مناقشة “الدّراية” بندوة اليوم السابع بالقدس
تاريخ النشر: 23/04/15 | 7:53ناقشت ندوة اليوم السّابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس كتاب “الدّراية- الفريضة المصيريّة الغائبة في التّراث- الشّفاعة أنموذجا مفصّلا” للمفكر الاسلامي عثمان صالحية وبحضوره، ويقع الكتاب الصادر أواخر العام 2014 في 604 صفحات من الحجم الكبير.
بدأ النقاش مدير الندوة ابراهيم جوهر وممّا قاله:
هو كتاب في البحث عن المنطق ولغته وصحة ما ينسب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم من أحاديث. والكتاب بما احتواه من شواهد ورؤية لكاتبه سيفجّر ثورة علمية في السائد المتوارث المسكوت عنه أو الذي لم يتم التعامل معه بالمنطق العقلي المعقول المقنع بما يتعارض مع النص القرآني حينا أو مع المنطق العقلي حينا آخر. اهتم الكاتب بما دسّه الإسرائيليون على الأحاديث من زيف وافتراء…ودحض الإسرائيليات بإخضاعها للمراجعة العقلية والنص القرآني.
الدعوة عامة والحضور واجب ثقافي فكري للمختصين والمهتمين ممن ما زالوا يؤمنون بدور الكلمة والعقل في الحياة.
الكتاب- القنبلة سيشكل ثورة في عالم الناس
وقال جميل السلحوت: صدر للمفكّر الاسلامي عثمان صالحية كتاب “الدّراية-الفريضة المصيريّة الغائبة في التّراث- الشّفاعة أنموذجا مفصّلا” نهاية العام 2014 ويقع في 504 صفحات من الحجم الكبير.
والدّراية حسب المؤلف تعني”دراسة المتون للوقوف على صدقها قبل مراجعة الرّوايات للوقوف على صحّتها”ص6.
والقارئ لهذا الكتاب سيجد أنّه مبنيّ على أن لا مقدّس في الاسلام إلا القرآن الكريم، والسّنّة النّبويّة الصّحيحة الشّريفة” وبالتّالي فلا قداسة لآراء الأقدمين واجتهاداتهم، فهم بشر يصيبون ويخطئون، وبالتّأكيد فإن آراءهم ليست كلّها صحيحة، تماما مثلما أنّها ليست كلّها خاطئة.
ومن البديهيات أنّ الدّين الصّحيح لا يتناقض مع العلم الصّحيح ولا مع العقل السّليم. وهذا الكتاب يشكّل ثورة دينيّة حقيقيّة تنسف بالأدلّة الشّرعيّة والمنطق والعقل والعلم الخرافات والخزعبلات والأساطير التي تضمّنتها الكتب الاسلاميّة، والّتي كانت واحدة من أسباب ابتعاد الشّباب المسلمين عن الدّين، وفتحت الأبواب مشرّعة لمهاجمة الفكر الدّيني.
ومعروف أنّ هناك الكثير من الأحاديث الموضوعة، ومن التّفاسير الخاطئة للآيات القرآنية ومن الاسرائيليات الموجودة في آلاف الكتب الدّينيّة، وجزء منها أكاذيب اختلقتها الجماعات الدينيّة المختلفة لخدمة أهدافها وفي محاولاتها لاستقطاب عامّة المسلمين لجانبها. كما أنّ مراحل الجهل المختلفة جعل بعض من يدّعون الفكر والاجتهاد في مراحل مختلفة يؤمنون ويسجّلون خرافات وأساطير سمعوها أو قرأوها وكأنّها نصوص دينيّة.
والكاتب الذي أشغل علمه وفكره سنوات طويلة استعمل النّص القرآنيّ والعقل والعلوم لنسف كلّ الخرافات و”الفتاوي” التي تتعارض والنّص القرآنيّ المقدّس، واذا كان الرّسول الكريم صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فإنه يستحيل أن يقول شيئا يتعارض مع القرآن الكريم، وإن وجدت هكذا أحاديث – وهي موجودة فعلا في بعض الكتب- فهذا يعني أنّها موضوعة.
والقارئ لهذا الكتاب سيجد أنّه أمام ثورة فكريّة حقيقيّة غير مسبوقة من المفكّرين الاسلاميّين الذين اعتادوا تقديس كلّ ما هو قديم، وهذا يعني أنّهم قد جمّدوا العقل والعلم، وأغلقوا باب الاجتهاد، ولم يعيشوا عصرهم. وهذه واحدة من أسباب تخلّف الفكر الدّيني، بل وتخلّف الأمّة الاسلاميّة.
ولو انتبهنا إلى تصرّفات وأفعال بعض الجماعات “الاسلامية” المعاصرة، الّتي أثارت وتثير ردود فعل سلبيّة واسعة بين المسلمين وغير المسلمين، فإنّنا سنجد أنّها اعتمدت على “آراء وفتاوي” لأشخاص عاشوا في مراحل سابقة، لكنّهم لم يفهموا مرحلتهم ولم يواكبوا التّقدّم الحضاريّ والعلميّ، وبالتّالي فإن أخطاءهم بائنة لذوي العلم والعقول، ومن يتمسّكون بهذه الأخطاء هم من جعلوا الأمّة الاسلاميّة أضحوكة بين الأمم.
وإذا ما استعمل المرء المطّلع والواعي لدينه عقله وفهمه الصّحيح للنّص القرآنيّ وللسنّة النبويّة الصّحيحة – وهذا أمر مطلوب- فإنّه يستطيع التّمييز بين الفكر والفهم الصحيحين، وبين روايات الخرافة والخزعبلات التي تنفّر ذوي العقول مسلمين وغير مسلمين من الدّين. ومن البديهيّات في التفكير أن من يأخذون “الآراء والفتاوي القديمة” لم ينتبهوا إلى أنّ أصحاب هذه الأفكار مجرّد بشر عاديّين يصيبون ويخطؤون وليسوا معصومين. فهل يحرم على المسلم المعاصر أن يفكّر وأن يتعلّم وأن يجتهد وأن يكون صاحب رأي؟
ومع الأسف فإنّ “مقدّسي” ذوي الرّأي من الأقدمين، ليسوا على استعداد لاشغال عقولهم والتّفكّر والتفكير بمدى صّحة تلك الأفاكار أو عدمها، وبالتّالي فإنهم يعادون صاحب هذا المؤلّف القيّم بناء على ما ورد في كتابه، بل إنّهم يكفّرونه ويتّهمونه بالرّدّة! وهذا تكريس لسياسة الجهل والتّكفير التي مزّقت أوصال المسلمين. وليتهم يقارعون الحجّة بمثلها.
يبقى أن نقول أنّ هذا الكتاب جدير بالقراءة والتّعميم، لما يحويه من فكر مستنير يخرج الأمّة من الظلمات إلى النّور. ومهما كُتب عن هذا المؤَلَّف فإنه لا يغني عن قراءته والتفكير بما جاء فيه.
وكتب موسى أبو دويح:
عرفت الكاتب وصاحبْتُه منذ أكثرَ من خمسين عامًا، وكتابه هذا هو تجربة عمر مديد، ونتيجة نقاشات وحوارات مع مؤيّدين له في الفكر ومعارضين، وحصيلة لقاءات واجتماعات، كان المؤلّف يطرح فيها الفكرة بتحدٍّ وقوّة؛ فيتصدّى له معارضوه، ولكنّه لم تلن له قناة، وبقي مثابرًا يبحث وينقّب ويسجّل، مدّة –لا أكون مبالغًا إن قلت- زادت على ستين عامًا.
فأنا –مثلا- سمعته في أوائل السّتينات يطرح هذه الأفكار بقوّة، وهو اليوم قد أردأ (نيّف) على الثّمانين. فكان يقول مثلا: (لا شفاعة)، ويدلّل على صحّة قوله، فيتصدّى له أكثر من في المجلس، وكانت ردوده مسكتة، وحجّته دامغة، ولكن، (وكان الإنسان أكثرَ شيء جدلا).
