيد أكثر من دلالة، وربما تجعلنا نخمن أكثر من حالة وجدانية كتبت في لحظتها القصيدة، إحداها أنها جاءت في لحظة لقاء كان فيه كل الأنس الذي يجعل من الأنثى فراشة. أما التخمين الثاني، فيحتمل أنها كتبت في لحظة بُعْدٍ فأخذت شكل المعاتبة والتذكير بما كان من ودّ بينهما، ولكن كلا الدلالتين تفيدان التخصيص، فكل ما جاء في فقرات القصيدة من فعل أو قول أو هيام كان فقط منه وله. القصيدة فيها الكثير من البيان ومحسنات البديع وجمال اللفظ، وكذلك التمكن وامتلاك الأدوات. فانظر تطويعها للألفاظ والمعاني في جملة ( من سوّل له حلمه) وهو انزياح جميل آخر، والأفعال المتلاحقة “أبرق، أرعد، عصف، وقصف” كيف ركبت سيناريو كامل لمشاهد متسلسلة، يستطيع القارئ أن يراها بخياله ويعيش لحظتها، وتركيب ( الجملة النائمة)، ثم هذه الخاتمة للفقرة ( حفر من حول الأسوار الشائكة حول حبها…. أحبك، أحبك، أحبك)، حيث شبهت حبه لها بالخندق الحامي في الحرب، وهنا الدهشة في الوصف والتعبير واستخدام التشبيهات والاستعارات.
وفي الفقرة الثانية إسقاط لقصة التفاحة التي سقطت على رأس نيوتن فاستنبط بذلك قانون الجاذبية. الشاعرة هنا كان لها طرح جديد وجريء في رفض قانون الجاذبية؛ لتستبدله بقانون آخر وهو ( جاذبية الشهب في عينيّ حوائه) ثم تعزف بعد ذلك على وتر آخر، وهو الثالوث المقدس، فتحدثت عن الثلاثة (أحبك، أحبك، أحبك ) في واحد الذي (هو) فكان ثالوثها المقدس.
حتى لعبة الشطرنج لم تنجُ من تسخيرها لصالح الفكرة، فجعلت منه ملكا دخلت قلعته، وهزمت جنده ووزيره حتى وصلت للملك، فرفعت راية استسلامها وإعجابها وحبها. وكانت قبل ذلك قد سخرت الطبيعة وأهل الغابة والجغرافيا والتاريخ وقصص العاشقين برموزها التاريخية، سخرتها كلها لمزج ألوان قصائدها العشقية لتبدو كأبهى لوحة. وكل ذلك تلخصه في فقرتها الأخيرة أنك ما أن ظفرت بنعمة هذه البطلة حتى أزهرت الأرض حبا، وتكاثر فيها الخير فكان الثمر حسنا جدا جدا جدا
قصيدة ” أنا أنثى “:
وصلت بها الشاعرة فيها إلى ذروة التحليق في رسم الملامح، هي أنثى قوية لا تعرف اليأس، تقول في صفحة 26 : ( كلّما صفعتها الريح /…تعاود نبش ملفات التاريخ)، جملة خبرية، وهذه الجملة أوقفتني مليّا.. في ماذا تريد الشاعرة. هي تقول ( كلما صفعتها الريح)، الجملة تفيد تكرار الصفع وأنه ما زال، وكلما حدث ترجع إلى ملفات التاريخ، فلماذا التاريخ الغابر، فهل تريد الشاعرة أن تقول أن الفرسان الذين تحتاجهم أصبحوا خلف ظهورنا، ولم يعد في أيامنا مثلهم؟ سؤال أطرحه على الشاعرة.
ثم ما أن تجد هذا الفارس حتى تفرد لطيفه جدائلها، ليصعد إلى شاهق القلب، وهذا استخدام لطيف لمعنى الوصول إلى قمة السرور بوصل الحبيب.
وقلت أن ذلك يكون لطيفِهِ، لأن هذا الفارس ما هو إلا مجرد فكرة لجأت إليها عندما عادت إلى نبش التاريخ. وهنا قد أجد تفسيرا لاستدعاء الرموز في القصائد وبهذا الكمّ، وبما أن هذا الكمّ من الرموز الذين استدعتهم، مرتبط بالصفع ذاته، فهذا دليل حياة لم تتوقف فيها الصفعات. وسؤال آخر في قولها أنه يصعد إلى شاهق القلب، فكيف يكون الصعود لهذا الطيف وهو محض خيال، وسؤالي ليس سؤال الجاهلين وإنما سؤال يفضي إلى كيفية كتابة القصيد وتحريك الخيال للوصول إلى قمة الإبداع.
وعودة إلى جوّ النص، فهي أنثى لا تلعن الظلام بل تضيء بدلا من ذلك شمعة،
في صفحة 26 وهذا استخدام وتناص بالفكرة مع القول المشهور.
هي أنثى هوايتها زرع الجمال والزيتون والزعتر، وعالمها في السماء، وبين هذا وذاك تطغى الغواية فتصير الغواية قصيدة( قلم ونزق ودفتر)
بطلة القصيدة أنثى الهدوء، فهي كما قالت في البداية ( على مهل ترتشف الشاي البارد بالنعناع)، تأتي مجددا لتؤكد حبها للهدوء والتمهل في كل شيء، حتى بتحميص مشاعرها على نار الغيرة. فهي تقول في فقرة بالغة الرقة: ( أنا أنثى/.. تجعل من رأسها شمسا،/ ومن أحاسيسها بحرا/ لفارس يجيد تحميص مشاعرها/ على نار الغيرة)، وهي جمل خبرية، تقول فيها إنّ هذا الفارس الأسطورة هو ذات الفارس الذي كانت تفتش عنه في كومة قش كالإبرة، هو رجل فريد يعرف متى يشعل النار ومتى يطفئ لظاها، ومتى يجعل من أنثاه رشفة قهوة مصنوعة من بُنِّ حلم شهي. يرتشفها على مهل وهي تقول ما زال في الفنجان المزيد من القهوة الساخنة.
وكعادتها عبر صفحات الديوان، بعد كل وجبة دسمة من حلو القصيد، تأتي للقارئ ببعض الحلوى أو المقبلات من الومضات رأفة به وبتحمله، فقدمت الومضة الثانية ووضعت فيها مفهومها للحب، هي تقول إنها في هذه العلاقة هي أصل الأشياء،(زيت الفتيل) وهي رغم استسلامها للملك إلا أنها ترفض القيد، فها هي تقول ( الحبّ يصنع الحبر) وحتى يصنع الحبر يجب أن يكون حرّا، وتقول كذلك ( أجمل ما في الحب أن تكون من فيضه) وهي قد اعتنقت حبّه وكفرت بكل ما يبدد شوقها إليه. ولأنها سيدة الحكايا فهي سيدة القرار… ومن يملك القرار يستطيع أن يجعل الرعد قبل البرق، فتفر من زرقة القدر للبحر. وهذا ربط جميل واشتغال
متقن على النصوص في قصيدة ( سيدة الحكايا) كما في سائر القصائد. ومرة أخرى تستدعي رموز التاريخ، وهذه المرة تستدعي عبلة وولادة وغيرهما، لتلبس ثوب سيدات العشق ربما، فبهذا الثوب وحده يمكنها أن تمشي على وسائد النهر لتعبر للضفة الأخرى. وهناك يعلنها الفارس “سيدة للحكايا”.
قصيدة “في طريقي إليك “:
وفي طريقها إليه تقول: (أشق النهر)، (أشق البحر)، (أشق الفجر)، ثم تقول (أشق القهر) كل ذلك لتصل إليه، لا شيء يثنيها عن ذلك، فلا حواجز تقف في وجه حبيب يصبو إلى حبيبه لأنه الدثار في البرد، والغمام الذي رسم في خيال الشعراء أجمل الصور، وهو المطر واخضرار الشجر، وهو العيد إذا اكتمل القمر.
هنا وفي كل القصائد تحافظ الشاعرة على شمولية الفكرة، كأنها إحاطة بها من كل جانب. ثم تتبع فتقول ( وأنت آذار القصائد) وهذه لفتة ذكية لآذار الذي فيه مناسبات كثيرة تخص المرأة والإنسان ففي آذار عيد الأم وفيه يوم المرأة وفيه يبدأ الربيع. ولكني لم أفهم الجملة التي لحقتها ( إذا ما أيلول احتضر) فأيلول يأتي بعد آذار، فكيف يجيء آذار بعد احتضار أيلول؟ سؤال آخر للشاعرة.
وهناك ملاحظة على العلاقة بين بعض الجمل في بعض الفقرات
فجملة ( أشق النهر…. وأنت المطر) في الفقرة الأولى وكذلك جملة( أشق البحر… فأنت الدثار) في الفقرة الثانية، وجدت خللا في الربط بين النهر والمطر وبين البحر والدثار، أو على الأقل كان يمكن أن يكون من الألفاظ ما هو أصلح من أجل الربط المنطقي بينهما، والدليل على ذلك أن الربط كان موفقا جدا في الفقرة الثالثة والرابعة، وقد أكون مخطئا. والجمل الشعرية السابقة كلها جمل خبرية.
وبين الجمال والجمال تكون الومضات، ومضة جديدة هي الثالثة في الترتيب وقد أسميتها ومضات العلاقة بينه وبينها، هي تقول باختصار شديد(كأني الجزيرة.. كأنك البحر.. فأين المفر)، وهو ذلك المعشوق الذي تعشقه كما جاء في قصيدة ” عصفورة الجليل” صفحة 36،
(وهو أبعد من كل اتجاه)، ( وأوسع من كل مدى)، ( وأقرب من حبل الوتين)وهي عصفورة الجليل تنتظر أن ينثر لها القمح على تلال الناصرة، ألمْ تقلْ في قصيدة ” يحبني بالثلاثة” سابقا ( من سواك، أطعمني القمح حبة حبة)؟
وهو نشيدها الوطني وهو العنوان وهو الذي لا ضرورة لاستمرارية الحياة، حتى عند الآخرين، إن لم يعد ضلعها إلى صدره. ولأنه الفارس الأسطورة، فقد أرادته كيف تشاء ولكنه فاق توقعاتها، فكان أعنف من خيالها فحاصرها من شروقها إلى شوقها، ومن شمالها إلى جنونها. وقد فاق توقعاتها عندما اعتقدت نفسها قفصا وأنها ستحتفظ به فيه وستمتلكه،
فأفاقت على غير ذلك، وكان يرفرف في السماء.
