دراسة لديوان (عِناق فوق الأسلاك)
تاريخ النشر: 10/04/15 | 14:50مقدِّمة: الشَّاعرة ” نعيمة عماشة ” جولانيَّة ُ الأصل تسكنُ في قرية ” عسفيا ” – قضاء حيفا، تعتبرُ من الشَّاعراتِ والأديباتِ المبدعاتِ محليًّا، تكتبُ الشِّعرَ والخواطرَ والمقالات على جميع أنواعِها منذ أكثر من 18 سنة،حققت شهرة ً وانتشارًا وتألُّقا كبيرًاعلى الصَّعيد المحلِّي.وديوانها هذا الذي بين أيدينا الآن “عناق فوق الأسلاك” هو المجموعة الثالثة التي تصدرُها.
تمتازُ كتاباتُ ” نعيمة عماشة “، وخاصَّة الشعريَّة بالمزج ما بين الشعر والخاطرةِ والمقالةِ الأدبيَّةِ التقريريَّةِ فتخرجُ القصيدة ُ في حلَّةٍ قشيبةٍ وبأسلوبٍ ولون مُمَيَّز لهُ نكهتهُ وطابعهُ وأريجهُ الخاصّ يختلفُ ويتميَّزُ عن ما يكتبُهُ الآخرون محليًّا.
تعالجُ نعيمة ُ في كتاباتِها جميعَ المواضيع: الإنسانيَّة والوجدانيَّة والإجتماعيَّة والقوميَّة والسياسيَّة..إلخ. وهي تمتلكُ ثقافة واسعة ولها إلمامٌ كبيرٌ وواسع في اللغةِ العربيَّة…وقد استفادت من مخزونِها الثقافي كثيرًا واستغلَّت ووظفت موهبتهَا المُميَّزة َ وطاقاتها الفكريَّة والثقافيَّة والفنيَّة بالشَّكل الصحيح وبأدواتها وتقنياتها الحديثة في كتاباتها الشعريَّة والأدبيَّة، ولهذا استطاعت في فترةٍ قصيرةٍ أن تشقَّ لها طريقا رائدًا وتبتكرَ أسلوبا خاصًّا منفردًا وَمُمَيَّزًا في مجال الشِّعر… ونحنُ بحقٍّ وحقيقةٍ نجدُ أنفسنا كقرَّاءٍ ومحبين ومتذوِّقين للأدبِ أمامَ ظاهرةٍ أدبيَّةٍ تستحقُّ الإهتمام والدراسة..حيث ترسمُ لنا الواقعَ الإجتماعي والسياسي على أحسن وجهٍ وأوسع وأعمق شكل. نجدُ لدى نعيمة عماشة التشكيلَ والتلوينَ الفني من دلالاتٍ ورموز منتشرا وَمُشِعًّا في كلِّ مجال وهدفٍ وموضوع سواءً كان: إجتماعًا أو تاريخيًّا أو سياسيًا ووطنيًّا أو عاطفيًّا… إلخ. وعندها أيضا تتبلورُ وتكتملُ التجربة ُ الفنيَّة ُ وتجتمعُ كلُّ المقوِّماتِ والشروط الإبداعيَّةِ إبتداءً من الجانب والمشهد الثقافي إلى الحسِّ المُرْهَفِ والبُعدِ العاطفي والتموُّجات الجماليَّة والأجواء الرُومانسيَّة والشطحات الصوفيَّة والميتافيزيكيَّة والحدس والوعي والبعد الإجتماعي والسياسي والتاريخي والإلتزام الوطني.هي تكتبُ عن كلِّ القضايا والأمور المذكورة: (السياسيَّة والوطنيَّة والإجتماعيَّة والإنسانيَّة )… إلخ. إنَّ شاعرتنا تمثِّلُ بجدارةٍ الفتاة َ والمرأة َ الجولانيَّة الصَّامدة والمترعة َ والمُتسَربلة بالوعي والحسِّ الوطني والقومي الجيَّاش. ومن جميل كتاباتها حيث تقول:
( ” يا بيادرَ القمح التي عزَّت على الجياع //
ولم تعزّ على الطير وفأر الحقل //
سنزرعُ أجفاننا في ساحةِ الحلم //
ونباركُ الأرضَ التي أشبعَت فأرًا // وجاعَ فيها صاحبُ اللُّغةِ //
وتولُ: ( ” ويموتُ فينا ألفُ ضامِىءٍ ويموتُ فينا ألفُ جائع ” ).. إلخ.