حضرت مناسبة عامّة، وهي تخرّج -أحد أصدقائنا- في كلّيّة الشّريعة في جامعة دمشق، وكان المدعوّون أكثر من خمسين رجلا، فصار أحد الحضور، وهو شيخ أزهريّ يتحدّث عن كلمة ألقاها في مؤتمر حضره الملك، ووصفها بأنّها كلمة الإسلام، وكان الحضور، وأنا منهم، منصتين له، معجبين بقوله، وواجمين كأنّ على رؤوسهمُ الطّير، قد أخذوا بفصاحته. فتصدّى له صاحبنا وقال:
– إنّ الله سبحانه سيحاسبك على هذه الكلمة، بل سيعذّبك.
– الله أكبر يا عثمان! وهل سيعذّبني الله على قول الحقّ؟
– نعم، والّذي قرأ القرآن في المؤتمر سيعذّب أيضًا.
– لماذا؟
– ألا تعلم أنّ قراءة القرآن الكريم تكون -في حالات معيّنة- حرامًا؟
– وكيف؟
– هل تحِلّ قراءة القرآن في المرحاض؟
– لا.
– وهذه المؤتمرات مراحيض، لا تحِلّ فيها قراءة القرآن، ولا قول الحقّ.
فسكت الشّيخ ولم ينبس ببنت شفة.
وعودًا إلى كتاب الدّراية:
كتاب الدّراية هذا يشكّل ثورة عارمة في الفكر الإسلاميّ، فهناك عقائد فروعيّة وأخبار غيبيّة، دسّت في الفكر الإسلاميّ؛ بحجّة أنّ لها سندًا في كتب الأحاديث النّبويّة الشّريفة؛ ولأنّ هذه الكتب لها قدسيّة في نفوس المسلمين، لم يجرؤ أحد على مناقشة مثل هذه الأفكار، فترسّخت هذه الأفكار في العقول، ووضعت كتب كثيرة في كلّ موضوع من هذه المواضيع، مثل: الدّجّال، وعودة المسيح، وعذاب القبر، والشّفاعة، وأشراط السّاعة، والمهديّ، وغيرها.
يقول الكاتب عن هذه الثّورة: إنّ تحقيق أيّة نهضة حقيقيّة على أساس الإسلام، باعتباره منظومة فكريّة شاملة، تنظّم علاقة الإنسان بربّه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بسائر النّاس، نقول: إنّ تحقيق ذلك يستحيل إلّا من خلال ثورة فكريّة مشهودة ذات بعدين:
أولهما: ثورة تطهيريّة؛ لتحرير ما يلزمنا لزومًا حتميًّا من التّراث، وتنقيته ممّا يكون قد علق به أو اختلط به، أو شوّه معالمه من الأخطاء والأباطيل والخرافات والأساطير، وأنواع الموبقات والضّلالات كافّة في الأصول والفروع، وفي العقائد والأحكام؛ حتّى تعود المنظومة الفكريّة الإسلاميّة محجّة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يحيل عنها إلا هالك.
وثانيهما: ثورة فكريّة، وهذه الثّورة لها محوران: الأوّل: إيجاد طريقة أو منهاج في التّفكير تصحّح به موازين الإدراك لدى الأمّة. والثّاني: إيجاد طريقة منتجة في التّفكير؛ وذلك بإعادة تشكيل البنية الفكريّة التّحتيّة عند الأمّة من جديد على أساس المنظومة الفكريّة الإسلاميّة، بعد أن تكون قد أصبحت سائغة نقيّة طاهرة من التّلوّث الفكريّ بجميع أشكاله وألوانه. الصّفحات: (286-588) بتصرّف.
ويشير الكاتب إلى معاول الهدم في الفكر الإسلاميّ بقوله: فالقرامطة، والحشّاشون، والفاطميّون، والإسماعيليّون، وإخوان الصّفا، والنّصيريّة العلويّون، والصّوفيّون، والبهائيّون، والقاديانيّون، والدّروز، ومن لفّ لفّهم من غلاة الشّيعة الإماميّة الإثنا عشريّة، كلّهم، في الماضي والحاضر لم يكونوا غير امتداد لحركة الوضّاعين الدسّاسين المحرّفين الحاقدين، الّتي شكّلت خرّاجًا كبيرًا متقيّحًا في جنب الأمّة الإسلاميّة، ظلّت تعاني من صديده ونتنه حتّى يوم النّاس هذا.
عرّف الكاتب الدّراية في رسالة كتابه بقوله:
(فالدّراية الّتي يتناولها هذا الكتاب ليست هي الدّراية في معرفة أحوال الرّواة، كما يجري التّعامل معها في علم الجرح والتّعديل، بل هي الدّراية في معرفة صحّة المحتوى الفكريّ أو الخبريّ الّذي تنطوي عليه الأخبار والرّوايات.
غير أنّ الدّراية، في هذه الحال، لا تعني قبول الرّوايات أو ردّها كيفما اتّفق، انسياقًا وراء الهوى أو المصلحة أو التّقليد الأعمى، أو أيّ اعتبار شخصيّ آخر؛ وإنّما تعني إخضاع متونها للدّرس والفحص والتّمحيص، طبقًا لقواعد ضبط وربط صارمة مشروعة؛ لا تدع مجالًا للجرأة الجاهلة أو الجرأة الغاشمة، للعبث في دين الله، أو العبث بشرعه وأحكامه، وأصوله وفروعه. وذلك كأن كانت تلك المتون تخالف قطعيّ القرآن، أو يكذّبها الواقع المدرك المحسوس، أو تناقض السّنن الكونيّة أو القوانين الإلهيّة أو الطّبيعة البشريّة، أو تناقض أحاديث متواترة فعلًا، أو يناقض بعضها بعضًا، أو يناقض الحديث نفسه، إلى غير ذلك من المتناقضات القطعيّات الواضحات). صفحة (ب).
ويقول أيضا في رسالة كتابه:
(فلنرفع غطاء العصمة عن العلماء والمتعلّمين كافّة، أقزامًا كانوا أم عمالقة مرموقين، فليس من بشر معصوم في العالمين غيرَ سيّد المرسلين. ولنرفع غطاء القداسة عن سائر كتب الأوّلين والآخرين، فليس من كتاب مقدّس غيرَ قرآننا الكريم، لا كتاب قبله ولا كتاب بعده. وليكن الحَكَم بيننا أجمعين: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقيْنَ). وليكن شعارنا دومًا هو: (أنّنا نعرف الرّجال بالحقّ، ولا نعرف الحقّ بالرّجال).صفحة (هـ، و).
والكاتب يقول في موضوع أخطاء التّراث:
(فأخطاء الآباء ينبغي أن يتناولها الأبناء برفق، فيصحّحوها ويقوّموها، دون أن يكون في مقارباتهم تلك أيّ مبرّر لرجمهم والإساءة إليهم. فالكلّ خطّاء، وليست العصمة لأحد كان، غير الأنبياء والمرسلين. وليست القداسة لكتاب غير كتاب الله تعالى). صفحة (10).
إلا أنّ الكاتب نسي الرّفق كثيرًا، في تناوله لكثير من آراء الآباء.
ويشير الكاتب إلى ما يصدر اليوم لكثير من الكُتّاب بقوله:
(مركز التّنبه لدى الكاتب والمؤلّف في عصرنا الحاضر، مازال كما هو، ومحور الأداء مازال هو إيّاه: كمّيّة الإنتاج من حيثُ عددُ الكتب أو الرّسائل الّتي ألّفها، وليس نوعيّة الإنتاج من حيثُ قيمةُ الأفكار والأبحاث الّتي قدّمها، وما فيها من تجديد وإبداع واستجابة للتّحديات). صفحة (13).
