دواء القلب
تاريخ النشر: 13/04/15 | 6:37نجتهد بتطهير ثيابنا وأبداننا عملاً بقوله تعالى: ” وثيابك فطهر”: فهل اجتهدنا في تطهير قلوبنا لأنها أكرم وأعظم ما نحمل؟ هل نتذكر قول النبيّ : ” إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ”
قلبك الذي بين جنبيك،كيف حاله ؟ أهو حي، أم ميت خرب ؟ أهو عامر بالإيمان، أم أن الأمراض قد فتكت به و أهلكته ؟
إن القلب الطاهر النقي التقي، هو ذلك القلب الخالي من الحقد والبغض والغل والرياء والحسد والضغائن وسوء الظن، هو ذلك القلب المستريح من تلك الحرب الضروس التي يشعلها البعض في قلبه حسدًا و حقدًا على إخوانه لسبب دنيوي تافه، لا يستطيع معه أن ينام الليل ولا أن يهدأ فكره بالنهار. سئل النبيّ : يا رسول الله، أي الناس أفضل ؟ قال:” كل مخموم القلب، صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب ؟ قال: التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ”.
فكيف هو حال قلبك مع الله ومع عباد الله!! إن كان ميتًا، فخالط من قلبه حي، فشتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، و بين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم. قال لقمان لابنه: يا بني جالس العلماء و زاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل القطر.
وها هي الفرصة بين يديك فلا تضيعها، اجعل من الشتاء محطة تنقّي فيها قلبك مما علق به من الدنيا وشهواتها. فالقلب هو مفتاح التشغيل، فإن كان سليمًا، عملت باقي أعضاء الجسم بكفاءة، و إن أصابه خلل، اختلت آليات الإرسال و الاستقبال في الجسم و أصابها التشويش، القلب مضغة إن صلحت صلح الجسد كله، و إن فسدت فسد الجسد كله. فما حال قلبك؟
أغلى ما لديك هو قلبك فإن فقدته فقدت كل شيء فابحث عن قلبك واعلم أن سعادتك حين تجد قلبك، قلبك هو أن تعيش وأنت راضٍ عن نفسك، قلبك حين يحبك من حولك، قلبك هو إحساسك بالأمان والراحة والطمأنينة.
ولكن أذا مرض القلب أو اعتل، فكيف نداويه ؟
• هذا أحد الحكماء يقول: “دواء القلب في خمســة أشياء: قراءة القرآن وخــلاء البطن وقيام الليل والتضرع عند السحـر ومجالسة الصالحين”.
• وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فقال له: إن قلبي مريض فما دواؤه ؟ فقال له: “عليك بالدواء الشافي،تتناوله وتشفى بإذن الله: عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، ضع عليه عصير التواضع، ثم صفّه في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقده على نار الصبر على المعصية وصفّه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق، واملأه بكأس الاستغفار، وابتعد فيه عن الطمع، وعليك بالطاعة فإنها تزيل الذنوب وتجلي القلوب، وبها تشفى بإذن الله”.
• يقول ابن الجوزي عليه رحمةُ الله “:يا هذا، طهر قلبك من الشوائب؛ فالمحبة لا تُلقى إلا في قلب طاهر، أما رأيت الزارع يتخيرُ الأرض الطيبة، ويسقيها ويرويها، ثم يثيرها ويقلبها، وكلما رأى حجراً ألقاه، وكلما شاهد ما يُؤذي نحّاه، ثم يلقي فيها البذر، ويتعاهدها من طوارق الأذى؟ وكذلك الحق عز وجل إذا أراد عبدًا لوداده حصد من قلبه شوك الشرك، وطهره من أوساخ الرياء والشك ثم يسقيه ماء التوبة والإنابة، وينيره بمسحة الخوف والإخلاص، فيستوي ظاهره وباطنه في التقى، ثم يلقي فيه بذر الهدى، فيثمر حَب المحبة؛ فحينئذ تحصد المعرفة وطنًا ظاهرًا، وقوتًا طاهرًا. فيسكن لُب القلب، ويثبت به سلطانها في رُستاق البذر، فيسري من بركاتها إلى العين ما يفُضها عن سوى المحبوب، وإلى الكف ما يكُفها عن المطلوب، وإلى اللسان ما يحبسه عن فضول الكلام، وإلى القدم ما يمنعه من سرعة الإقدام. فما زالت تلك النفس الطاهرة رائضُها العلم، ونديمها الحلم، وسجنها الخوف، وميدانها الرجاء، وبُستانها الخلوة، وكنزها القناعة، وبضاعتها اليقين، ومركبها الزهد، وطعامها الفكر، وحُلواها الأنس، وهي مشغولة بتوطئة رحلها لرحيلها، وعينُ أملها ناظرة إلى سبيلها…” كلام رائع، إذا فقهناه، فتفقدنا قلوبنا وسارعنا لمداواتها واستئصال ما علق بها.