هي تتحدَّثُ وتعَبِّرُ عن غربةٍ دفينةٍ وقاتلةٍ وضيق وألم من هذا العصر الذي تحياهُ..عصر المادَّة والبيزنس وضياع المبادىء والمُثل والقيم..في زمن تلاشت واختفت فيهِ الأسُس والقيم الرُّوحيَّة والإنسانيَّة وشحَّ الخيرُ وانحرَفَ الناسُ ونضبَ وذهبُ منهم الخيرُ والمحبَّة وماتت الفضيلة ُ فتقولُ:
( ” يا بلادَ النار واللهبِ // يا بلادَ الشَّرق والتي لا تعرفُ وجهَ الشَّمس //
أخاطوا فمنا، والمسرحيَّة ُ كانت بعدَ إخاطةِ الفم ِ // ِ
سكبوا دَمنا والمسرحيَّة ُ انتهتْ عندَ سكبِ الدَّم ِ //
جوازُ السَّفر في جُعْبَةِ الكسيح //
يُخَوِّلُهُ السَّفرُ خلفَ النجومْ… //
وكيفَ تطلبُ الإبحارَ من شارع ٍ // مزَّقتْ قلوعَهُ ريح السَّمُوم //
يا بلادَ النار واللهبِ ///
مَتى سيدخُلُ السَّسفُ في الغمدِ؟ متى ستعتلي الرَّاياتُ البيضاءُ بركَ الدَّمْ ).
وتتحدَّثُ نعيمة ُ عن الوضع الإقتصاد الذي يعاني منهُ محليًّا معظمُ الناس، وخاصة الموظفين أصحاب الرَّاتب المحدود، فتقول في قصيدة ( ” هلوسات مُعلِّمة ” – صفحة 49):
( ” يا لهفي عليك يا راتبي في أوَّل الشَّهر ِ
تلفظ ُ أنفاسَكَ قبلَ ان تقولَ، عمتَ صباحًا يا أمِّي !
أنتَ حِمْلٌ يجهضُ، ولا أرى منكَ غيرَ دمي !
ويتساءلونَ كيفَ بُنِيَتْ أهرامُ الدَّولةِ ؟ // ” )… إلخ.
وتتحدَّثُ أيضًا بألم عن وضع الادبِ والشعر بشكل عام وإلى أين وصلَ، فتقولُ:
( ” للبعض ِ كبشُ فداءٍ هُوَ الشِّعرُ والأدب
كلَّما اكتضَّ بهم مجلسٌ // نحرُوا الأدبَ على المقاصلْ //
واستغنموا عنهُ بالمَرْعَى // ” ).
وتنتقدُ الزعماءَ العرب لانغراقِهم في لهوهِم وملذاتِهم الشَّخصيَّة وإهمالِهم لشعبهم، فتقولُ:
( ” لنا ساسة ٌ على الكراسي
يَعِدُوننا بافتتاح الملاهي والمقاهي//
لنا ساسة ٌ، فافرحُوا بالسَّاسةِ… // ” ). إلخ.
ومن جميل شعرها حين تلخِّصُ تجربتها الذاتيَّة والشعريَّة، حيث تقولُ:
( ” حُلمي حاملٌ لا يلِدُ // منذ ثلاثين عامًا وأنا أنتظر //
أمامَ بوَّاباتِ الغفلةِ دواءٌ لجرحي وابتسم //
ولكنَّ ريحَ السَّمُوم لا تأتي بالوردِ //
وبحار ُ الدم لا تعكسُ وجهَ القمر //
وتقولُ: ( منذ ثلاثين عامًا // وأنا خلفَ بوََّاباتِ الحُلم //
أجدِلُ ضفائري وأرشُّ عطري //
وَأغنِّي للوردِ والشَّجَرْ //
ولباقات من زهور فوق قبري
وتقولُ أيضا:
( ” من ثلاثين عامًا // ومقبضُ السَّيف في يدي //
لا يتركني لسلمي ولا أتركُهُ لحربي // ” ).
أيّ هي منذ ثلاثين عامًا ترسمُ أحلامَها وتعملُ على تحقيق ذاتها وطموحاتها، وتناضلُ وتكافحُ على جميع الأصعدةِ والجهاتِ لأجل مطامحِهَا والأهدافِ النبيلةِ السَّامية، ودائما مستعدَّة لكلِّ معركةٍ، فهي تعيشُ ما بين مدٍّ وجزر.. وهكذا الحياة ودأبُهَا ومنطلقُها- خيرٌ وشرٌ، أسودٌ وأبيض، سلامٌ وحربٌ. وأحيانا تكونُ جميعُ الأشياء في هذه الحياةِ ومجرى الأحداث معاكسة ً وسلبيَّة ً تتناقضُ مع الأهدافِ والرَّغباتِ والطموحاتِ والأحلام، ولهذا فشاعرتنا تعملُ المستحيلَ لتتغلَّبَ على كلِّ العراقيل والظروفِ التي تقفُ في طريقِهَا وتريدُ تحطيمَها وَسلبَ الهدوءِ والسكينةِ وورود المحبَّة والسَّلام، ولا تتركها لسلمها واستقرارها وفرحِهَا. وشاعرتنا، بدورها، لا تتركُ الظروفَ مهما كانت عصيبة ً أن تتحكّمَ بها وتستفزَّها وتضعَهَا وتعيِّشها في حالةِ حرب وصراع وقلق، لأنَّ دائمًا مقبض السَّيبف في يدها وتعيشُ وتبقى- نوعًا ما – في حالةٍ من التوازن النسبي في جميع الظروف والحالاتِ.