أمّا ما اعتدنا عليه –في هذه النّدوة- من مناقشة كتاب أسبوعيًّا، فلا يرد في مناقشة هذا الكتاب؛ فكلّ عنوان أو مسألة أو موضوع في هذا الكتاب يحتاج إلى ندوة نقاش خاصّة به. وهذا الكتاب يعرض دليل كلّ مسألة طرحها، فالرّد يكون ببيان خطأ الاستدلال أو ضعف الدّليل، أو أنّه ليس بدليل على هذه المسألة.
والأدلّة في هذا الكتاب بعامّة، هي أدلّة عقليّة أو أدلّة من القرآن الكريم؛ وهذا ما يجعل الرّدّ ليس سهلا؛ وذلك لرجحان أدلّة الكتاب.
أمّا لغة الكتاب فهي لغة فصيحة بل فصحى قويّة أخّاذة. والكاتب وإن كان أستاذًا فى اللّغة الإنجليزيّة إلا أنّه أستاذ فى العربيّة أيضًا؛ ولذلك جاءت الأخطاء في الكتاب قليلة أو نادرة، وأكثرها مطبعيّة.
وختامًا، هذا الكتاب هو ثمرة أكثر من ستين سنة. وقديمًا سحر النّاس بشعر حكيم العرب، شاعر الحكمة والسّلام، زهير بن أبي سلمى؛ لأنّه كان يعكف على القصيدة حولا كاملا حتّى يخرجها للنّاس. فكيف بمن عكف ستين حولا؟
وأخيرًا، فكلّ ما يكتب عن هذا الكتاب لا يغني أبدًا عن قراءته، وإنعام النّظر فيه، بل ومعاودة قراءته مرّات ومرّات.
وقال رفعت زيتون:
ألخص فكرة الكتاب بجملة واحدة، ” الدعوة إلى الدراية قبل الرواية”، وهذا يعني دراسة المتون، وهي جمع متن، أي دراسة المضامين الفكرية للنصوص دراسة نقدية على أسس قويمة ومسلمات ثابتة، وليس النقل الأعمى لرواية ما مهما كان قائلها، فلا عصمة لمخلوق من البشر إلا الأنبياء.
قد نختلف في بعض ما جاء في الكتاب ونتفق ببعض، ولكن لا خلاف على هذا الإطار العام، فهو إطار فكري أساسه الأسلوب العلمي والموضوعي ونتائجه تعود بكل خير على الناس، ليس فقط في نقل الخبر ودراسة الكتب وإنما في الحياة اليومية كذلك. والدراية حتى تؤتي أكلها وثمارها يجب أن تقوم على مرتكزات عدة ومنها:
– تحصيل المعلومات من مصادر مختلفة.
– بلورة الأفكار في ميادين معرفية مختلفة.
– شمولية المعرفة والقدرة على الربط والتحليل.
– ضمان نزاهة العمل.
– الموضوعية في الطرح والتجرد من كل فكر خاص.
– التحلي بالتواضع والابتعاد عن الغرور.
وهذا كلام واع ومتحضر ويخدم أكثر ما يخدم فئة المؤلفين، ويمكن اعتباره معيارا نحاسب عليه المؤلِّف، بكسر اللام، والمؤلَّف، بفتح اللام، ويمكن أن يكون إماما لكل مؤلف يحترم نفسه ويحترم عقول الآخرين، ولكن كم يمكن تطبيق هذا الأسلوب الذي يقترب من أفلاطونية الفكر بالوصول إلى مدينة الكتابة الفاضلة. وهل التزم الكاتب نفسه بما وضعه من معايير عندما قدم لنا هذا العمل مشكورا؟ هذا ما يمكن الحكم عليه بعد إتمام القراءة وطبعا قد تتباين الأحكام من قارئ لآخر، حسب توجهات القارئ الفكرية، خصوصا أن القارئ كونه اتخذ خطًّا فكريا معينا
فلسوف يبتعد قليلا عن الموضوعية والتجرد، وقد يكون حكمه مسبقا دون دراية بسبب أفكاره المسبقة التي يحملها ويجبره عليها حزبه أو فكره.
الكاتب عندما وضع هذه المعايير لم يتركها دون دلائل، فذكر بعض المؤلفات لمؤلفين كبار، منهم من كان له أجندة خاصة أراد أن يسوق أهدافها وأفكارها، ومنهم من طغى جهله على علمه، ومنهم من كان أسير رغباته وأهوائه فأخذ بالضعيف من الحجج وترك القوي، وهكذا.
ومن هذه المؤلفات:
– الإسلام والجنس ولم يحدد الكاتب مؤلف هذا الكتاب، ووجدت أكثر من مؤلف تحت هذا العنوان.
– مسائل فقهية مختارة ولم يذكر صاحب الدراية من المؤلف وأظنه أبا إياس محمود عبد اللطيف.
– الجامع لأحكام الصلاة لأبي إياس محمود عبد اللطيف
– آيات الرحمن في جهاد الأفغان للشيخ عبد الله عزام
– عبر وبصائر للشيخ عبد الله عزام
– تحرير المرأة للشيخ محمد عبده
– جناية البخاري في علم الحديث ومؤلفه زكريا أوزون
-جناية الشافعي في علم الأصول ومؤلفه زكريا أوزون
– الإسلام وأصول الحكم لطه حسين
– تاريخ الخلفاء للسيوطي
وغيرها من المؤلفات التي يقول الكاتب أن وراءها ما وراءها من حرب على الإسلام والمسلمين، ومتاجرة بالحقيقة، والهدم والتخريب، وخدمة أحزاب معينة، ومحاولة عمل شرخ بين ماضي الأمة المتمثل بسلفها الصالح وحاضر هذه الأمة المتمثل بخلفها، ومحاولة التشويه الإسلامي بأكمله، وكل ذلك أعتبره حرصا وغيرة على كل ما هو عربي ومسلم، وتبحّر وغوص في بطون الكتب من أجل الوصول إلى الحقيقة ودرأ الشرّ عن هذه الأمة ودينها.
ولكن بالمقابل لو عدنا إلى ما ذكره زكريا أوزون في مقدمة كتابه، نجده يتوافق نهجا وفكرا وأسلوبا مع طرح مؤلف الدراية، فهو يقول ما معناه أن ليست الغاية من هذا الكتاب التجني على البخاري أو التشكيك بحسن نياته، إنما التأكيد على أن ما جاء في صحيح البخاري ليس وحيا مقدسا، بل هو قابل للنقد المراجعة أو الرفض على الرغم من الهالة والقداسة التي نسجت حوله من قبل الأخريين على مر أكثر من ألف عام.
ثمّ يقدم المؤلف رؤية خاصة به تتمثل في ((أن نأخذ من الحديث النبوي الحكمة والموعظة الحسنة التي يمكن أن يتقبلها كل إنسان على أرض المعمورة، مثل: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وحديث لا ضرر ولا ضرار، أما الأحاديث التي تعارض العلم والمنطق والذوق السليم فيمكن أن نتركها دون حرج.