الشاعرة لم تكتب شعرا فقط، فللفلسفة عندها نصيب كبير ومن هذا ما قالت في إحدى ومضاتها ( الحب كالموت، وكالمطر وكالفكرة، يكفر بالمواعيد المسبقة)وهذا غوص واعٍ وذكيّ وربط علائقيّ دقيق، فالموت والمطر والفكرة تجمعهم المباغتة ويأتون دون سابق إنذار وكذلك الحب.
“أأملك أن أخفي سرنا الذي شبّ عن قلبينا واندلع”، وهذه كناية جميلة عن ما وصلت إليه العلاقة بينهما، وقالت ( شبّ عن قلبينا) ولم تقل في قلبينا، بمعنى أن هذه النار أشعل لظاها قلبيهما فانبثقت عنهما واندلعت.
وفي قفزة أخرى غير متوقعة تقول ( فكل الأشياء تزول إلا النابض بحبك) وهذا من التجاوز في الحق، لأنه لا ينبغي إلا لخالق القلوب، حتى لو كان القول على سبيل المجاز. وهو بذلك قول يخالف الآية الكريمة والتي لا يختلف عليها دين “كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.”
شاعرتنا لا تحبّ مبتذل القول، ولا الحديث المباشر البسيط، الذي يتداوله أنصاف الكتاب والذين يحاولون الطيران اعتباطا في سماء الكتابة، وما أن يبدؤوا بالطيران حتى يُكسر جناحهم فيسقطون. ولأنها كذلك فهي كذلك لا تحب الرجل العادي البسيط، بل تحبه خارقا أسطوريا، تحبه مراوغا يأخذها للبحر ويعيدها وقد كواها العطش، يلوعها حد الجنون، يوحي لها بكل لغات العالم أنه يحبها دون أن يقولها.
تقول في ومضة في ص 43 ( آه.. يا من/ كلما كتبت له قصيدة غزل،/ قام فقص وألصق حروفها/ على وجه الشمس/ وببرود لصٍ محترف/ نفى عنه.. التهمة).ولأجل هذا التفرد فيه فهو في خيالها أجمل من النجوم التي فوق رأسه.
وترتفع وتيرة العشق في هذه الومضات لتستحضر معشوقات التاريخ ثانية تأتي بسلمى وولادة وتضيف إليهما شهرزاد وسندريلا، ربما لتعطي معنى عالميا لشعورها، أو لتزيد في مداه وحجمه، فكل زيادة في المبنى فيها زيادة في المعنى. هي استحضرتهن هذه المرة لا لتلبس ثوبهن كما فعلت في المرة السابقة، وإنما لتقف فيهن على عرش العشق، وتقول إن حبها له قد فاق ما عرفن من حب على مرّ التاريخ، تقف ساخرة من تجربتهنّ في الحب لتقول لهنّ: أنا البحر أيتها الموجات الصغيرات. ثم بعد ذلك وكعادة كل النساء تسأله ( أتحبني؟)
وتقول ( أدخل في جحر السؤال) والجحر مكان ضيق لا يكاد يتسع لساكنيه، أدخلت نفسها فيه بعد السؤال تنتظر جوابا، وكأنها في سجن لا يخرجها منه إلا الرد بالإيجاب، ولكن المفارقة تأتي بجواب منها هي فتقول ( ومن قبضتي يخرج الجواب فارًّا) وهنا جمال الصياغة ودقة التعبير وروعة الصياغة متعددة التركيب بين الجملة الشعرية الأولى والثانية، فقد تمخضت جبال أسئلتها التي حشرتها داخل الجحر، فولدت أرنب إجابة وهذا تناص مع المقولة المشهورة ( تمخض الجبل فولد فأرا). وهذه الإجابة تخرج من قبضتها، كناية عن أنها هي تسأل ولا تجد إجابة فتجيب هي عن سؤالها.
ولأن عشقها له صار أمميًّا فقد اختارت له تقويما جديدا، ليس ميلاديا ولا هجريا، تقويم لا يعترف لا بالشمس ولا بالقمر، ويعترف فقط بعشقها، فأطلقت عليه” تقويمنا العشقيّ”.
في صفحة 46. تتكرر في هذه الومضة بعض الجمل التي ذكرت سابقا للمرة الثالثة، مثل ( شرقا.. شوقا)، ( جنوبا.. جنونا) فحبذا لو تجنبت الشاعرة ذلك فليس التكرار معناه التوكيد دائما، وكلا الثنائيين ( شرقا، شوقا)، (جنوبا، جنونا) يمثلان جناسا غير تام، وكذلك في كلمتي ( أبقى، أنقى)، والجناس من البديع. وفي جملة( نتفت أجنحتي) أسقطت كلمة ريش من باب الحذف، والحذف من أساليب البلاغة المتبعة لرفع مستوى اللغة وتقوية الكلام، وربّ من يظن أن هناك خطأ في التعبير بينما فيه من البلاغة الكثير، ومن الشواهد على ذلك الآية الكريمة في سورة يوسف، “واسأل العير” وقد حذف منها كلمة أهل العير أو راكبيها فكانت أبلغ وأقوى.
تقول في صفحة 47 ( لكل سؤال إجابة واحدة / وأنا إجابتك) وتقول على لسانه هو(أنا سؤال يحتمل عدة أجوبة). الفكرة من حيث الصياغة فاقت حد الجمال وجمالها يتحدث عن ذاته دونما تفسير، أما من حيث المفهوم ودقة القول فيكفي أن نقول إن حديثه هذا كان على لسانها هي وحسب رؤية أنثوية محضة معششة في ذهن كل النساء، وهذا سبب كافٍ لنفي الفكرة والمفهوم، ترى هل أصبت؟ السؤال موجه لمعشر الرجال. وتعود للعبة الشطرنج التي لم تسلم من شعرها كما قلنا وإلى ملكها، ففي قصيدة سابقة هي اقتحمت حصنه وهزمت جنده ووزيره واستسلمت أمامه دون مقاومة، ولكنها هنا في صفحة 47 تجعله هو من يقدم على المبادرة بالإنذار والهجوم ليقول لها: ( أيتها العاشقة المشاكسة،/ أنا الملك /على رقعة الشطرنج هذي،/ لو بسياط الغيرة قتلتني،/ ستنتهي اللعبة). وهذا مزج جميل ولعب بالكلمات وتطويع بليغ. ولي هنا وقفتان، وقفة أعود بها إلى حديثها عن الغيرة، فهي تحب أن يكون فارسها يتقن تحميص مشاعرها على نار الغيرة، أما هو فالغيرة تقتله وتقتل في قلبه الحب وتنتهي اللعبة، هذه وتلك حقائق لدى أغلب الرجال والنساء، فالنساء تحب الرجل الذي يتقن العزف على وتر الغيرة، وهنا أقصد نوعين منها، الأولى غيرتها عليه بأن يشعرها بوجود غيرها فتتحرك فيها خاصية التملك التي هي تسميها الغيرة، والثانية غيرته هو عليها، فالأنثى تعشق الرجل الذي يشعرها بغيرته عليها؛ لأن في ذلك كل الحب، على أن تبقى في حدها الجميل غير المصادر لحريتها. وشاعرتنا فهمت هذا جيدا، وفهمت كم أن غيرتها قد تنهي لعبة الحب الجميلة. والرجل لا يكره غيرة النساء، ولكنه يكره أن تصل الحد الذي لا يصله خيال رجل.
قصيدة ” لا تقصص رؤياك على أحد”
والعنوان تناص تام أو اقتباس حرفي من القرآن الكريم، ولا تخفى دلالة العنوان على أحد، حيث حذر النبي يعقوب ابنه يوسف من أن يقصّ على أحد ما رأى في المنام، وكان بعد ذلك ما كان من إخوته. والجملة من الأسلوب الإنشائي الطلبي.
تقول الشاعرة في صفحة 49 ( حين فاضت البساتين بالفراشات)، كأنها اختارت الحديث عن الفراشات في جوّ ربيعي ساحر، وهي أرقّ المخلوقات وأجملها، في لحظة عشقية حالمة، أطلقت الشاعرة العنان لخيالها ليصل إلى منتهاه. وأقول منتهاه لأن نهاية النهايات تكون دخول الجنة أو النار، وشاعرتنا أدخلته الجنة حيث تقول( أخذني الحنين إلى مملكة الحلم، فرأيتك في الجنة شجرة)، رأته شجرة مورقة وارفة بدليل جلوسها تحت ظلها ساعات. وللشجرة دلالات كثيرة، منها الثمر والظل والخير، وخاصة عند الحديث عن شجر الجنة، وبذلك فقد جمعت له الخير من كل جانب وفي كل زوايا الرؤيا. وليس نيوتن فقط من يسقط التفاح على رأسه ليكتشف قانون الجاذبية المشهور، هي في حلمها تُسقط تفاحة تريدها أن تسقط، لتفتح بسقوطها باب القريض، وليكون بعد ذلك البوح وتقول ” وجدتك”.
وفي خطوة باتت متوقعة تنبش دفاتر التاريخ مرة أخرى لتستدعي عشتار والتي تمثل آلهة الحب والجنس والجمال عند البابلين، والتي تقابلها عشتاروت عند الفينيقين وأفروديت عند اليونان وفينوس عند الرومان. فمن هي هذه العشتار؟ هل كانت أنثى أخرى منافسة، وما أن أخبرتها حتى ثارت العاصفة؟ ولهذا قالت في العنوان ( لا تقصص رؤياك على أحد)، وعند العودة لتلك الأساطير يمكن معرفة سبب إدراج اسم عشتار في القصيدة، فعشتار هنا كناية عن أنثى تسعى لسرقة فارسها منها، تماما كما كانت تفعل عشتار الآلهة التي كانت تغري حتى البشر بجمالها وتعدهم بالزواج لتستولي على أموالهم. والآلهة هيرا التي هي زوجة الآلهة زيوس وقد اشتهرت هيرا بالمشاغبة والغيرة على زيوس لعلاقاته المتعددة مع النساء، وقد أذاقت زوجاته الأخريات الويلات حسب الأساطير الإغريقية القديمة.
وايزيس تلك الآلهة الفرعونية عند قدماء المصريين، والتي قُتل زوجها أوزوريس على يد ست الذي قطّع الجثة إلى أكثر من أربعين قطعة ووزعها على أنحاء مصر، ثم أعادتها إيزيس وأحيت زوجها لتحمل منه حورس الذي يعيد عرش أبيه.
