حديث: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
تاريخ النشر: 20/04/15 | 17:29متن الحديث:
عن الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله وريحانته رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
الشرح:
كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم النصح لأمته، يوجههم إلى ما فيه خير لمعاشهم ومعادهم، فأمرهم بسلوك درب الصالحين، ووضح لهم معالم هذا الطريق، والوسائل التي تقود إليه، ومن جملة تلك النصائح النبوية، الحديث الذي بين أيدينا، والذي يُرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما فيه شبهة، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه.
والراوي لهذا الحديث هو: الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسبط: هو ولد البنت، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم و للحسن سبع سنين ؛ ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة، وهذا الحديث منها.
وقد صدّر النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله: ( دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان، والريبة هي الشك كما في قوله سبحانه وتعالى: { الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة: 1-2 )، وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا ريب ولا شك فيه.
وفي هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما فيه ريبة، هل هو للوجوب ؟ بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك المشتبهات ؟ أم إنه على الاستحباب ؟.
إن المتأمل لهذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى، يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة لبيان منهج التعامل مع ما يريب، فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب ؛ لأن ترك الشبهات في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام، يقود الإنسان إلى الورع والتقوى، واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء، فإذا تعلقت الريبة في أمر محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله ورسوله، عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه.
ولسلفنا الصالح رضوان الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة، والعبارات المشرقة، التي تدل على تحليهم بالورع، وتمسكهم بالتقوى، فمن أقوالهم: ما جاء عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: ” تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفا أن يكون حراما “، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: ” يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك “، وعن أبي إسماعيل المؤدب قال: جاء رجل إلى العمري فقال: ” عظني “، قال: فأخذ حصاة من الأرض فقال: ” زنة هذه من الورع يدخل قلبك، خير لك من صلاة أهل الأرض “.
ولقد ظهر أثر الورع جليا على أفعالهم، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه، أن أبا بكر رضي الله عنه، كان له غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه، فجاء له الغلام يوما بشيء، فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: ” تدري ما هذا؟ ” فقال:” وما هو ؟ ” قال الغلام: ” كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه “، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه.
ومما ورد في سير من كانوا قبلنا، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: ” خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب “، وقال الذي له الأرض: ” إنما بعتك الأرض وما فيها ” فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ” ألكما ولد ؟ ” قال أحدهما: ” لي غلام “، وقال الآخر: ” لي جارية “، قال: ” أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا ).
وقد رؤي سفيان الثوري في المنام، وله جناحان يطير بهما في الجنة، فقيل له: بم نلت هذا ؟ فقال: بالورع.
وللفقهاء وقفة عند هذا الحديث، فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب كثيرة من الأحكام، ونصّ القاعدة: ” اليقين لا يزول بالشك “، فنطرح الشك ونأخذ باليقين، وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا، فإذا أحدث رجل، ثم شك: هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه قد أحدث، فيعمل به، ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي ؛ عملا بالقاعدة السابقة، وهكذا إذا توضأ ثم شك: هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه متوضأ ؛ لأن وضوءه متيقنٌ منه، وحدثُه مشكوك فيه، فيعمل باليقين.
وللحديث زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث، فقد جاء في الترمذي: ( فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة )، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما يريبه، فقد حمى نفسه من الوقوع في الحرام من باب أولى، وهذا يورثه طمأنينة في نفسه، مبعثها بُعده عن طريق الهلاك، أما إذا لم يمتثل للتوجيه النبوي، وأبى الابتعاد عن طريق الشبهات، حصل له القلق والاضطراب، لأن من طبيعة المشكوك فيه ألا يسكن له قلب، أو يرتاح له ضمير.
وخلاصة القول: إن هذا الحديث يعطي تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك، ومدى أثر ذلك على راحة النفس وطمأنينة الروح، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الورع والتقى ؛ إنه وليّ ذلك والقادر عليه.