ثم يطرح الكاتب تسعة أسئلة: تتمثل في التساؤل: هل الحديث وحي منزل؟ أو مصدرا للتشريع، أو مقدس؟ وهل يفسر القرآن الكريم، وهل كل الصحابة عدول ثقاة ؟ وهل يوافق الحديث المعطيات العلمية، والنظم والأعراف السائدة اليوم، وهل وحد الأمة؟ وماذا نأخذ من الحديث النبوي،؟ وهل وفق البخاري في صحيحه؟ لا يخفى ما يريده زكريا أوزون في رؤيته، ولكنه في مقدمته التزم الفكر والموضوعية التي نادى بها صاحب الدراية، فكيف يمكن الجمع بين هذا وذاك. وهل هناك من طبقة المؤلفين والرواة من هم فوق المعايير وكلامهم يجب أن يؤخذ
به على أنه صحيح بشكل كامل؟ وإذا كان الجواب لا، فمن عندها سيكون مخولا بوضع المعايير الجديدة وعلى أي أساس؟ وقد افترقت الأمة أحزابا وفرقا وشيعا ولكل فرقة علماؤها الذين فرحوا بما لديهم؟ “كل حزب بما لديهم فرحون”
سؤال أطرحه بقوة على الكاتب. بمعنى آخر من هم المرجعيات العلمية التي يمكن العودة إليها عند طلب العلم والفقه فيما يُغَمُّ علينا في قادم الأيام مصداقا لقوله تعالى “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
وعودة إلى تلك المؤلفات التي ذكرها صاحب الدراية، فقد ذكر المؤلف مبحثا في سطر في كتاب جعله يحكم على كل الكتاب فعدم صحته وموضوعيته وبعده عن الدين، فمثلا ما جاء في كتاب الجامع لأحكام الصلاة وكتاب مسائل فقهية مختارة، فهل من الصواب الحكم على الكتاب برمتّه من خلال مسألة واحدة أو عدة مسائل؟ وإذا رمنا الصواب كاملا في أي كتاب فلن نجد ذلك إلا في كتاب الله عزّ وجلّ. وربما وجد صاحب كتاب الدراية أكثر من مسألة وعندها كان يجب أن يذكر ذلك أن كتاب كذا وكذا فيه مغالطات كثيرة أذكر منها المسألة كذا وكذا، وهذا إتباعا لما يطالبنا به صاحب الدراية فكان أولى أن يلتزم به.
وفي موضوع الشفاعة يقول المؤلف في صفحة 37 ( يقول القرطبي في تفسير
الآية الكريمة ” واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة” أن المقصود بالتي لا يقبل منها شفاعة هي النفس الكافرة حسب إجماع المفسرين) وبهذا يرد صاحب الدراية أن هذا تعسف من الطبري وأتباعه، وأن إجماع المفسرين ليس حجة، والكلام كله لمؤلف الدراية، ولكن إذا كان إجماع المفسرين لا يؤخذ به وليس حجة، فمن أين نأخذ حجتنا؟ وأليس هذا يمكن أن نضعه في باب عمل الشرخ بين الخلف والسلف ونسف تاريخ التفسير جملة وتفصيلا؟ وهذا ما حذرنا منه المؤلف في البداية. وهل نترك المفسرين وإجماعهم ويفسر كلّ منا حسب هواه هو؟ وسؤال آخر أليس من حقّ العالم الذي بلغ من العلم ما بلغه هؤلاء أن يفسر فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر؟
وكاتب الدراية خطّأ أكثر أهل العلم الذين عرفناهم وأخذنا عنهم، وتقريبا لم يترك أحدًا، وهنا أضع بين أيدكم بعض التساؤلات:
– ألم يحمل هؤلاء العلماء مشقة حفظ السنة من الضياع؟
– عندما نقل هؤلاء العلماء ما نقلوا من أحاديث، ألم يدققوا فيها كما دقق مؤلف الدراية؟ وهلْ قصرت درايتهم وحنكتهم وفطنتهم عن ملاحظة التناقض؟
– وبحسب فهم صاحب الدراية، وأنا معه في ذلك فإن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من أي مكان، فهل كتاب الدراية وصل إلى تلك المرحلة؟ بمعنى هل كتاب الدراية خلا من الخطأ والزلل أم أن الخطأ وارد لأنه مجهود بشري قد يخطئ وقد يصيب، وحتما سيكون الجواب أنه يحتمل الخطأ مثلما يحتمل الصواب. فإذا كان هذا هو الحال فإن كتاب الدراية لم يختلف عن كتب ما جاء به الأولون. وإذا كان صاحب كتاب الدراية قد أسقط ثقته بالكتاب والكاتب لمجرد خطأ في مسألة أو بضعة مسائل، فالقاعدة تنطبق عليه وعلى كتابه.
– يقول الكاتب أنه حتى إذا صحّت الرواية ولم تبطل الدراية، بمعنى أنه إذا كان المتن صحيحا وكان الرواة ثقاة، فذلك ليس دليلا على صحة الحديث.
وهنا أسأل فأين أجد بعد هذا حديثا صحيحا، وماذا يثبت صحته برأيك؟ وكيف لي أن أطبق قوله تعالى في سورة الحشر، “وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.” أم أن النهج الجديد يبطل هذه الآية ويلغيها؟
– ولنتسلسل في فكرة الإيمان، فالأصل أن نبدأ بالإيمان بالله وبعد ذلك بملائكته وبرسله إلى آخر ذلك، والإيمان بالرسل يكون بالإيمان بما جاء به الرسول من قول أو فعل أو تقرير، وهذا ما قيل أنه السنة النبوية، فهل عند الكاتب مرجعيات عدول ثقاة لا يخطئون يقترحهم علينا كي نأخذ عنهم سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؟
– هناك آيات تغيّرت لأسباب عدة، فمثلا تحريم الخمر لم يكن قطعيا في البداية فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ}، وفي آية أخرى” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”، وهذا تناقض صريح في الآيات، فهل يمكن الحكم على هذه المسألة دون بحث كل ما يتعلق بأسباب النزول، ولماذا نتقبل هذه الفكرة هنا ولا نتقبلها هناك؟
وفي آية أخرى، يقول الله عزّ وجلّ في سورة البقرة ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ “، ويقول في سورة التوبة “قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ”. فهو في آية يقول لا إكراه في الدين، وفي آية أخرى يقول قاتلوا، فهل هذا تناقض؟
أم يجب أن نعود لأسباب النزول لفهم المراد؟ وإذا كان كذلك فلماذا لا يكون هذا المنهج مع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.؟
– وهل القرآن جاء شاملا كاملا أم أن هناك أمورا لم تذكر في القرآن وجاءت في كتب الحديث لتفسر ذلك وتذكره، فمثلا لا ذكر للرجم في القرآن الكريم، ولكنه أقرّ في السنة النبوية في صحيح مسلم، وهو ليس من الغيبيات، فهل ننكره؟
– سؤال آخر لكاتبنا، هل تؤمن أن هناك آيات منسوخة في القرآن؟ ولماذا تمّ نسخها وإذا كنت فعلا تؤمن بذلك فهل غيّر الله رأيه أم أنه حاشا لله صحح أمرا لم يكن صائبا؟ فإذا لم يكن كذلك فهل يمكن ربط ذلك بما جاء في سنته الشريفة من تغيير أو تعديل بأمر الله مصدقا لقوله تعالى في سورة النجم “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى”.؟
– يقول صاحب كتاب الدراية أن المتون يجب أن نحكمها للعقل والمنطق، فلماذا في قضية المسح على الخفين يمسح على ظاهر القدم، بينما المنطق يقول بالمسح على باطن القدم؟
– يقول الكاتب أن أحاديث الآحاد يمكن الأخذ بها في مسائل العقيدة والأحكام الشرعية والعبادات، ولا نأخذ بها في أمور الغيبيات، فكيف نضع ثقتنا في مصدر ما على جزء مما جاء به ولا تكون في جزء آخر؟ وحتى لو كانت المسألة متعلقة بأمور العبادات، ماذا لو جاء في أحد الأحاديث مثلا..