وشهرزاد جارية شهريار الملك في حكايات ألف ليلة وليلة، الشهيرة وكانت الجارية الأخيرة في حياة شهريار الذي تعود أن يتزوج عذراء كل ليلة، ثم يقتلها لمعاقبة بنات حواء جزاء خيانة زوجته التي أحبها.
هذه قصيدة الاستدعاءات الكثيرة لرموز تاريخية وهم: نيوتن وقصة التفاحة والجاذبية الأرضية، ويوسف وإخوته الذين أحضرتهم دون ذكر اسمهم، وكان يكفي أن تأتي بالآية الكريمة للدلالة على استدعائهم، وعشتار، وايزيس، وهيرا، وشهرزاد بكل ما جاء من حكايات وأساطير اقترنت بأسمائهن، فماذا تريد الشاعرة أن تقول؟
هي تأخذك في جمل جميلة تارة إلى أعلى، وإلى الماضي تارة أخرى، فتدخلك بطن التاريخ وتخرجك منه كيف تشاء، كل ذلك لتخدم فكرة ما في ذهنها عن الحسد وعن الغيرة وعن علاقة حواء بحواء، وكيف يمكن أن تكون حواء العدو الأول لحواء.
فهل كان هناك بعض الإغراق في هذه القصيدة لكل هذه الحكايات والرموز للوصول إلى فكرة واحدة؟ وهل كان الربط موفقا في استخدام الجمل المختلفة مع الرموز وهل هناك من علاقة بينهما؟ وأقصد بذلك ربط ( البساتين والفراشات ب/ عشتار)، و( البحار والحوريات ب/ هيرا)
و(الأعشاش والسنونوات ب/ إيزيس)، و( البراري والغزالات ب/ شهرزاد)أسئلة حاولت أن أجد لها تفسيرا مناسبا فلم أفلح، فهل من تفسير مقنع؟
كل هذه تساؤلات تبقى من حق القارئ، ولكن ذلك لا يصادر حق الشاعرة في الاحتفاظ بالمعنى الذي تريد.
من ناحية أخرى قرأت جملة ( الأرصاد الجوية) فأحسست ببرودة المصطلح، وكم أثر ذلك عليّ كقارئ بشكل سلبي، وهذا مجرد رأي يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب.
أما من حيث البديع فقد تنوع في قصيدتها مثل الجناس غير التام في ( الأمنية، الأغنية)، و( الحنين، الدفين)، و(حبّ، جبّ). ومن التشبيهات (رأيتك في الجنة شجرة)، ومن الاستعارات جملة ( يقطر في أذني مفردات الشوق الدفين)، وجملة (ابتلعت العزلة فارسي)، وجملة( حللت سفك شوقي)، وجملة ( فسقط الحب في جبّ الحكاية). وهناك خطأ نحويّ في جملة ( فرأيت في البحر قواربًا) صفحة 50 والأصح (فرأيتُ في البحر قواربَ) لأنها ممنوعة من الصرف، ولم يكن من ضرورة شعرية لصرفها حيث يضطر الشاعر لصرف الممنوع من الصرف كي يستقيم الوزن.
ومضات رقم 5:
“كلما وقف الحسدة بيننا… كان الخسوف”، والخسوف للقمر، فالعلاقة بينهما قمرية مضيئة رقيقة، هذا ما يخطر لذهني بسبب وجود القمر في النص حتى لو كان تلميحا، والخسوف يحصل كلما دخلت الأرض الجرداء بين الشمس وبين قمرها الذي تهديه نوره كلّ ليلة، وبالتالي فهو الشمس وهي القمر، وهذا التوزيع منطقي ومقبول ودلالته صحيحة، فالأنثى أقرب للقمر في وصف جمالها ورقتها، والعلاقة بين الشمس والقمر أزلية،، وهي السائدة فلا قمر بدون شمس تهديه شعاعها، حتى القرآن جمع بينهما في العلاقة فجاء في الآية الكريمة:” لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار” هذه العلاقة الجميلة مباركة من الأعلى، وعندما يأتي الحسّاد ليجلسوا بين الشمس والقمر يكون الصدع المؤقت، وهذا كفيل بإطفاء القمر ولو لبعض الوقت. وهذا توظيف جميل آخر للظواهر الطبيعية.
ومن حكَمَ على قصيدة النثر أنها بلا إيقاع، وجردها من جماليات الشعر، أقول له ما قالت شاعرتنا في ومضتها في صفحة 52 :”مبللتان شفاه التوت..
فكيف لها أن تشعلهما
وبين سكوت وسكوت
تحيا.. وتحيا
ثم تموت”
ولا أزيد عليها، فكل زيادة في الرد قد تتسبب بالنقص.
الشاعرة تهوى ركوب المستحيل والصعب، ولها رؤية سريالية للأشياء فإذا استطاع سلفادور دالي أن يدخل الرجل في بيضة، وجعل من حبة الموز لعبة تأرجح في لوحاته السريالية غير الممكنة في تصور العقل البشري، فإن شاعرتنا تقول له لست وحدك من يفعل المستحيل، فها هي في ومضتها تقدم اعتذارها للبحار، فقد كانت تجهل أن ثمة من يفوق البحار مدّا وجزرا
حتى عايشت الحبيب، فعرفت أن البحار تغرق في دوامة تفتحها في بحر حبّه.
قصيدة ” معمودية القلق” :
تبدأ كلماتها في صفحة 54 بكلمة (سيدي) وهي مع ما بعدها من كلمات جملة إنشائية تفيد الرجاء، وهي كلمة تقال للسيد صاحب القرار النافذ والحكم الآمر، ويقولها محكوم أو تابع أو أمة، فهي بذلك ترمي عصمة أمرها في يديه، وتتنازل له عن حريتها طواعية، وتقول له أما وقد بلغتَ مني ما بلغت (فترفق) لأنك أصبحت في حياتي ثالوث الجمال، ( الشاعر، العاشق، الروح)، ولكن لماذا التنازل عن الحرية بعدما أعتقها؟ هل أصبح بالنسبة لها كالماء للسمكة، فإذا خرجت من الماء هلكت. هو يؤمّم قلبه، والتأميم معناه أن تصبح الملكية عامة، وهي ككل النساء تريده ملكية خاصة لها، ولكنها بالمقابل عرفت أن ذلك مستحيلا فطلبت الترفق بالأنثى التي آمنت بأقانيمه، والتي كان قد اصطفاها من دون النساء، ولكن ذلك لم يدم طويلا فضحى بها للنهر على طريقة أهل النيل الذين كانوا في كل عام يلقون إليه أجمل بنات مصر قربانا كي لا يثور عليهم، وهذا استحضار آخر لأسطورة قديمة.
وفي الفقرة الثالثة توضيح لما آلت إليه الأمور، فهي التي ظنها غجرية، ولما تمنعت عن إرضاء أهوائه رماها إلى نار الحنين، وبلغت به ساديته أن رآها تصبح رمادا وكان مستمتعا بذلك. وهنا يوجد وقفة مع حواء، فهي إن أحبّت بصدق فقد ترى قاتلها يمامة فوق غصن ذلها، فهل أرادت الشاعرة إقرار هذه الحقيقة، كي يكون قد شهد عليها شاهد من أهلها؟
تقول الشاعرة ( سيدي وأنت تؤمم قلبك.. ترفق)، جملة إنشائية مكررة تكررها الشاعرة ست مرات، وقد يكون للتكرار أسبابه في التوكيد، ولكنه عند شاعرتنا يتكرر في أغلب القصائد وكأنه أسلوب وسمة عامة للقصيد. واستخدمت في نهاية فقرات القصيدة كلمات تنتهي بحرف القاف، وهو حرف ثقيل الإيقاع، وله في القلب وقع خاص عند سماعه، وقد كان ذلك في الكلمات ” الأرق، الغرق، رمق، العلق، العبق، القلق” وكانت موفقة في اختيارها. وفي بعض هذه الكلمات جناس غير تام في الثنائي ( الأرق، الغرق”،العلق، القلق.”
قصيدة ” أستميحك بوحا”
جملة إنشائية أخرى، والعنوان انزياح إضافي آخر، ونلاحظ تركيز الشاعرة على هذا النوع من الجماليات في صياغة القصيدة، ربما لما فيه من المفاجأة وقول غير المتوقع لإحداث الدهشة عند القارئ، فهل أكثرت الشاعرة منه وأغرقت النصوص به؟ سؤال آخر يضاف إلى الأسئلة الموجهة للشاعرة.
واستدعاء آخر للتاريخ في زرقاء اليمامة صفحة 56، وهي امرأة عربية من اليمامة في نجد يقال أنها كانت ترى الناس على بعد ثلاثة أيام، وطبيعة الإخبار فيما لا يُرى استدعى وجود قوة أكبر من العادي المعروف فاستدعت الشاعرة بذكاء زرقاء اليمامة لتخبرها بما عرفت.
أما جملة ( أنك ستزفني لليباب) كناية عن الموت، وهي جملة خبرية، أي أن زرقاء اليمامة أخبرتها عن نيته، وجاء الفعل ( فانشطر) موفقا لخدمة الفكرة، لأن هذا الخبر ينفطر وينشطر منه القلب، بل وأتبعت كلمة الانشطار بمعنى عملي مفاده أن مصطلح قوس قزح يأتي عادة بكلمتيه معا، لكنها حققت هذا الانشطار حتى في المصطلح فباعدت بين الكلمتين وألصقت لكل كلمةٍ كلمةً أخرى وهذا عكس ما كان منهما طيلة حياتهما، وهذا توصيف لحالهما فالانشطار أصبح في كل شيء.
وبعد القصيدة كالعادة تأتي ومضاتها الجميلة ( ومضات 6)وهي ومضات العزف على الوجع والنفخ في ناي الغيرة، هو وهي والأخرى مثلث الوجع العشقي الذي لا ينتهي إلا بسقوط أحد أضلاع المثلث.
تقول في صفحة 57 ( قنديل أنت.. فتيل هي)، وهذه الجملة فيها تشبيهين بليغين لحذف أداة الشبه والمشبه به، فشبهته بالقنديل وشبهتها بالفتيل. وهذه الجملة الشعرية المركبة جملة في ظاهرها المدح له وفي باطنها الذم، فهو قنديل والقنديل لا يضيء بدون فتيل، فهو يصبح وعاءً فارغا بلا هذا الفتيل، وهي الفتيل وبدونها كأنثى هو لا شيء، وليس هذا فحسب بل في الجملة تجعل من الأخرى ضحية لاستغلاله لأنها ضرورية لاشتعاله. هذه الضحية هي الأنثى الأخرى ولكن بطلة القصيدة تشاهد ما يحدث وتحترق، وأظنّ هذا ابتداع تخيلي على مستوى عال من الصنعة.