وتقولُ:(” نكتبُ بدمِنا فوقَ الاعلام //
ونؤمنُ أنَّنا سَنُولدُ يومًا لؤلؤا في فم المحَار //
نعلُكُ حزننا منذ بدءِ الخليقةِ ونعاني //
بصماتُ أصابعنا فوقَ جرائم لم ترتكبها //
فكيفَ ذهبتْ هناكَ أصابعُنا // رُقادُنا فوق مهدٍ ليسَ لنا //
وتقولُ: ( خلف ستائر العظمة تكمنُ الجراحْ //
وأمواجُ الغضبِ تتلقَّفُهَا الشُّطآن //
كلابُ الصَّيد لا تنفكُّ تنبحُ // ونحنُ بين الفكَّين نبتهلْ //
لرمدٍ في عين القانصِ // لرحمةٍ في قلب الصَّائِدْ //
لضحكةٍ تفترُّ عن أجسامِنا // ” )… إلخ.
إنَّ كلَّ من يقرأ هذه الأبيات ( الجمل الشِّعريَّة ) يخالها لأوَّل وهلةٍ أنَّها لشاعر عالميٍّ وقد تُرجمَت للعربيَّةِ نظرًا لمستواها الرَّاقي ومعانيها العميقة والفلسفيَّة.. وهكذا دأبُ شاعرتنا فدائما تجنحُ للخلق وللتجديدِ، وجميعُ كتاباتها وقصائدها جيِّدة ُ المستوى ومترعة بالمعاني العميقة وبالرُّؤيا الفلسفيََّة والتحليليَّة والشُّموليَّة…. ويسودُهَا الخيالُ الرومانسي المُجنَّح الحالم والشفافيَّة أحيانا. ومهما كان رأيُ النقادِ في شعرها (على اختلاف مستوياتِهم وَمُنطلقاتهم ومدارسِهم ومناهجهم وأذواقهم ) وسواء إن أسموهُ شعرًا أو شعرًا منثورًا أو نثرًا محضا أو خواطر أو مقالات.. إلخ. فلا أحدٌ منهم يستطيعُ أن يُنكرَ أنَّ جميعَ كتاباتِهَاعلى مستوى عال وديوانها هذا بالذات (عناق فوق الأسلاك) قصائدهُ تعتبرُ عملاً أدبيًّا فنيًّا رائدًا راقيًا ومميَّزا ومنفردًا. والأدبُ بشكل عام في تعريفِهِ ومفهومِهِ الدقيق وحسب النظريَّةِ المُتَّفق عليها عند جميع الأدباءِ والناقدين وجهابذةِ اللغةِ والإبداع الادبي هُوَ: الكلامُ الجيِّدُ الذي يُحدِثُ في نفس القارىءِ لذة ً فنيَّة ً سواءً كان هذا الكلامُُ شعرًا أو نثرًا). وكلامُ وكتاباتُ نعيمة عماشة ليست فقط كلامًا جيِّدًا، بل بيانا وسحرًا بلاغيًّا وفنيًّا في منتهى الجودةِ والرَّوعةِ والجمال والبهاء والمستوى الراقي بحلةٍ وسربال قشيب ملائم لمقتضيات ولروح العصر والتجديد، وكتاباتها تحدثُ في نفوس القُرَّاء جميعهم المتعة َ الحسِّيَّة والفنيَّة أكثر بكثير من مئاتِ وآلافِ القصائد الموزونة (الكلاسيكيَّة التقليديَّة أو التفعيليَّة) لأنَّ الكثيرَ من الشِّعر الكلاسيكي في عصرنا هذا بالذات يفتقرُ إلى الموسيقى الداخليَّة والجمال والعذوبةِ وللصور الشِّعريَّة والمفردات والرموز الجديدة المستحدثة.. أي أن كتاباتهم وكلامهم الموزون والمقفى ليس شعرًا بل مجرد رصّ وصفِّ كلام لا أكثر. أما كتابات نعيمة عماشة فهي شعر بكلِّ معنى الكلمة لأنَّ فيها موسيقى داخليَّة أخَّاذة وفيها كلّ الأشياء والعناصرالتي ذكرتها، وشعرُهَا جميعهُ عابقٌ وحافلٌ بالحياةِ والأمل والسحر والشَّفافيَّة وبكلِّ ما هو جميل وفاتن…ولكن لو أضافت نعيمة إلى هذا اللون الأدبي