جاءني جبريل أو أمرني جبريل، أو أو…. فهل نأخذ به على أنه متعلق بمسائل العبادات أم نرفضه لأنه مبني على حديث جبريل، وجبريل من الغيب.؟
ومن منطلق التدقيق وفحص المضامين الذي نادى به المؤلف، رحت أبحث عن بعض تساؤلاته، فوجدتُ أنه قد سبقه إليها غيره من أديانٍ أخرى ومن فرقٍ شتى.ووجدت كذلك الردّ على تلك التساؤلات فمثلا في مسألة حديث نزول الله للسماء الدنيا، أتساءل هنا عن الآية الكريم
في سورة ” الرحمن على العرش استوى”، هل أقبل فكرة الاستواء وإذا قبلتها فكيف يكون الاستواء؟ حتما سأقبلها ويقبلها الكاتب لأنها من القرآن، وحتما سيقول الكاتب أننا لسنا مكلفين في البحث في كيفية الاستواء، فلماذا لا يقبل فكرة النزول وبحث في كيفية النزول، هل فقط لأنها جاءت في الحديث؟ والحديث تحدث عن النزول فهل هناك من نصّ آخر يتحدث عن عدم النزول ليحدث التناقض؟
– أما ما جاء عن حديث القردة فالحديث يتحدث عن حكاية وليس عن تشريع ولا عن عبادات.
– أما عن حديث السحر، فهل المسحور يبقى مسحورا؟ وهل مرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل برئ من مرضه أم بقي مريضا؟ فإذا بقي مريضافحتما سيكون لذلك تأثير على ما يمكن أن يأتينا به حسب درجة مرضه، وبالتالي فإذا كان عليه الصلاة والسلام يمرض ويبرأ بإذن الله فهو كسائر البشر فكذلك يمكن أن يقع عليه السحر ويبرأ منه بأمر الله وإلا فلماذا أنزل الله المعوذتين؟ ألم يخف سيدنا موسى وهو الشديد من الحبال التي خيل له من سحرهم أنها تسعى لولا أن ثبته الله؟ فهل السحر يمكن أن يؤثر على نبي دون آخر؟
– أما حدوث سجود الشمس، فالسجود اصطلاحا معناه وضع الجبهة على الأرض ووضع اليدين والركبتين وأطراف القدمين، أي أنه يتم بسبعة أعضاء للإنسان المعافى القادر على أدائه، أما معناه لغة فهو الخضوع. فإذا أخذنا المعنى اللغوي فالأمر يصبح واضحا جليا. وربما رفض أحد قبول ذلك، أقول لا بأس وأعود إلى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل، وأذكر الآية الكريمة التي تقولفي سورة الحج: ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ” فهل سيأخذها الكاتب على المعنى الاصطلاحي أم على المعنى اللغوي، فإذا آمن بها هنا فلماذا ينكرها هناك؟
أما قضية السجود تحت العرش، فأين يسجد كل ساجد؟ هل يسجد الناس وكل من جاء في الآية الكريمة تحت العرش أم فوقه؟ أليس الله محيط بكل شيء وفوق كل شيء؟ وبالتالي فإما أن الشمس تسجد، بدلالة الآية، أو أنها لا تسجد، فإذا أقررنا بالسجود فهذا يعني أن لها ما قدر لها الله من كيفية ووقت وزمان.
هذا بعض ما قرأت من تساؤلات وردت في كتاب الدراية، وهي ليست بجديدة
كما ذكرت سابقا. وعلى ذلك يمكن ان نقيس باقي المسائل. وهي تساؤلات وضعتها ابتغاء الوصول إلى دراية حقيقية وفهم أكثر وضوحا، ربما يجيبني عليه الأخ المؤلف صاحب الدراية، ليس جدلا بقدر ما هو إثارة أكبر لمزيد من التساؤلات، أو إثارة للتساؤلات
من جميع جوانبها.
وهنا أريد أن أثمن فكرة التفكّر وهي أيضا ليست جديدة فنحن مأمورون قرآنيا بها،
ولكن التفكّر يعني أن نبحث عن الأمور من كل الجوانب وحتى آخر التفاصيل،
حتى لا تكون الأمور حجة علينا لا حجة لنا.
الكتاب أثار الكثير وربما زعزع ثقتنا بعلمائنا للحظة وربما وصل أمر الزعزعة إلى أبعد من ذلك، ولكن لهذه المسائل من يمكن الردّ عليها من أهل الاختصاص والعلم، وبالتالي فأنا أقترح تشكيل لجنة من العلماء وأهل الدراية على أن تتوفر فيهم الموضوعية والموسوعية ليس للردّ على الكتاب وإنما للبحث في كل الأمور التي تناولها الكتاب واستخلاص النتائج، ووضعها بين أيدي العامة ممن قرؤوا الكتاب، ولتكن كلتا المادتين أمام القارئ.
وكتب عبدالله دعيس:
يلحظ الأستاذ عثمان صالحية المشاكل التي تتخبط فيها الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر، ويعود إلى تاريخ الأمة الطويل، يتحسس فيه مواطن الوجع وعوامل الضعف والوهن، ويقرر بحكم خبرته الطويلة في الحياة، أن يضع أنامله على مصدر الخلل وأصل العلّة، لعله يستطيع أن يرشد الأمة، التي ضلت الطريق، إلى حبل النجاة الذي إذا تعلقت به لحقت ركب البشرية، وتخلصت من ظلام الجهل والتخلف والتبعيّة.
يرى المؤلف أن كتب التراث الإسلامي، مثل كتب التاريخ والتفسير والسنّة، تزخر بالروايات التي لا يقبلها العقل أو المنطق السليم، أو ربما تتعارض مع بعض الحقائق العلميّة. ويعتب على الذين يقبلون هذه الأخبار دون تدقيق ولا تمحيص ولا يعملون عقولهم بها، فتتفرق الأهواء بهم، وقد يقودهم هذا إلى الضلال والبعد عن المنهج السليم الذي جاء به الإسلام. فالإسلام لا يعارض العلم، فلا يمكن أن يعارض نصا من القرآن الكريم أو حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العقل والفطرة السليمة أو حقيقة علمية ثابتة، فما دام الذي خلق الكون هو الذي أنزل هذه الرسالة، فلا يمكن أن يكون هناك تعارض ولا إشكال.
لذلك فإن المؤلف يقترح أن تعرض جميع النصوص الإسلامية بما فيها الحديث الشريف على العقل والمنطق، وتدرس دراسة واعية قبل أن تُعتَمد كدليل شرعيّ، بغض النظر عن صحة سندها أم ضعفه؛ فصحة السند في رأيه لا تغني عن هذه الدراسة التي يسميها “الدراية”. فالرواة، مهما بلغوا من العدالة والحفظ قد يخطئون أحيانا، وقد تصلنا نصوص صحيحة السند لكنها لا تتوافق مع المنطق السليم. ويرى المؤلف أن التراث الإسلامي بحاجة إلى إعادة تقييم ودراسة ضمن هذا العلم الذي يعرّفه ويضع شروطه، فيقول في مقدمة الكتاب أن الدراية “تعني إخضاع متونها للدرس والفحص والتمحيص، طبقا لقواعد ضبط وربط صارمة مشروعة، لا تدع مجالا للجرأة الجاهلة أو الجرأة الغاشمة، للعبث في دين الله، أو العبث بشرعه وأحكامه، وأصوله وفروعه. وذلك كأن كانت تلك المتون تخالف قطعي القرآن، أو يكذبها الواقع المدرك المحسوس، أو تناقض السنن الكونية أو القوانين الإلهية أو الطبيعة البشرية، أو تناقض أحاديث متواترة فعلا، أو يناقض بعضها بعضا، أو يناقض الحديث نفسه، إلى غير ذلك من المتناقضات القطعيات الواضحات.”
ثم يخبرنا الكاتب أن من يتصدى لهذا العلم ومن يحمل مسؤولية هذه الأمانة هم الصفوة المختارة من أبناء الأمة، وحتى لا نسيء فهمه يعرفنا عنهم باللغة الإنجليزية (Elite) والتي يجب أن تكون منظمة غاية التنظيم، كما يقول المؤلف، ومسلحة بالمبدأ (ideology) تسليحا عميقا مستنيرا، شاملا منظومته العقائدية والتشريعية.