وتقول في جملة شعرية لاحقة ( حين تغلي الغيرة.. يتبخر الحب)، تشبيهات واستعارات جميلة واستخدام جميل لعلوم الطبيعة لإيصال الفكرة في جملة خبرية. فقد شبهت الماء بالغيرة والبخار بالحب، أظنه ابتداع آخر يحسب للشاعرة. وما زالت الومضات العازفة على وتر الغيرة تتوالى، فها هي تقنع نفسها وتخاطب قلبها أنْ آن لك أن تقتنع بأن قلبه لا يشبهك، فأنت أيها القلب عدد أولي وهو عدد يقبل القسمة على عشرة.
تقول أيضا في صفحة 58 ( في العشق لا تكن كمثلث برمودا)، وهذا أيضا استدعاء ولكنه من نوع آخر وهذه المرة جغرافي وطبيعي وظاهرة كونية غريبة تتمثل بابتلاع كل عابر سبيل، فهي إذن ومضات الغيرة التي يظلّ رأسها عالقا في غيمة بيضاء في سماء الظنون.
قصيدة ” من مزامير الغياب”:
هذا العنوان استحوذ على بعض الشعراء والأدباء، مثل الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل التي استخدمت هذا المصطلح الإنجيلي، وتنقلت كذلك في التوظيف لإيصال الفكرة بين نصّ إنجيلي وآخر قرآني، وهذا ما فعلته شاعرتنا أيضا ليس تحديدا في هذه القصيدة، وإنما في العديد من القصائد والومضات الأخرى عبر الديوان، وقد ذكرت ذلك في ملامح الديوان في البداية. وربما استخدمت الترقيم في هذه القصيدة بسبب أن المزامير الدينية مثل مزامير داوود عليه السلام، لها أرقامها فكان المزمور الأول والثاني والثلث وهكذا. والعنوان عادة ما يكون هوية النصّ، وبالتالي فهي أناشيد تتحدث بشكل متسلسل عن الغياب والذكرى من أولها إلى آخرها.
تبدأ هذه الأناشيد والجمل بحرف (إن )، تقول في صفحة 60
(إن ضاق بنا الحلم…..)، وهذه كناية قلة الحيلة والعجز والحزن،( إن ولجت الغزلان متاهة اللؤم….)، كناية عن وقوع البعض ضحية شرّ الآخرين ومكرهم، وهكذا كمقدمة للولوج إلى متن الفكرة، فتذكر الغائب وما كان بالنسبة لها في معاتبة رقيقة أحيانا ولاذعة أحيانا، فكان كما أسمته ( الأغلى)، وكان ( الأشهى)، وكان ( الأفعى)، وهذا رسم دقيق لحالة التخبط في تلك الحالة أو الحالات الوجدانية، وتقول في سياق ذلك ( كنت النبي الذي اشترى)، (ويهوذا الذي باع)، وهذا أيضا استدعاء لرموز تاريخية ودينية أخرى، وهي في هذه المرة أيضا متوافقة مع النسيج العام للقصيدة، وحافظت على البناء الموضوعي للنص، فلم يكن الاستدعاء إقحاما غير ضروري للنصّ، وكلا الجملتين من نوع الجمل الخبرية وفيهما مقابلة واضحة. وهناك طباق في كلمتي ( اشترى وباع)، وجناس غير تام في عدة كلمات.
المفردات المستخدمة في القصيدة كذلك خدمت الفكرة العامة لها، مثل(الغياب، ضاق بنا الحلم، خواء، لوم، الهمّ، الغراب، الضياع)، وبالمقابل فقد استخدمت ألفاظا مضادة تخدم الفكرة المضادة مثل ( حلم، هتف، الأسمى، اخضرار، بنفسجة، الأشهى، الإيقاع.)
ومضات رقم 7:أسميتها ومضات الرحيل، والغريب أنه رحيل دونما وجع، ولعل ذلك بسبب الوعي في دخول العشق، وكذلك عند الخروج منه حتى تكون الخسائر أقل ما يمكن أن تكون، الفكرة بحد ذاتها ليست مستحيلة لكنها ليست بمنطقية إلى حد ما، فلا أحد يختار العشق ولا يدخله مع احتمال الخروج منه، ولكنها ربما تكون دعوة لنهج جديد أكثر وعيا.
القرار في هذه الومضات كان ذاتيا لذلك لم تكن الأنثى هنا ضحية كعادتها، بل على العكس فقد عادت بعد رحيله طفلة، والطفولة كناية عن البداية والبراءة، فها هي تعود للهو مع البجع والنحل، ولم تعد تشغل ذهنها كثرة الأسئلة. تقول في صفحة 62 ( برحيلك عدت طفلةً تتمرغ بالرمل.)
قصيدة سوناتا الندى:السوناتا معزوفة موسيقية متغيرة الحركات، بطيئة وسريعة، وقد عزف موسيقى السوناتا أشهر موسيقيّي العالم أمثال بتهوفن وموتسارت، وفي بعض الحقب الزمنية كانت السوناتا معزوفات كنسية استخدمها أهل الكنيسة في المناسبات الدينية.
الشاعرة في خيالها الواسع سمعت للندى عزفا موسيقيا، فأحبت أن تعزفه لنورسها الذي نذرت نفسها لعشقه، ولأن عشقه بالنسبة لها مقدسا فقد اختارت السوناتا لقدسية المكان الذي تعزف فيه، وهذا مجرد تقدير لا أدري كم اقتربت من صحته في التحليل.
تقول في صفحة 63 ( وأعزف سوناتا الندى/ لنورس نذرته لعشق مقدس/ فنذرني لذئاب المدى) في جمل خبرية الأسلوب، كناية عن إخلاصها وخيانته، ووفائها وغدره، وهذه مقابلة بين حالتين، الأولى تخصها وتعيشها والثانية تخصه ويعيشها، هي نذرت نفسها لنورسها وهو نذرها للذئاب، ولأنه كذلك أصبح فارسا من سراب، والسراب لغةً هو الماء الوهمي وهذا من جماليات اللغة، فهو عكس الشراب الذي هو الماء الحقيقي، هي ظنته فارسا حقيقيا فكانت كالتائه في الصحراء يرى اللمعان في البعيد، يظنه شرابا فإذا اقترب اكتشف أنه سرابا. ولأنها السوناتا الكنسية، فالكنيسة حضرت حتى لو تلميحا، وبسبب وقوعها بالجلجلة بعد صدمتها، كان لا بد من منقذ، وفي حديث الجلجلة والكنيسة فلا أفضل من يسوع عليه السلام مخلصا ومنقذا. والجلجلة في معجم المعاني الجامع هي صوت الرعد، وهي مصدر جلجل، وهي كذلك صوت الاهتزاز والحركة الشديدة والجمع جلاجل. والجلجلة حسب الاعتقاد المسيحي هي الصخرة التي صلب عليها السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد أسقطت فكرة الجلجلة على نفسها، ولكنها لم تنكر حق المسيح عليه وعلى أمّه السلام بالردّ، فاستحضرته لهذا الردّ.
هذا الترابط المتين يدلّ دلالة واضحة على أن الشاعرة تعرف ما تريد، وأن صناعتها الأدبية مبنية على أسس مدروسة. وعند قراءتي للقصيدة تمنيت لو انتهت القصيدة عند جملتها الشاعرية (فيصيح المسيح.. كفاك نفاقا)، لأنها نهاية كانت الأجمل دونما إضافات فلا حديث بعد ردّ يقدمه يسوع.
وفي القصيدة تراكيب جميلة كباقي القصائد مثل ( فارس السراب، مزمار الهوى، اللبؤة الحانية، سحب حائرة، حروف ماطرة، ريش الأمنيات)وفيها انزياح تركيبي في جملة( لسواك أنا)، فقد أخرت المبتدأ ( أنا) وحقه التقديم على الخبر المكون من شبه الجملة (لسواك.)
وفي جملة (مع الريح تعود/ لتعاود العزف/ على مزمار الهوى)، استعارة جميلة وفيها انزياح كناية عن الرجوع إلى عادة قديمة توقف عنها مدة، ولكنها لم تكن مدة طويلة؛ لأنه عاد مع الريح والريح سريعة وفيها الفوضى والطيش؛ ليمسك آلته التي اعتاد أن يعزف عليها.
ومضات رقم 8: ومضات التحدي كما رأيتها، ولأنها ومضات التحدي
والإصرار على الحياة، تأتي الأسطورة الأنسب لهذا وهي الأسطورة التي
تتحدث عن القيامة من الموت، تقول في صفحة 65
“قهرني البحر،
مثنى.. وثلاث.. ورباع
وفي كلّ مرة كنت كالعنقاء
من بين الرماد أقوم
لكن.. كقارب دونما شراع”
استخدمت البحر والبحر من صفاته المعرفة الغدر، واستخدمت القهر والقهر مرادف للموت فالله القاهر لعباده بالموت، واستخدمت مثنى وثلاث ورباع وهي استخدام قرآني عرف بموضوع تعدد الزوجات، ولا شيء يقهر الأنثى مثل أنثى أخرى يأتي بها الرجل حتى لو شرعا. ثم بعد كل هذا تأتي فكرة العنقاء لتبرز إصرارها على التحدي والحياة، فتقوم
من بين الرماد، ولكن حتما أنها لن تعود كما كانت، فتعود مكسورة الجناح. ثم تمضي في حديث القوة والتحدي فتقول:
“ما لطخ الدم قميصي… أنا قتلت الذئب كي أحيا”
إن استحضار قصة الذئب في القصيدة، وما كان من أخوة يوسف عليه السلام يدل على حضور الكذب والحسد، فليس أقوى في قصص الكذب في التاريخ من تلك التي واكبت حياة يوسف الصّديق، فهل ذكرها في قصيدة للحبيب يوحي بكذبه، أو حتى أنه اتهام صريح له بصفة الكذب البالغة؟
ونلاحظ مرة أخرى أمرين، الأول توالي اتّكاء الشاعرة على استدعاء الرموز التاريخية والأسطورية، وكذلك التناص فكرة أو ألفاظا أو جملا مع الكتب السماوية، إنجيلا وقرآنا.