• داوي قلبك بصدقاتك، فإن الصدقة تزيل سواد القلب، وتنظف ما داخله من دخن، وتخلصه مما شابه من سوء الفعل والقول، والمسح على رأس اليتيم تجديد لنشاط القلب من جديد، وتخلية له من سواده، وتحلية له بعمل هو من أحب الأعمال إلى الله تعالى.
• داوي قلبك بالاستغفار، قال يونس بن عبيد: إنكم تستكثرون من الذنوب فاستكثروا من الاستغفار، وإنَّ الرجل إذا أذنب ذنبًا ثم رأى إلى جنبه استغفارًا سرَّه مكانه. شكى أبو يحيى لمجاهد كثرة الذنوب، قال: أين أنت من الممحاة ؟ يعني الاستغفار. فالاستغفار يمحو الذنوب، ويطهر القلب، وينزل الرحمة.
يوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى، جمعهم اللهُ بعد فرقة، وأعزهم بعد ذلة، وفُتحت لهم البلاد كل ذلك تحقيقًا لـموعودِ الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف:96]. فليكن هذا الشهر بداية للباس التقوى ؛ ولباس التقوى خير لباس لو كانوا يعلمون {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:54-55].
فمتى نحكم على قلوبنا أنها أنيرت بنور الله وأن الإيمان قد استقر فيها، وباعت الدنيا وشهواتها الفانية من أجل الجنة ونعيمها الخالد، حتى نكون مع الصفوة التي عاشت الجاهلية الأولى، فهذا صهيب الرومي يساومه أعداء الله بما يملك من مال مقابل هجرته إلى المدينة ليحفظ دينه ويلحق بحبيبه، فتنازل عنها طواعية رغبة في رضا الله تعالى ليستقبله الحبيب معانقًا قائلًا:” ربح البيع أبا يحيى. وفي هؤلاء نزل قول الله تعالى: ” ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد”.
وهذه الخنساء اشتد بكاؤها وانفطر قلبها على أخيها رَثته في قصائدها، ولكن الإيمان لما ملأ قلبها ولحقت الركب السائر لله لم تبك أبناءها الأربعة الذين استشهدوا في سبيل الله بل دعت الله عز وجل أن يجمعها معهم في جنات النعيم.
إن الإرادة القوية والعزيمة الصادقة في التغيير تبدأ من القلب، عندما نتفقد قلوبنا وندرك ما لها وما عليها، ما تحب وما تكره، هذه المضغة لو أحسنّا التعامل معها لاستطعنا أن نكون من الأتقياء الأصفياء الأتقياء، ولما تمكنت منها شوائب الأرض وجواذبها.
كان عند لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا، فأمره مولاه أن يذبح شاة وأن يأتيه بأطيب ما فيها، فأتاه بالقلب واللسان. وبعد أيام أمره بذبح شاة وأن يأتيه بأخبث ما فيها، فأتاه بالقلب واللسان. ولما سُئل هذا العبد عن فعله قال: لا أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
فالأمر بيد مَن؟ إنّه بيدك أنت. نعم أنت.. تفقد قلبك وابحث عن الخلل الذي فيه، فأنت وحدك القادر على إصلاح قلبك ولسانك.