إن ما يطرحه المؤلف في هذا الكتاب لهو أمر ضروري، فتنوير العقول وتحريرها من الجهل، وتنقية التراث مما علق به من شوائب الماضي ومكائد الوضّاعين والمتآمرين لهو عمل جليل وجهد مطلوب ممّن تحمّل أمانة هذا العلم وخاض غماره، وهو قد يكون لبنة أخرى تضاف إلى الجهود الجبارة التي بذلها علماء التفسير والحديث والفقه منذ فجر الإسلام إلى وقتنا الحاضر، والذين أحاطوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعناية والبحث والتدقيق في أسانيد الأحاديث ومتونها وبينوا لنا الصحيح من العليل، وصنفوها فأحسنوا التصنيف، واجتهدوا أيّما اجتهاد، فلم يحظ أي علم في تاريخ البشرية بالاهتمام والدقة التامة كعلم الحديث، ويشهد على هذا المصنفات والبحوث والشروح التي لا حصر لها على امتداد التاريخ الإسلامي. لكن العمل البشريّ لا بد أن يشوبه النقصان، وفي كل عصر تتفتح العديد من العلوم ووسائل البحث التي ربما لم تكن متوفرة للسابقين، فلا بد من الاستمرار في هذا النهج للمحافظة على السنّة المشرفة التي لا يستقيم لنا دين دونها.
ليت الكاتب، توقف عند هذا الحد، حد الإرشاد إلى ضرورة هذا العلم وتنبيه المختصين به إلى ضرورة البحث والتمحيص، وربما مشاركتهم بما آتاه الله من وعي وعلم في هذا العمل المهم. لكن المؤلف تخطى الحدود التي رسمها وقالها في مقدمته ولم يلتزم بها، بل نصّب نفسه ليكون بدل الصفوة المختارة أو ال(elite) التي ذكرها وانبرى لهذا العمل بنفسه. فبدأ بنبش صفحات التاريخ، ونصبّ نفسه حكما على المؤرخين والمفسرين والفقهاء وعلماء الحديث على مرّ العصور، يصحح هذا، ويخطّئ هذا، ويحكم على نيات ذاك، وكأنه ألمّ بكل هذه العلوم وفهمها أكثر من جميع العلماء على مرّ العصور والسنين، فوقع في أخطاء جسيمة، أخرجت هذا البحث عن دوره ومبتغاه.
خلال قراءتي المتأنِّية لهذا الكتاب، بكل موضوعية وبقلب متفتح متلهف للعلم والمعرفة وحريص على أمّة الإسلام وتراثها، وجدت أن الكاتب أخفق كثيرا، وتكونت لديّ ملاحظات عديدة لا مجال لذكرها جميعا، لكن لا بد من ذكر بعضها، وإثارة بعض التساؤلات المهمّة. وأنا أرى أن المؤلف أخفق من جانبين:
أولا: أن الكاتب لم يلتزم بأسلوب البحث العلميّ ولا أصوله، وكان بعيدا كل البعد عن الطرح العلميّ الموضوعيّ المنظم، الذي قد يجلب المتلقي ويسوقه إلى الاقتناع بالأفكار المطروحة.
• فالكاتب لم يذكر المراجع التي اعتمد عليها في عرضه لعلم الدراية، ولم يذكر التعريفات التي ذكرها العلماء القدماء والمعاصرون لهذا العلم، وقدّم العلم وكأنه شيء طارئ جديد أو أنه فكرته الخاصة. مع أن دراسة متن الحديث، عدا عن سنده، علم معروف لدى علماء الحديث له قواعده وأصوله.
• لم يذكر الكاتب الدراسات السابقة في هذا المجال إلا ذكرا عابرا دون أن يوضح أسماء المؤلفين، وتاريخ نشرهم لأبحاثهم كما هو معتمد في الأبحاث العلمية.
• لم يخرّج المؤلف الأحاديث التي أوردها في كتابه، بل اكتفى بذكر أن الحديث جاء في صحيح مسلم أو صحيح البخاري أو غيرها من الكتب، ولم يبيّن للقارئ أين يجد هذا الحديث إذا أحب الرجوع إليه في المصدر، فلربما كانت هناك روايات أخرى أو شروحا للحديث من المفيد الاطلاع عليها. وكان يذكر أحيانا أن الحديث في البخاري دون أن يبيّن إذا كان في صحيح البخاري أو ربما في تاريخ البخاري! وكان أحيانا يذكر اسم الصحابيّ الذي روى الحديث دون أن يبيّن في أي كتب الحديث ورد، وتصنيفه من حيث صحة السند.
• لم يرتّب الكاتب أفكاره، ولم يقسم البحث بطريقة جيّدة، بل كان يكرر نفسه في أماكن متعددة ويدور حول نفس الموضوع.
• اللغة التي استخدمها الكاتب، ليست لغة علميّة بتاتا، بل هي لغة هجوميّة تهكميّة مليئة بالألفاظ المهينة التي لا تليق ببحث علميّ وتستخف بمن قد يعارض افكار المؤلف، ويصفهم بألفاظ لا يجوز استعمالها خارج المقاهي والحارات. من الأمثلة على ذلك: “ما هذه الولدنة؟” صفحة 147، “ما هم إلا الدراويش أو المهابيل الذين يبلل بصاقهم لحاهم.” ص 151، “وليس له من سبيل غير الحزازير لتقرير مصير عباده الخنازير!!” ص 274 يقول ذلك في حق الله سبحانه وتعالى. فأين أدب الحديث، والتواضع والوقار أمام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكرر كلمات مثل :الهلوسة والهبل والسخافة والولدنة وغيرها كثير.
• لم يلتزم الكاتب بالمنهج الذي وضعه لنفسه في مقدمة الكتاب، بل راح يدرس الأحاديث بعيدا عن الشروط التي وضعها، ويردها كما اتفق دون مراعاة لإختصاص. فالكاتب أصبح خبيرا بعلوم القرآن والحديث وكذلك علوم الكون والأحياء الدقيقة، وأصبح يقرر ما يوافق العلم وما لا يتفق مع العلم الحديث دون الرجوع إلى المصادر العلمية لهذه العلوم أو إلى المختصين بها.
ثانيا: وقع الكاتب في العديد من المغالطات والهفوات والزلّات التي أفرغت كتابه من مضمونه وجعلته بعيدا كل البعد عن الموضوعيّة. سأحاول أن أشير إلى بعضها نظرا لكثرتها:
• في عنوان الكتاب قرر أن الدراية فريضة، وأنها كانت غائبة في التراث الإسلامي، مع أن الدراية علم، وهو موجود في التاريخ الإسلامي وله أصوله، التي قد تختلف عمّا طرحه المؤلف، لكنه لم يشر إلى ذلك.
• عمد الكاتب في بداية الكتاب إلى التشكيك بمن يحملون الشهادات العلميّة في مختلف الاختصاصات، خصوصا حملة شهادات الدكتوراه، ووصفهم بالجهلة الذين يعلمون كل شيء عن لا شيء، فألغى دور العلم والأبحاث العلميّة، وترك الباب مفتوحا لمن هبّ ودبّ ليفتي في رأيه في مختلف العلوم التي تحتاج إلى اختصاص دون علم أو دراية حقيقيّة. وهذا ما فعله المؤلف عندما تصدّى لعلم ليس من اختصاصه، وذلك حسب السيرة الذاتية التي أوردها لنفسه على غلاف الكتاب.
• عمد الكاتب إلى التشكيك في الأحاديث النبويّة عن طريق الاستهتار بعلم الحديث، حتى الأحاديث المتواترة شكك بها، ونصّب نفسه حكما عليها.