قصيدة فلسفة الحبّ:
“مضى الغراب، والغثاء مرّ وزال…. وفي الأفق سُمع موال” هي قصيدة العودة والرجوع والربيع بعد اندثار الغيوم السوداء، فما أن رحل الغراب عن حياتهما حتى طاب سماع فيروز، والغراب كناية عن الوشاة والحاسدين وربما سارقي الأحلام وما أكثرهم.
عودة الربيع أعادت الحياة لكل شيء في نظر الشاعرة، فأينع الزهر ونضجت الفاكهة، وأرسلت البحار حورياتها، ودخل النور بعد الظلام، وغرد الكروان. كلّ ذلك في لامية جميلة محلقة تتراقص فيها الكلمات وتعزف فيها الحروفلحن فرحتها، القصيدة فيها محسنات بديعية مثل الجناس ( زال، ما زال)
ومضات رقم 9:
وهي ومضات العادات والموروث الاجتماعي، تستخدمها وتطوّع مفرداتها ومعانيها لخدمة ما تريد، فقراءة الكفّ موروث شعبي وعادة عند الكثير من الناس، ورغم جاهلية الفكرة وعدم علميتها إلا أن الشاعرة استخدمتها، (إقرأ كفّ من تشاء من النساء) صفحة 69،
لم أجد لهذا تفسيرا إلا أن الأنثى قد تلجأ إلى كل الطرق، وأنها لا تعدم الوسيلة للوصول إلى غايتها، فالشاعرة عبر ديوانها لم تترك أسطورة أو علما أو رمزا أو مفهوما أو عادة إلا حاولت تطويعها، كي ترسخ صورتها الأنثوية أمام الحبيب، وكذلك الصورة القوية والعنيدة التي تأبى الانكسار، كل ذلك لتقول له أحبك، ولتسأله بعد كل هذا سؤالا واحدا…( أتحبني)؟.
وتقول: ( لست طروادة/ بالبارود تحاصر أسوارها/ لي قلب عصفورة)
وهذا رسالة إنسانية عالية المستوى، وفيها مقابلة بين نقيضين، بين قلعة عالية عصيّة على الانكسار، وبين مخلوق رقيق لا يليق به إلا الرفق واللين كما جاء بالحديث الشريف “رفقا بالقوارير”، فهناك من يتعامل مع الأنثى وكأنها قلعة وهي أوهن من بيت العنكبوت إلا من ارتأت غير ذلك.
قصيدة ” إيقاع العشق”
قصيدة اختلفت عن سابقاتها في المخاطِبِ والمخاطَب، ولكنها تشابهت إلى حدّ كبير في الأسلوب والصياغة والطرح، فهنا خوطبت الأنثى من قبل عدة مخاطِبين. ففي البداية يكون الحديث أحاديّا ( حبيبتي) مادحا إياها بأجمل الحديث (يا سليلة النعناع والبرتقال والليمون/ والزعتر البريّ والزيتون) ثم يجعل سقراط ينهض من كتب التاريخ، وكذا اللقالق يجعلها تتحدث والبحار والصواري ثم يأتي بالطيور لتطوف حول كعبة حبها سبعا، وتقول لها ( من الآن نحبك)، فهل أرادت الشاعرة أن تقيم شيئا من التوازن العشقي بينها وبينه بأن تحدثت على لسانه، فحرك لها الصواري والأشرعة، وأنطق البحار وجلب الرموز (سقراط/ يونس/ الحوت) كما فعلت هي بكل القصائد؟ سؤال يضاف إلى سلسلة الأسئلة.
قصيدة “ابن الغجر”
(لا أريد أن أموت هكذا/ كفأر المتاهة/ أفرّ، أكرّ، أقبل، أدبر/ في مصيدة الصمت) كناية عن الضيق الذي يتبعه الموت. الكلمات تعيدني إلى قول
امرؤ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معا**** كجلمود صخر حطه السيل من عل
هناك الحديث عن خيل سريعة كانت حركتها من أجل الصيد، بينما شاعرتنا
استخدمت ذات الكرّ والفرّ وذات الحركة في الإقبال والإدبار لفأر هو سيكون
ضحية الصيد، والجملة في تضاد في ( أفرّ، أكرّ)، وفي ( أقبلُ، أدبرُ)
والصمت كناية عن الموت لأنّ الموت فيه صمت أبديّ، فكان التوظيف للفظة موفقا.
وتتكرر جملة ( لا أريد) ثلاثا، كناية عن الرفض القاطع للفكرة.
“سيكون أن.. تنحني السنابل الآيلة للشوق” انزياح إضافي غير متوقع، وفي جملة ( سيكون للروح التي مع أشباه الظلال تنافرت.. فاختلفت، أن تتعارف مع الغريب القادم من فردوس الأساطير فتتآلف ويكون نور) وهنا إشارة إلى الحديث النبوي الشريف } الأرواح جنود مجندة، فما تشابه منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “أو كما قال صلى الله عليه وسلم.وهذا يعيدنا إلى قصيدة ” أنا الأنثى” التي تنبش دفاتر التاريخ بحثا عن فارس أسطوري ربما كالإبرة في كومة قش، لماذا؟ لأنها لم تتفق مع أشباه الظلال في الواقع فتنافرت معهم، فآن لها أن تجده أسطورة من تلك الرموز التي صاحبتها عبر هذا الديوان.
وجملة (أشباه الظلال) انزياح آخر كناية عن أشباه الرجال، وهذا الواقع مع أشباه الرجال يجعلها تعيش في ظلام، بدليل أنها بفارسها الأسطوري ستدخل فردوس السعادة ويكون النور.
“وفي الذكرى الثانية للجنون المقدس” هذه الجملة في صفحة75 تفتح أمام القارئ بوابات الاحتمالات على مصراعيها فيما تريد أن تقول الشاعرة، ولا يكون التأويل بغير ربط الجمل والقصائد ببعضها، فهي تتبع بجملة( سيهددني باللعنة، فأرتشف الترياق بيدي، لا بيد ابن الغجر) كثيرة هنا التأويلات، ولعل كلّ منها يأخذ القارئ إلى أكثر مما يحتمل النصّ، لذا أحيانا الأجمل أن تترك هناك المساحات للفهم كيفما يشاء المتلقي، ويبقى المعنى الحقيقي في بطن الشاعر كما يقال.
“سيكون أن تهدهدني ملائكة فأفيق/ وعلى الجبين أحد عشر اسما ووشما” خيال فوق غيم الإبداع، وأمل ترسمه بإسقاطات جميلة، وصور يوسفية الجمال أضيئت من زيت لآل البيت، في جمل خبرية الأسلوب.
صور فائقة الأناقة كناية على الإصرار على تحقيق الحلم، مهما كان الحلم خياليا ومجنونا ومغرورا. قد يخبو مصباح الأمل قليلا نتيجة مكر الغربان، ولكنهم إلى زوال، وسيبقى
الأفق لهذا الحلم عنوانا.
وفي القصيدة مقابلات عدة مثل ( الأكثر زرقة من يم) و ( الأقل مراوغة من غيم) ومثل ( تنافرت فاختلفت) و( تتعارف فتتآلف) وهناك جناس غير تام في ( الأكثر، الأقل) و”مغرور، مغروم”.
واستعارات مثل “وفي القفص الحلميّ قمر”
وهناك ملاحظة أن آخر كلمة في القصيدة كان يجب أن تكون عنوانا، وليس عنوانا لأنها مفعول به منصوب، وربما اضطرت الشاعرة لذلك تماشيا مع الكلمات السابقة ذات القافية المتشابهة ( الطوفان، الغربان، جان) ولكن كان بالإمكان إعادة ترتيب آخر ثلاث جمل على النحو التالي للوصول إلى قافية مشتركة بينها دون خطأ، فتكون:
” كنتُ كيانا/ سأبقى كيانا/ ويبقى الأفق لجناحي عنوانا”
وأنتقل إلى القصيدة صاحبة عنوان الديوان متجاوزا باقي القصائد والومضات، لتشابه الأفكار والصور والاستدعاءات الجميلة للرموز، والاستعارات الكثيرة، وسحر البيان والبديع.
قصيدة “سأحاولكَ مرة أخرى”
وعودة إلى عنوان الديوان الذي حمل ذات المعنى ولكن المخاطب كان مؤنثا، أما قصيدتنا هذه فالمخاطب فيها مذكرا، فهل قصدت الشاعرة بالعنوان معنى آخر؟ هل لعنوان الديوان علاقة بالإهداء الذي افتتحت الشاعرة به ديوانها فكانت تقصد (سأحاولكِ أيتها اللغة الأمّ مرة أخرى حتى أصل إلى ما أريد)؟ أم أنه محض خطأ طباعي لا أكثر ولا أقل؟ هذا ما تساءلتُ به في بداية قراءتي وطبعا الإجابة عند الشاعرة.
وعودة للقصيدة، قصيدة العودة كما رأيتُها….”قد آن الأوان /أن تعقد قرانك على هذياني”
كناية عن الإصرار والقرار الذي اتخذته الشاعرة مع سبق الإصرار، وكأن ما كان من قصائد وومضات ما هم إلا مقدمة لهذا القرار. كأنها تقول له ها قد قدّمتُ لحياتي معك، فقدّم مقابله ما أستحقُّ منك فقد آن الأوان. واستخدمت لذلك أدوات التوكيد ربما لأنها متأكدة من النتائج، وفي الجملة انزياح إضافي في كلمة هذياني.
تقول في صفحة ٩٤ ( كي تولد ولو مرة واحدة/ على يدي امرأة / تعرف/ كيف تغري جوعك/ إلى قمح الحنان) وهذا كناية عن البداية الجديدة، فالميلاد بداية الأشياء، ولكنها ولادة من نوع آخر، ولادة تنقله من عالم الجوع إلى عالم الاكتفاء حيث مزارع الحب، والجملة فيها من توظيف البيان الشيء الكثير، ولغة المجاز فيهاعالية المستوى، فقد شبهت النقص والحرمان العاطفي بالجوع، والوصل والرضا بقمح الحنان. واستخدمت بذكاء الفعل تغري، فلم تقل امرأة تأخذك بل قالت امرأة تعرف كيف تغري، لعلمها انه يكفي الرجل بعض الإغراء ليذهب بعد ذلك بنفسه.