والإبداع الذي تكتبهُ ( الشِّعر) الإطارَ واللباسَ الخارجي المُزركش والمزخرف وهو الوزن الخليلي ( العروض)- سواء في شعر تفعيليٍّ أو كلاسيكي – لأضافت مسحة ً ورونقا وجمالا وبهاءً إضافيًّا لكتاباتِهَا وأشعارها أكثر بكثير مِمَّا هي عليهِ من رونق وحسن وجمالِ شكليٍّ خارجيٍّ ، مع أنَّ الوزنَ الخارجي التقليدي – حسب رأيي – ليسَ بالأمر الصَّعب والمستعصي،لأنََّ كلَّ إنسانٍ يستطيعُ دراسة َ ومعرفة َعلم العروض،ولكنَّ معرفة العروض ( الأوزان الشِّعريَّة) لا تكفي لوحدِها لتجعلَ من الإنسان شاعرًا حقيقيًّا ومبدعًا. وأنا بدوري أعرفُ بعضَ الأشخاص الذين يكتبون شعرًا موزونا ومقفى ( تقليدي) وما يكتبونهُ هو نظم لا أكثر ولا يُعتبَرُ عملا شعريًّا إطلاقا لأنهُ يفتقرُ للصور الشعريَّةِ والخيال وللوحاتِ الرُّومانسيَّة الجميلة والعوالم الملونة والمُشِعَّة.
وأخيرًا: إنَّ كتابات ” نعيمة عماشة ” تخترقُ النفسَ البشريَّة برؤيا إنسانيَّّة دافئة شفافة وبمفاهيم تقدُّميَّة وإنسانيَّة واجتماعيَّة مثلى بلغةٍ مُنسابةٍ متناغمةٍ تدخلُ إلى أعماق الروح والوجدان، فلها لونها الادبي المميَّز ورُؤيتُها الإجتماعيَّة الممزوجة والمندمجة بفنيَّةٍ وبإحساس إنسانيٍّ صادق. ونعيمة ُ تحملُ دائما في كتاباتِهَا صوتَ المرأةِ العربيَّة وقضيَّتهَا في سبيل الحُرِّيَّة والمساواة…تحملُ آمالهَا ورُؤيتهَا وثورتهَا.
ويبدو بوضوحٍ، في هذا الديوان، ربط ُ شاعرتِنا لمسألةِ المرأةِ بمجتمعنا وشرقنا مع الواقع السياسي وإسقاطاتهِ… وشاعرتنا تعرفُ جيِّدا كيف تطرحُ وتعرضُ مواقفهَا الإجتماعيَّة والسياسيَّة بفنيَّة وجماليَّة… حيث تحافظ ُ على التوازن والتناغم بين الأدبِ والسياسةِ والألم والفرح والنور والظلام. وفي ديوانها الأخير هذا انطلقت بوعي وحسٍّ واضح ٍ مع الواقع الإجتماعي لأنها قد نضجت فكرًّا ووعيا وتجربة ً ولم تعُدْ فتاة ً مُراهقة ً تحلمُ بفارس أحلام فقط وَحُبٍّ عُذريٍّ…هي تحرَّّرَتْ كليًّا وتجاوزت هذه الأشياء المحدودة وارتقت إلى عالم التألق والرُّؤيا الموضوعيَّة والفلسفيَّة والشُّموليَّة حيث تربط ُ بشكل موفقٍ ناجح وبقدرةٍ فنيَّةٍ وبلغةٍ طيِّعةٍ مُنسابةٍ جميعَ قضايانا المصيريَّة التي نحياها ( القضايا الإجتماعيَّة والسياسيَّة وقضايا المرأة ).
وأخيرًا: في نهايةِ هذه الدراسةِ أحبَّ أن أؤَكِّدَ أنَّ الشاعرة َ ” نعيمة عماشة ” قد أثبتت نفسَها وقدرتهَا الأدبيَّة والفنيَّة وإبداعَها على الصَّعيدِ المحلِّي..وهي صوتٌ إبداعيٌّ وواعي ومتألِّق، يحملُ آلامَ المرأةِ وَرُؤيتهَا وثورتهَا بسبِ الوضع الذي يَمُرُّ بهِ مجتمعُنا في مختلف الأمور، وتستحقُّ كتاباتُها كلَّ الإهتمام والتقدير… فنتمنَّى لها المزيدَ من النجاح والتقدم والمزيدَ من الإصداراتِ الشعريَّة والنثريَّة الإبداعيَّة.
بقلم: حاتم جوعيه