• ذكر الكاتب العديد من المعلومات دون أن يتحقق من صحتها أو يذكر دليلا على صحة كلامه. مثال على ذلك يقول الكاتب أن ناشر كتاب “تحرير المرأة” هو الشيخ محمد عبده وليس قاسم أمين كما هو معروف. فما الدليل على ذلك؟ وما هو مصدر هذه المعلومات؟
• قام المؤلف بمهاجمة علم تفسير القرآن، وأوهم القارئ أن التفسير لا داعي له ما دام الذي يقرأ القرآن يفهم العربية. وتعرض للمفسرين بالقدح والذم، فلم يكتف بذكر أن بعض المفسرين أوردوا العديد من الإسرائليات والقصص التي لم تثبت صحتها، ولم يذكر أنهم في كثير من الأحيان نبهوا إلى بطلان الروايات التي أوردوها، ولم يذكر التفاسير التي لم تعتمد على هذه الروايات، بل قدح في علم التفسير وحكم على نيّات المفسرين وشكك في إخلاصهم.
• يقول المؤلف في ص 30 أن علم الدراية لا يمكن له أن يحقق أهدافه إلا عن طريق الدولة. وأنا أتساءل: هل سيكون لهذه الدولة إشراف على الفكر وتقنينه في مسار معيّن؟ وهل من الممكن أن يكون هناك إبداع إذا كانت الدولة هي التي توجه الفكر؟ وأين حرية الرأي والتعبير؟
• يشير الكاتب إلى أن أساس الرفض والقبول للأحاديث يجب أن يكون واحدا. وأقول للمؤلف: أنت تناولت الأحاديث الشريفة بالرفض والقبول حسب فهمك لها، وفهم الفرد لا بد أن يعتريه النقص والقصور أحيانا، فما يمنع غيرك من تناول الأحاديث حسب فهمهم هم لها؟ وبذلك لن يكون هناك أساسا واحدا أبدا. وهل تستطيع منع غيرك من الخوض في صحة متن الحديث ما دمت أبحت ذلك لنفسك؟
• يقرر الكاتب أن الأحاديث النبوية الصحيحة تبقى ظنيّة، فكيف تصحّ عباداتنا بها ما دامت كذلك؟
• ما المقصود بالصفوة المختارة، ومن يحدد من هم الصفوة ويختارهم، وما الشروط التي يجب أن تنطبق على هذه الصفوة؟ وهل يعتبر المؤلف نفسه من هذه الصفوة التي تنقح الحديث وتقبل ما شاءت وترد ما تشاء؟ وما الذي أهّله ليكون منهم؟
• أليست الدراية تعتمد على عقول الناس الذين قد يتفاوتون في فهمهم للأمور أو حتى فهمهم للآيات القرآنية؟ كيف نردّ حديثا صحيحا لأنه لا يوافق فهمنا في الوقت الحاضر، وقد تتكشف أمور في المستقبل لا نعلمها، فالعلم لا يتوقف وفوق كل ذي علم عليم، وما يعتبر حقيقة علمية قد يثبت خطأه في المستقبل.
• يقول المؤلف أن عدالة الراوي تعتمد على موازين بشرية قد تختلف فيها وجهات النظر، أليست الدراية أيضا تعتمد على موازين بشرية قد تختلف فيها وجهات النظر؟
• يصف الكاتب في صفحة 68 ويكرر ذلك لاحقا في كتابه، القراءات القرآنية بأنها مزعومة، ويشكك في صحتها، مع أن القرآن وصلنا متواترا بقراءاته المختلفة. فإذا كانت هذه القراءات مزعومة كما تقول، فأين القرآن الكريم؟ إن المصحف الذي لدينا مكتوب حسب رواية حفص عن عاصم لأنها كانت الرواية المعتمدة أيام الدولة العثمانية، أما في المغرب فالناس يتلون رواية ورش عن نافع. فإذا كانت هذه الروايات مزعومة، فليدلنا المؤلف على القرآن الكريم حتى نقرأه كما صح لديه؟ هذا كلام خطير جدا يشكك بالقرآن الكريم نفسه، وليس فقط بالسنة النبويّة كما فعل في كتابه.
• يهاجم الكاتب بشكل كبير الأحاديث الشريفة التي تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أَنسي شيئا من القرآن الكريم ويردها دراية ويصف ذلك بالكذب والبهتان الذي لا يصح عن رسول الله. لكن ألم يقرأ قول الله تعالى: “ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير.”
• قرر الكاتب أنه لا يجوز اعتماد أحاديث الآحاد مهما كان عددها في موضوع العقيدة، لكنه لم يورد آراء العلماء بذلك، ولم يستدل على ذلك من القرآن الكريم، بل اعتبرها مسلّمة لا بد من التسليم بها. من حق القارئ أن يعلم الآراء المختلفة بهذا الموضوع.
• يكرر الكاتب في مواضع كثيرة من الكتاب في معرض حديثه عن الشفاعة، أن الإنسان يدخل الجنة بعمله فقط، ويحصر رحمة الله في نقطتين يحددهما هو. والله سبحانه وتعالى يقول في قرآنه أن “رحمته وسعت كل شيء.”
• يقوم الكاتب برفض الأحاديث وردها بطريقة تهكميّة وكأنه امتلك زمام الأمر ونصّب نفسه حكما عليها، مع أنه قال في مقدمة الكتاب أن من بقوم بذلك هم الصفوة، فهل هو هذه الصفوة؟
• يقرر الكاتب بعض الأمور الغيبية دون الرجوع إلى كتاب أو سنة. فمثلا يقول أن أبا طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم كان المسلم رقم واحد في مكة، وينعته ب”رضي الله عنه” فما دليله على هذا؟
• يستهين الكاتب بعلم الحديث، ويعتقد ويرى أنه لا ضرورة لنقل الحديث وروايته، ويسفّه كتب الحديث، ويرى أن علماء الحديث هم الذين حوّلوا الحديث إلى خبر آحاد عندما دوّنوه، بينما كان الناس قبل ذلك ينقلون الحديث عن طريق تطبيقه في واقع حياتهم. وبذلك فإن المؤلف يحاول أن ينسف كل الجهود التي بذلها علماء الحديث على مرّ العصور للحفاظ على سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم.
• يطعن الكاتب في بعض صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتهمهم بالنفاق وإظهار الإسلام وإبطان الكفر، ويتهمهم بالتآمر لتدمير الإسلام وضربه من داخله. ويذكر من هؤلاء: عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار ووهب بن منبه وتميم الداري ومعاوية بن أبي سفيان. ولا يورد دليلا على نفاق هؤلاء إلا بعض الأحاديث التي نسبت إليهم ولا يعجبه متنها. ويشكك أيضا بالأحاديث التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه.
• يرفض الكاتب العديد من الأحاديث دراية، حسب فهمه هو لها. فمثلا يرفض حديث “لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم.” لأنه يفهمه على أنه نهي من دخول ديار الكفّار، مع أن الحديث قد يفهم على النهي عن دخول مساكن الأقوام الذين عذبهم الله وأهلكهم فيما مضى. ويقول أن هذا الحديث قد وضع ليعطل الجهاد في سبيل الله!
• يرفض الأحاديث التي تدعو إلى قيام ليلة القدر ويقول، بدون دليل، أن ليلة القدر مرت مرة واحدة فقط في التاريخ، ويقول أن فكرة قيام ليلة القدر هي فكرة تخريبية هدامة، لا تشيع عند المسلمين غير الهلوسة، والهبل، والترخص من الدين. ويقول مستهزئا بليلة القدر: “ومما يزيد الطين بلّة في موضوع ليلة القدرة هذه، أن جملة من الأحاديث قد طلبت من المسلمين أن يتحروها في العشر الأواخر….” ونسي الكاتب أو تناسى أن ليلة القدر ذكرت في القرآن الكريم ونزلت سورة باسمها وقال تعالى: “تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر” بصيغة الفعل المضارع.
• يرد الكاتب الأحاديث التي تتحدث عن صلة الرحم وأنها تطيل العمر أو تدفع البلاء، بحجة أن الأجل محتوم. هذا فهم غير صحيح للقدر، فالله سبحانه يعلم منذ الأزل أن عبده سيصل رحمه، فيكتب له العمر المديد ويدفع عنه الأذى، وإلا فما فائدة الدعاء إذا.