“قد آن الأوان/ أن أحاولك مرة أخرى/ لأحاور فيك شهرياري/ وقيسي وابن
كنعان”، تكرار كناية عن التأكيد والإصرار الذي ذكر في البداية، ولكن هنا تتحدث عن المحاولة، والمحاولة مرة أخرى تفيد وجود محاولات سابقة كلها كللت بالفشل، وإلا لما حاولت مرة أخرى، في هذه المرة ستحاور، والحوار فيه تنازل عن القرار الذي اتخذته سابقا وهذا باعتقادي خلل، ولو كانت هذه الفقرة قبل سابقتها لكانت اقرب لمنطق مراد القصيدة، ولو كان مراد القصيدة المحاولة أصلا فما كان من داع للقرار القطعي المتخذ في البداية بعقد القران.
في هذه الفقرة ستحاور فيه شهريارها وقيسها وابن كنعان، فيه تريده كما هو في مخيلتها ورغبتها، وهنا تناقض أنثوي مقصود ودهاء لحواء ومكر مبطن، فالحوار يفيد الندية واحتمالات القبول والرفض، وإعطاء الآخر الحقّ لأن يكون هو، لكنها تبدأ حوارها معه على أنه قيسها وشهريارها، وكأنها تقول له كن ما تريد في هذا الحوار ولكن في إطار رغبتي وتصوري. وهنا عودة وتأكيد على ان هذا الرجل الذي ستحاوره، تريده كهؤلاء الذين تنبش عنهم في بطون التاريخ، تريده نسخة منهم، لاعتقادها بانقراض هذا النوع البشري وعدم وجوده في هذه الأيام، ترى لماذا انقرض هذا النوع من الرجال، وهل انقراضه مرتبط بانقراض ذلك النوع من النساء الأسطوريات اللواتي كنّ على عهد هؤلاء الرجال؟ وهل طلب الرجل الأسطوري بشكل حثيث من الشاعرة هو فقدان للأمل، فقدان أمل مبعثه الأمل.؟
كلها أسئلة تضاف إلى الأسئلة السابقة في هذا الديوان.
رابعا: الخلاصة والخاتمة:
لقد قدمت لنا الشاعرة والقاصة ريتا عودة طبقا شعريا شهيا، قد نختلف على بعضه، وهذا من طبيعة العمل الناجح. وهذه قراءة متواضعة لم تدخل بكل التفاصيل، قد أكون أخطأت بفهم المراد في بعض القصائد، وقد أكون قد أطلقت حكما غير دقيق على بعض المواضع.
وأختم بما بدأت به حديثي عن مفهوم الشعر ومن يستحق أن يقال عنه شاعر، وهل ما جاءت به ريتا عودة من قصيدة النثر، وليس ريتا عودة لوحدها، فهل للمقطوعات النثرية المبنية على جماليات اللغة وبيانها وبديعها مكان في وجدان الشعر لنقول عنها قصيدة، أم أن الجدل حول هذا الموضوع سيبقى قائما كما ذلك التجاذب والصراع والجدل بين آدم وحواء؟
وقال عبدالله دعيس:”عنوان المجموعة هو عنوان أحد نصوصها التي تزخر ب”أنا”. “أنا” الأنثى بكل ما تحمله من شعور وألم وأمل وما يحيطها من جنون الاحتلال والظلم والفقر والجهل. العالم حولها مجنون، لكنها لا تفقد عقلها وتتّبعه في جنونه بل تُبقي على حلمها الذي يُبقى شعلة الأمل متقدة في صدرها.
نلمح في قصص ريتا عودة الأنثى المقهورة في ظل الاحتلال، المتمردة على قوانينه ووجوده وعلى الفقر والبطالة والعوز التي خلفها في ربوع وطنها المكلوم. الأنثى الحالمة التي يحاصرها الألم، لكنه لا يستطيع سلب حلمها فيبقى الأمل نبراسا يقودها.
تعلن الكاتبة من خلال شخصياتها الثورة، وتبدأ بالثورة على المحتل والتمرد على قوانينه. فترمز للمحتل بالشرطيّ الذي يحاول أن يقهرها، لكنها تتمرد عليه وتحاول أن تفقده أعصابه، ثم تتجرأ عليه وتعبر الشارع دون التفات للإشارة الحمراء، معلنة أنّه لا رضوخ لقوانين المحتل. والمحتل، في بعض أقاصيصها، هو لب المصيبة ومنبع البطالة والفقر. والفقر هو العدو الذي تحاول الكاتبة أن تفضحه وتعري أوجاعه من جوانب مختلفة وفي نصوص متعددة.
وظلم الأنثى، ليس مصدره الاحتلال أو الرجل فحسب، فالأم قد تظلم البنت وتحصرها في عمل البيت وتحرمها من فرصة اللعب والمتعة، لكنها لا تستطيع أن تحبس خيالها. والأب يحرم البنت من الارتباط بمن تعشق، ويحاول أن يخنق حلمها قبل أن ينهي حياتها بطريقة ساديّة، لكنها تبقى تحلم وتأمل بمستقبل مع من تحبّ، حتّى ولو فرّق الموت بينهما.
تبدو الكاتبة في نصوصها بعيدة عن الواقعية، منتصرة للرومانسية، مغرقة في الحلم. تدير صراعا بين الواقع والحلم، لكن الحلم والأمل ينتصران دائما في نهاية المطاف. فالمرأة هي التي تحلم وتسبح في خيالها بعيدا، وهي التي تشكّ في إخلاص الرجل وحبه، والرجل يظهر غالبا بصفة الحريص على الحب المحافظ عليه، فهو أكثر واقعية من المرأة التي توشك أن تحطم حبّها بيديها بسبب أحلامها وشكّها. لكن الرجل يغرق أحيانا في الأمور المادية ولا ينتبه لمشاعر المرأة الجياشة المتدفقة.
وتتعرض الكاتبة في نصوصها إلى علاقتها بالآخر، أي اليهودي الذي يشاركها المدينة والحيّ. وتظهره بصورة المحتل المغتصب الذي يفرض الفقر والجوع والجهل والتعصّب، ويحرمها من فرصة التعليم والانطلاق، لكنه لا يستطيع أن يقيّد حلمها أو أن يطفئ شعلة الأمل في نفسها. ومع هذا فهي لا تنفي عنه صفة الإنسانية رغم قسوته وغطرسته، بل تنظر أحيانا إلى الإنسان فيه؛ فهي تفكر في ذاك الشرطيّ الذي قد يكون له عائلة أو مشاكل تحاصره، وتتعامل مع جاراتها اليهوديات في حيفا أو في الناصرة العليا بواقع الجيرة لا بواقع المحبة والصداقة. لكن إنسانيّة المحتلين، في النهاية، هي إنسانية مبتورة مسخت باستعبادهم لغيرهم واغتصابهم لحقهم في الحياة.
تمتاز نصوص ريتا عودة بالخيال الواسع. ففي قصة “قطرة مطر” مثلا، تُنطق الكاتبة القطرة وتجعلها شخصية حيَة تطوف البلاد بحثا عن مكان تهبط فيه. وتستغل الكاتبة هذه القطرة بذكاء لتشير إلى الكثير من المشكلات الكامنة التي قد لا نراها، لكن قطرة المطر الهابطة من السماء تكشفها وهي تختار طريقها بعناية لتحدثنا عن الخير والشر الذي تصدفه في هبوطها. وفي نهاية المطاف، تختار أن تهطل على المرأة المقهورة لتندمج مع دمعها المنهمر ألما.
وترى الكاتبة أن الحب لا يتعلق بالجسد أو العمر، وإنما يتعلق بالمشاعر الصادقة. وتعتب على الرجل الذي يجذبه جمال الأنثى ولا ينظر إلى جوهرها، فالجمال ليس هو معيار الحب. فتلك فالمرأة، في قصة “زرقة البحر”، تعشق الرجل الأكتع ولا تنتبه إلى يده المبتورة، بل إلى روحه وحبه الصادق ومشاعره الفيّاضة.
لغة الكاتبة شعرية، غامضة أحيانا لكنها بسيطة بشكل عام، يمكن فهمها والوصول إلى مراميها والمعاني من وراء النص بسهولة ويسر دون إرهاق للقارئ. وتستخدم الكاتبة الرمز في نصوصها كثيرا، فالشرطي يرمز للمحتل، والجلوس على المسمار هو تجرع الألم النفسي، والسنونو هو الفتاة العاشقة المعذبة الحالمة.
تبدأ الكاتبة مشوارها في هذا الكتاب بالقول:
“يكفيني فخرا أن أكون قد تمكنت من التعبير عن موقف ما ولو مرة منذ أدركت كوني أحيا في وطن مغتصب.”
لكنها لا تترك المحتل يسلبها الحبّ والحلم والأمل، فتعلن أن الحياة لا يمكن أن تكون دون حب. “لكن جسدا بلا قلب كنهر بلا ماء.”
وقالت نزهة أبو غوش حول مجموعة “أنا جنونك القصصية”
عمدت الأديبة ريتا عودة في قصصها القصيرة أن تصنع صلة وثيقة ما بين الذّات والأشياء، فبدل أن تستخدم الوصف المحسوس، الّذي يعجز عن وصف الحالات النّفسيّة الغامضة؛ استخدمت وصفًا ايحائيًّا غير مباشر، وعن طريق الاحساس تمكّنت في كتاباتها أن تخلق الاثارة النّفسيّة لدى القارئ.
هذا النّوع من الأُسلوب يشبه لغة الرّمزيّة في الأدب، حيث أن بإِمكانه أن يمتصّ الكثير من المعاني والأفكار في رقعة قصيرة من النص؛ لذا نجد أنّ لغة الأديبة عودة، لغة مكثّفة قريبة من لغة الشّعر، نلحظ ذلك في قصّة المسمارص 62. ” انطفأت آخر ومضة في عينيه. احترق رغيف الاعتراف داخل تنّور أوجاعه”
وفي قصّة “قطرة ماء”ص 58 – 56 نظرت إِلى الأرض أبحث عن مكان أهطل فيه، فقد قرّرت أن أكون متفرّدة في هطولي كي لا أتبدّد عبثًا”..آآآخ كيف تحطّ العصافير فوق طبق القلب إِذا كانت الأرض غارقة في الطّوفان؟”
نلحظ بأنّ الأديبة ريتا عوّاد قد استخدمت طريقة التّلاعب بالكلمة ؛ من أجل التّعبير عمّا يجول بخاطرها من أفكار وما ترمي اليه من معنىً بشكل ذكيّ كما في قصّة شرطة ص 38.” ارتطمت نظراته بلافتة مصلوبة على مبنى الشّرطة… فقد سقط المقطع الحديدي” طة” عن المقطع “الشرّ” في العبارة” الشر… في خدمة الشّعب” كما يسقط القناع عن وجه الحقيقة.