• يرد بعض الأحاديث التي يزعم أنها تخالف العلم، مثل حديث غمس الذبابة في الشراب. أتساءل: هل قام الكاتب بالأبحاث العلميّة أو اطّلع على خفايا علم الأحياء حتى يردّ الحديث، أليس من الأجدر أن يترك هذا للمختصين في هذا العلم ولا يقحم نفسه فيه؟ ويردّ الكاتب الأحاديثالتي تبيّن أن للتمر فوائد طبيّة، ويقول مستهزئا أن التمر مادة مغذية، أكله ينعش الديدان ولا يقتلها. هلّا أخبرنا المؤلف عن البحث العلميّ الذي اعتمد عليه في هذه المعلومة؟
• يرفض المؤلف حديث “بني الإسلام على خمس” زاعما أن هناك أركانا أخرى للإسلام لم يذكرها الحديث. من المعلوم أن هناك الكثير من الفرائض التي لم يذكرها الحديث وذكرت في القرآن الكريم أو في أحاديث أخرى، لكن هذا لا يعني أن نكذّب حديثا صحيحا ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونرده اعتباطا هكذا. إن الجرآة على تكذيب الأحاديث تعادل جرأة الذين وضعوا الأحاديث ودسوها على الرسول صلى الله عليه وسلم.
• يرد حديث “لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم” فقط لأنه لا يروق له أن المسلم لا يرث الكافر. إذا أراد كل شخص أن ينكر الحديث الذي لا يعجبه لا يبفى من الإسلام شيئا.
• وفي معرض كلامه عن الحديث الذي يبيّن فضل قول سبحان الله والحمد لله صفحة 273 يقول الكاتب عنه “إجرام ما بعده إجرام!” أين الإجرام في ذكر الله سبحانه وتعالى يا شيخ؟ وهل أنت من يقنن مقدار الحسنات التي يعطيها الله لعباده؟
• يقف الكاتب بقوة في وجه الأحاديث التي تبيّن واسع رحمة الله ومغفرته، فكل حديث ورد فيه أن الصلاة أو العمرة أو الحج أو الصدقة تكفّر عن السيئات، رفضه ورده.
• يعمد الكاتب إلى تسفيه علماء المسلمين ووصمهم بالجهل وأحيانا بالخيانة والتآمر ضد الإسلام، ولم يستثن فرعا من فروع العلم. فسفّه المفسرين، وأصحاب كتب الحديث والفقهاء، واتهم الإمام أحمد بن حنبل أنه كانا عميلا للسلطة العباسية ويلعب دورا ضد المعتزلة في مؤامرة على الأمة الإسلامية. فهل يقتنع عاقل بمثل هذا الكلام الباطل. وذكر الإمام مالك وابن تيميّة وابن قيّم الجوزية وغيرهم من علماء المسلمين، حتى لم يبق أحدا يُعتدّ به. إن التشكيك بهؤلاء العلماء هو تشكيك بعلمهم، وتشكيك بالإسلام نفسه الذي حملوه إلينا ووصلنا بفضل جهودهم وتضحياتهم.
يقول بحق الإمام أحمد بن حنبل ص 415: “فهل يا ترى كان عدم الانضباط في شخصية أحمد بن حنبل هو الذي أغرى به السلطات العباسية كي يسخروه، ليلعب لحسابها، دورا كبيرا وخطيرا في حياة الأمة والسلطة؛ وذلك كي تستريح السلطة العباسية من المعارضين والطامعين في الحكم والسلطان، وأن تجعل الرعايا يموج بعضهم في بعض.”
• وينتقد الكاتب أهل السنة والجماعة، ويردد “الذين يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة” وينتقد غيرهم من المذاهب والفرق الإسلامية، وينتقد المعتزلة مع تأثره الواضح بأفكارهم ومناهجهم، فلا يعجبه قول المعتزلة: “إن الحسن ما حسّنه العقل، والقبيح ما قبّحه العقل.” مع أنه يقوم بالأمر نفسه عند تعامله مع الأحاديث الشريفة فيقبل ما حسّنه عقله ويرفض ما قبّحه عقله.
• يكذّب الكاتب جميع الأحاديث التي تتعلق بالمعجزات الحسيّة للرسول صلى الله عليه وسلم لأنها غير مقنعه له، دون دليل على ذلك.
• يرى الكاتب أن أعمال الناس وابتعادهم عن منهج الله لا علاقة له بما يصيبهم من القحط والجفاف ويكذب الحديث الشريف الذي يقرّر ذلك. ألم يهلك الله الأقوام السابقة بالقحط وبالظواهر الطبيعية الأخرى؟ أليست سنة الله باقية كما يقرر القرآن الكريم؟
• يستهزئ الكاتب باسم محمد وأحمد وما شابهها من الأسماء في معرض رفضه لحديث خير الأسماء مع عبّد وحمّد ويصف هذه الأسماء ب”المعزوفة المضحكة.”
• يرفض الكاتب الأحاديث التي تحرّم الوشم ويصف الوشم بأنه عملية تجميليّة بحتة. ويعتمد في ذلك على أنّ العلّة في تحريم الوشم هو تغيير خلق الله، وهو يرى أن الوشم ليس تغييرا لخلق الله. وهل يجب أن يكون لكل أمر محرم علّة يدركها كل شخص ويقتنع بها؟ فهل إذا انتفت المضرة من أكل لحم الخنزير، يصبح حلالا وتنسخ آية تحريمه؟
ما ذكرته فيض من غيض، وملاحظات قليلة من أخطاء ومغالطات كثيرة وكبيرة جدا وقع بها الكاتب الذي تصدى للحديث الشريف والتراث الإسلامي بعلمه القاصر المحدود. ففي الوقت الذي تحافظ به الأمم على تراثها وإرثها الحضاري، وتعنى بنصوص وضعيّة وتضفي عليها هالة من القداسة، ولا تسمح بتغييرها وتحريفها، يريد منّا الكاتب أن نراجع بسذاجة وقلة خبرة ودراية أحاديث المصطفى عليه السلام ونردها ونرفضها كما اتفق. فالدستور الأمريكي مثلا، عمل بشري كتبه مجموعة من الأشخاص، وهو لا يخلو من الخطأ والتناقض، ومع ذلك يحافظ عليه الأمريكيون ويقدسونه ولا يعدّلوه إلا بعد عمليّة معقدة يشترك بها الخبراء ويصادق عليها ممثلو الشعب بأغلبية مطلقة. فكيف نقوم بشطب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، بأهوائنا!
لا شك أن علم الحديث علما مهما يجب أن نستمر بالعناية به وحفظه. والكاتب أراد أن يسهم بهذا، وقد دفعه إلى ذلك حرصه على التراث الإسلامي وغيرته على دينه وأمته. وهذا تماما ما فعله علماء الحديث في القرنين الثاني والثالث الهجريين لمّا تضاربت الروايات وكثر الوضّاعون. فهذا العمل يجب أن يستمر وأن يتصدى له علماء الأمة نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحفاظا على الحديث الشريف الذي هو المصدر الثاني من مصادر التشريع. لكن تسفيه هؤلاء العلماء ونسف جهودهم ومحاكمتهم حسب فهم شخص واحد أو عصر من العصور، لهو ظلم وامتهان لحقهم وتدمير لعلم الحديث الذي أوصل إلينا الحديث الشريف، وبين الغث من السمين.
وشارك في النقاش عدد من الحضور منهم: محمد عمر يوسف قراعين، رياض خويص، عماد الزغل، حسن أبو خضير، عواد أبو قلبين، سوسن عابدين الحشيم، ابراهيم شعبان، معتز القطب وآخررون.
جميل السلحوت
.