في كتابها “أنا جنونك” عبّرت الكاتبة عن واقع ملموس تحياه يومًا بيوم، وساعة بساعة في وطنها المحتلّ في بلدتها النّاصرة شمال فلسطين؛ فجاءت كتاباتها ملتزمة، عبّرت بها عن أحلام الطّفولة المسروقة، عن الفقر، عن الحزن الّذي يسكن المخيّمات، عن المعاناة اليوميّة الّتي يواجهها العربي في مجتمع يهودي، عن الخوف؛ وعن القهر.
هناك قصص صغيرة تحدث مع العربي الّذي يعيش محاطًا باليهود، لا يعلم عنها أحد، نقلتها الكاتبة عوّاد بصورة واضحة ومعبّرة، كما في قصّة ” أرض البرتقال”، حيث وصفت أزمة العربيّ وقت عيد الغفران عند الشعب اليهودي، إِذ أنّه في هذ اليوم تعطّل كلّ المرافق الحيويّة في البلاد، وتمنع السياقة بالشّوارع، وإِن حدث وحصل، فقد يرميهم المتديّنون اليهود بالحجارة. أرادت الكاتبة أن تقول: أنتم تعيّدون عيدكم، ونحن ما ذنبنا؟
الاجابة واضحة، وهي فرض سيطرة القويّ على الضّعيف، أي سيطرة المحتلّ( اسم الفاعل) على المحتلّ “اسم المفعول”.
المفارقة في لغة الكاتبة برزت بشكل جميل ص30:
حدّق ابني في الطّريق أمامه دون أن يحرّك عينيه. همس برعب:
– لكن لماذا يقذفون الحجارة؟
– إِنّه عيد الغفران.
– ما معنى الغفران؟
– إِنّه التّسامح.
تداخلت المحسّنات اللفظيّة والمعنويّة في كتابات الأديبة، الاستعارات والكنايات نجدها أحيانًا تطغى على المعنى كما في صفحة31 في قصّة عودة النّورس.
” أنا وحيدة كعجز بيت في قصيدة، كجمرة في مهبّ ريح عنيدة”
حيث أنّ الكاتبة شبّهت الوحدة بعجز بيت منفرد في قصيدة، ثمّ ألحقته بتشبيه آخر، وهو الجمرة في مهبّ الرّيح…حيث أفسد التشبيه اللاحق التّشبيه السّابق.
تكرّر ذكر السنونو بشكل ملحوظ في قصص الأديبة” أنا جنونك”
حيث أنّ هذا الطّائر مميّز في شكله وألوانه، وجناحيه الكبيرين، وهو طائر ذو شعبيّة ومعروف عند أغلب الشّعوب. فهو رمز للحريّة عند طيرانه وفرد جناحيه العريضين، ورمز للاستقرار عند هبوطه ومحاولته المشي بثبات على الأرض، كما أنّه رمز للفلسطينيّ المتنقلّ بين بلاد العالم. هو رمز لرغبة الأديبة بأن تتلوّن أحلام البؤساء كألوان النورس الرائعة.
وقالت رائد أبو صوي:مجموعة “أنا جنونك” القصصية لريتا عودة تسلط الضوء على العديد من القضايا الموجودة بالمجتمع، منها في (الفستان الأحمر) أثارت فجوة الطبقية وكيف أن الفتاة العاملة في المصنع لم تستطع شراء فستان أعجبها، وهي تعيل أسرة مكونة من 8 أفراد ووالديها، وكيف أن احدى السيدات التي تلف جسدها بالفراء دخلت الغرفة كما تدخل السمكة البحر، البحر صورة رمزية لمقولة البقاء للأقوى، وهنا القوة المادية هي الطاغية على الصورة، الفتاة الفقيرة التي اعتقدت أن ثمن الفستان 1000 شاقل وصدمتها البائعة حين أخبرتها أن ثمن الفستان ألف دولار.
الرمزية جميلة واختيارها اللون الأحمر لون الخطر موفق، القصد هو قف عندك عزيزي القارئ هناك شيء غير مقبول يحدث.
في قصة أحلام صغيرة تعبر الكاتبة عن الرغبات التي تسكن النساء في مجتمعاتنا العربية، رغم بساطتها الا أنها تعني الكثير، رغبة المرأة بالأحساس بالحنان والعطف من الرجل والأحتواء. صورت لنا الكاتبة صورة رائعة للزوج عندما قالت له زوجته أنها تحب رجلا آخر،.أثارت مشاعره كما تثار أسراب الجراد وتأكل الأخضر واليابس في الحقول، استطاعت أن تشعل نار الغيرة في قلب زوجها، عنصر المفاجآت ظاهر في نصوص الكاتبة، عندما قالت الزوجة لزوجها أنها تحبه هو ولا وجود لرجل آخر في حياتها، تصوير ضحكة الزوج بأنها زخة مطر مفاجيء في صيف شديد الحر.
أنغام موسيقية في قمة الروعة الصور التي ترسمها الكاتبة وتشارك القراء بها.
الضوء الأحمر.
وضعت الكاتبة اصبعها على مشكلة البطالة والفراغ والملل في ص 22 وهي مشكلة يعاني منها الكثيرين من الشباب والصبايا في مجتمعنا.في ص 22 تصوير صوت تقطع الموجة التي تسكن الهاتف ب (النقيق) النقيق ينتج عن الفراغ واهمال الأشخاص الذين يتواصل معهم العاطلون عن العمل لرغبتهم في ايجاد الحلول لمشاكلهم.
عودة النورس.
ص 33 يده تتسلل الى يدي، يحتويني كما يحتوي البحر قاربا صغيرا، يشدني اليه.
ص (34) حبيبي يا مطر يأتي بالعصافير الصغيرة والزنابق والثمر المنتظر.
هات يدك…فجأة شل خطواتي صوت طلقة ما.
صرخت كل الورود الحمراء على فستاني الأبيض، هي تكتسي بلون أحمر أكثر نقاء.
غاب ولكن صوته ظل في الأفق.لو مات نورس، يبقى في الأفق الف الف نورس.
في كل قطعة نثرية للكاتبة كنت أغوص في أعماق الكلمات كما يغوص البحار في أعماق البحار ليستمتع باللأليء والكنوز الثمينة. لدى الكاتبة موهبة قوية في تصوير المشاعر تحلق بالقاريء في عالم من الأبداع والتميز.
حلم آخر…تقوقعت كما الجنين داخل رحم الأرجوحة التي راحت تتمايل بين شجرتي زيتون تحت رذاذ المطر.
رآني فاقتربت ضفة من الأخرى، حين نظرت إلى عينيه أبصرت البحر الذي طالما راودني في حلم. فانتظرت أمواجه حتى آخر رمق أمل.
جميعنا نحلم. عنَفتها أختها بقولها لها: دائما تحلقين خارج السرب.
أيقظتها من الحلم بتذكيرها بحالة والدها المستلقي على سرير الأوجاع منذ اعلان افلاس شركتهم، وعن أخيها الذي ترك الدراسة الجامعية مرغما ليمد يد العون لأسرته وعن والدتها التي تعاني بصمت.
لو بطلنا نحلم نموت.
أما بالنسبة للقطعة النثرية المميزة جدا والتي حمل الكتاب اسمها “أنا جنونك”من أنت لتتعالى عليّ؟أنا أنا جنونك “.
ذاب ثلجه فتدفق خارج الغرفة، وغمر في طريقه الزهور فأورقت وجرف كلّ الحصى والطحالب، فأخضرت الحقول.
الغبيّ. متى يدرك أنّهُ ليس جملة اعتراضية في رواية عشقي، بل هو العنوان.الحلم لا يتكرر مرتين وهو حلمي.”
أنت اشتعال الفكرة ووهج الابداع. أنت العشق والعشقُ أنت. أنت انا وأنا أنت.
أنت وأنا مسّودة حبر واحد وروح واحدة.
تعالي لا تخافي….ادخلي روحي…أشعلي في كل خطوة مصباحا وفجري كتابة على جسدالحنان يا حناني….تعالي… كزني جنوني.إياك ألاّ تكوني !”
كان يشد قلبها اليه كالحاوي الذي يسحب المناديل الملونة من قبعته ببراعة حرفيّة.
صور في غاية الجمال رسمتها لنا الكاتبة فأدهشتنا.
صورة قتل بيسان وكيف انها كانت مشتاقة لشهر نيسان وقد لا يأتي ؟
قطرة المطر.
تساءل الكهل متى تتلّون أحلام البؤساء ؟
ترديد الاطفال بفرح: طاح المطر على الطين…الله يسلم
فلسطين، زرقة البحر.
على صخرة ملساء في البحر كان ينتظر، ينظر في الساعة.يراقب الامواج وينتظر. هب نسيم تمايلت الاعشاب نحو البحر وانا أسير نحوه.
هذا الرجل لايدري أنه البحر وأنا السمكة.
عاجلني بسؤال متوقع :
ماالذي جذبك إليّ وانتِ الشاعرة التي يتمناها كل الرجال؟
حدقت في عينيه ورحت أرتّل عن ظهر حُبّ: أنت الأصل وهم أشباه الرجال.
فيك من البحر زرقتهن ومن الاشجار خضرتهان ومن النسيم رقته، ومن السماء قدسيتها ومن الزهور أريجها، ومن الليل غموضه ومن الطيور تغريدها، ومن النمل صبره ومن النحل حكمته، ومني جنوني.الحوار بين الكاتبة وعلامة السؤال قيم جدا ويطرح تساؤلا موجودا لدى الكثيرين لماذا نكتب.الكاتبه اعطت بعض الأجابات التي تتمتع بالرؤيا العميقة.
وعن المجموعة القصصية كتبت رفيقة عثمان أبوغوش:كانت المجموعة القصصيَّة قصيرة، وهادفة جدًّا ذات مغازٍ عدَّة، بصوت امرأة في معظمها تكون هي الراوية، مما تضيف مصداقيَّة على النصوص؛ بحيث استوقف الكاتبة فكرة ما، أو خاطرة قدَّمتها بأسلوب شيِّق وجميل، كنقد لاذع، أو بأسلوب هزلي تارةً تطغى عليه المفارقات، أسلوب جاد تطغى عليه الجديّة والحزن.
تطرَّقت الكاتبة لمضامين، تعكس حياة النساء، من خلجان أنفسهنَّ، كالنساء اللّواتي يعشن في طبقات مختلفة، كما ورد في قصَّة “الفستان الأحمر”، المرأة البسيطة، الفقيرة، والمرأة الغنيَّة غناء فاحش.
تعتبر لغة الكتاب عربيَّة فصحى، لغة السهل الممتنع، وهي غنيَّة جدًّا بالمحسنات البديعيَّة، والتصوير الأدبي الجميل؛ إلا أنها استخدمت اللغة العربيَّة العاميَّة أحيانًا عندما اقتضت الحاجة، وكانت في موقعها، تُعبِّر عن الحدث بصدق، وباللهجة المحليَّة؛ كما في قصَّة ترانسفير “قالوا في الأخبار إنهم رح يعملوا لنا ترانسفير”، “دَخلِك شو معنى هالكلمة الغريبة يا خيتا؟”.” يمًّا، أشتهي اليوم طبخة فريك”، كما ورد في قصَّة “قطرة مطر.”
ظهر تلاعب لغوي للتعبير عن رمزيَّة المضمون، كما ورد في قصَّة “شرطة”: “ارتطمت نظراته بلافتة مصلوبة على مبنى الشرطة. ابتسم قهقه حتى ثمالة المرارة، فقد سقط المقطع الحديدي “طة” عن المقطع “الشر” في العبارة: “الشر… في خدمة الشعب”” كما يسقط القناع عن وجه الحقيقة.”؛ كذلك كما ورد في قصَّة “محكومون بالأمل “هؤلاء المحكومون بالأمل! نحن المحكومون بالألم.”
تأثَّرت الكاتبة عودة بالحياة المختلطة مع اليهود، كما ورد في قصَّة الفستان الأحمر”، “سأطلب من (يوسي) أن يُرتِّب لي ساعات عمل ليليَّة”؛ كذلك في قصَّة “أرض البرتقال”، والتي تعتبر قصَّة رائعة، حيث صوَّرت الكاتبة صورة حياتيَّة، لم يتطرَّق اليها الكتاب، بتصوير حياة عائلة فلسطينيَّة تعيش داخل الخط الأخضر، ومما تعانيه من أزمات نفسيَّة خلال الأعياد اليهوديّة؛ خاصَّة في عيد الغفران، نجحت الكاتبة في تصوير فعاليات، وخلجات نفسيَّة مضغوطة خلال مدّة زمنيّة محدودة، قصَّة واقعيَّة جدَّا، صوَّرت الكاتبة خلالها أحاسيس وتفكير، ومونولوغ في آن واحد، بواسطة تحريك الشخصيَّة المحوريَّة، والشخصيَّات الثانويَّة الأخرى في واقع درامي خيالي تصويري يصلح لتصوير فيلم درامي بالأسلوب المُضحِك المُبكي.
تخلَّلت الرمزيَّة في قصص الكاتبة ريتا، في القصص الوطنيَّة، كما ورد في قصَّة “قصَّة ليست قصيرة” “هنالك من سيرتدي السروال الأبيض من بعد خالد.”
المرأة في قصص الكاتبة ريتا: مجَّدت الكاتبة المرأة الفلسطينيَّة، كما ورد في قصَّة “قصَّة ليست قصيرة”: “هذي الأم الفلسطينيَّة التي كانت وستبقى في ذاكرة كل أبناء المخيَّم حضنًا لكل موجوع، ومنديلا لكل دمعة، وطلقة لكل يد تتحدى القهر.
كما ورد بقصَّة: “ومات البلبل وحيدًا “لو مات بلبل واحد لا بُدَّ أن يولد من رحم الأرض ألف وألف بلبل. لابدَّ يومًا أن تُكسر كل الأقفاص؛ لتحيا الطيور في الفضاء الرحب حرَّة طليقة كما كتب لها منذ بدء الخليقة. لا بدَّ.. لا بُدّ!”
عبَّرت الكاتبة عن مشاعر وخلجات الطفلة الصغيرة، كما ورد في قصَّة “أبعد من أن تطالني يد”، البنت التي خلقت عالمًا خياليَّا، رغم القمع والحرمان من اللعب بالحبل، وإجبارها بغسل الصحون: “تستهويني فقاعات الصابون وهي تتطاير من حولي كالفراشات الملوَّنة. أتناول طبقا. أصنع حبلا، ومع كل طبق أحلِّق بعيدًا؛ فوق البنايات والسهول، فوق المراكب، فوق الكواكب، أبعد، أبعد من أن تطالني يد.”
العاطفة والخيال: طغت على الكتابات القصصيَّة عاطفة جيَّاشة، فيها تعابير صريحة حول الحب والعلاقات بين الجنسين، ظهرت هذه العاطفة بشكل واضح خاصَّة في القصص الأخيرة من صفحة 39 لغاية صفحة 107. منذ سنة 2004-2009
مزجت الكاتبة الرومنسية الخياليَّة مع ظواهر الطبيعة، في كافَّة الفصول: كما ورد في قصَّة “أميرة الحكاية”، لو يدري كم أحبُّه، هو نور القلب..”: ما ورد في قصَّة “أنا جنونك” عنوان الكتاب: “أنتِ العشق والعشق أنتِ”، كذلك كما ورد في قصَّة “كل شيء صامت”، “أحبَّه بسذاجة فراشة، وبراءة وردة، ودومًا أشعر أنه بعيد بعيد..”. في قصَّة “زرقة البحر” ” أنت الأصل، وهم اشباه الرجال. فيكَ من البحر زرقته، ومن الأشجار خضرتها، ومن النسيم رقَّته، ومن السماء قدسيَتها، ومن الأريج أريجها، ومن الليل غموضه، ومن الطيور تغريدها، ومن النمل صبره، ومن النحل حكمته، ومنِّي جنوني”. “قلها أحبُكِ.”
خلاصة الحديث: نجد بأنَّ الكاتبة ريتا عودة، أظهرت تطوُّرًا ملحوظًا في القصص الأخيرة، تبعًا للسنوات الأخيرة، نجد الجرأة في التعبير العاطفي، وطرح المواضيع، التي لا تجرؤ معظم الكاتبات البوح بها.
عبَّرت الكاتبة عن الحياة السياسيَّة، والاجتماعيّة للمجتمع الفلسطيني، في كافَّة مواقعه.
التناص في القصص:
(الأمل الأبيض لليوم الأسود)
(أين منِّي يد تمتدُّ الآن نحو…)
(ما شاء الله.. سبحان الخالق.. الله أكبر.. الله اكبر.. والظالمين أعدَّ لهم عذابًتا أليمًا)
(إذا كنت تريد قوس قزح، عليك أن تحتمل المطر”
(وإني أحنُّ إلى خبز صوته)
الأخطاء النحويَّة الواردة في القصص:
صفحة 68: ذُكر فتلمع ضفيرتيَّ- الصحيح فتلمع ضفيرتاي
صفحة 75: منذ بدْا – الصحيح مذ بِدْء
صفحة 69: انفتحتْ السماءُ – الصحيح انفتحتِ السَّماء
صفحة 93: بغتة أطبقَ كفَّتي يديه على كفَّة يدي – الصحيح: أطبق كفَّة يده على كفَّتي يدي؛ لأن ذراع الحبيب مقطوعة.
صفحة 9: تلقَّف أنفي رائحةُ طعام ما – الصحيح رائحةَ
وقالت سوسن عابدين الحشيم:لجأت الكاتبة الى الرمزية وبلغة رومانسية تنساب على أوتار موسيقية في معظم نصوصها، الشاعرة ريتا في ديوانها تطرح قضايا عديدة، قضية الفقر والطبقية وقضية المرأة المقهورة بسبب ظلم المجتمع لها، ولكنها تبدو متمردة بأنثويتها، فهي تحب وتكتب وتتمرد، تستخدم لغة القوة والتحدي، ففي ومضاتها الأولى تذكر الريح والنسر رمزا للقوة والرفعة…كما أنهتها بكلماتها لارتقي أثبت أنظاري على القمم، فشاعرتنا تبحث دائما على العلو والقمة فهي بحبها تحلق في والسماء كالسنونو، ذكرت هذا الطير أكثر من مرة في ديوانها فهي ترمز لنفسها بالسنونو لحبها له، فتقول أكون لك السنونوة حين لا تكون لي القفص…نلاحظ في شعرها أيضا افتخارها بأنثويتها فتقول أنا الأنثى، تعرف نفسها وتعترف بغرورها لكونها أنثى ففي صفحة ٢٨ تقول أنا الأنثى “ولا أنثى في مثل غروري، في ديوانها كما في نصوصها تؤكد على كبريائها فتقول سيدة الحكاية وأميرة الحكاية، وفي ص ٤٤ تقول ان لم يكتب في سجل العشاق أنك قلبت قلبي رأسا على عقب، كيف أكون سيدة النساء؟ وتقول ص ٩٨ أنا الملكة التي تمردت على رتابة الأسود والأبيض، ففرت الى عصر الفرسان ما عبئت بفنتازيا الصولجان، توظف الشاعرة موسوعتها الثقافية فهي ذكرت في قصائدها قصة يوسف، فالتناص القرآني واضح في عنوان لها لا تقصص رؤياك على أحد، و ص ٦٥ ما لطخ الذئب قميصي، وأيضا دراستها للأساطير اليونانية ففي ص ٥٠ فابطال الأسطورة ايزيس وهيرا وافرودايت وأيضا قصة جلجامش، كأقدم قصة في العالم وقصص شهرزاد، لجأت الشاعرة الى فلسفة الحب والوطن ففي صفحة ٧٠ تقول ها سقراط ينهض من كتب التاريخ بسؤاله ما الوطن؟ وفي نصوصها القصصية أنا جنونك، تبين الكاتبة كم تهوى الكتابة و وتعشقها، فهي تفتتح نصوصها بقولها الكتابة…. فعل بقاء وارتقاء، هي جنوني كما أنا جنونك! نراها تحلق في كتاباتها لتصل عنان السماء بأحلامها وآمالها ففي ص ٣٦ تقول “أملك سلما يشق الغيم ويصل بي الى السماء” تتساءل الكاتبة في نصوصها متى يأتي نيسان في ص ٥١ تتطلع الى الحرية الى الحياة بكرامة الى نهاية الظلم ونهاية عصر القوة، ففي ص ٧٥ تقول ولا بد أن تكسر كل الاقفاص لتحيا الطيور في الفضاء الرحب حرة طليقة كما كتب لها منذ بدء الخليقة لا بدّ لا بدّ. وألقت الشاعرة ريتا عودة عددا من قصائدها أمام الحضور، بعدها قدّم مدير الندوة درع الندوة تكريما للأديبة عودة.