فرنسا تحتفل بفيلسوفها الكبير ديدرو بعد ثلاثمائة سنة على ولادته 1713-2013
تاريخ النشر: 16/01/13 | 0:46بالأمس القريب احتفلنا أو قل احتفلت فرنسا وسويسرا بالذكرى المئوية الثالثة لولادة جان جاك روسو.
والآن جاء دور صديقه العزيز ديدرو،
أو قل الذي كان صديقه لأنهما اختلفا فيما بعد وبقيا متخاصمين بعنف حتى الموت. وهذه مشكلة المثقفين الفرنسيين والعرب. أنّهم لا يطيقون بعضهم بعضا من كثرة الحسد والغيرة والتنافس. الغيرة بينهم أبشع من الغيرة بين السيدات المتنافسات على قلوب الرجال. (لاحظوا كيف أعكس الأمور بكل خبث وعن سابق قصد وتصميم. بالمناسبة اكتشفت مؤخرا أني أخبث بكثير مما كنت أتصور فيما يخص هذه القضايا الاستراتيجية الحساسة!). وقد صدرت عنه بهذه المناسبة عدة كتب من بينها:
كتاب جاك أتالي بعنوان: "ديدرو، أو غبطة الفكر
ولكني أفضل عليه كتابا آخر لمختص حقيقي بالموضوع هو البروفيسور ريمون تروسون الأستاذ في الجامعة الحرة ببروكسيل وعضو الأكاديمية الملكية البلجيكية. وعنوانه: "ديدرو" فقط بكل بساطة.
فهنا تجد نفسك في أيد أمينة وعلم غزير متين. ولكن هذا لا يعني أن كتاب جاك أتالي غير ممتع أو غير مفيد. بالطبع ينبغي ألا ننسى بأي شكل كتاب أستاذ جامعة جنيف البروفيسور الكبير جان ستاروبنسكي أمد الله في عمره (92 سنة). فهو أحد الكبار الباقين على قيد الحياة. وهناك كتب أخرى عديدة سوف تصدر حتما على مدار هذه السنة التكريمية. فديدرو غال على قلب فرنسا والفرنسيين. إنّه مدشن حضارتهم التنويرية وأحد مفاخرهم الفكرية بالإضافة إلى ديكارت وفولتير وسواهما.
ريمون تروسون هو أحد كبار المختصين بتاريخ الآداب الفرنسية وبخاصة فترة عصر التنوير: أي القرن الثامن عشر. وهو يتحدث في هذا الكتاب عن كيفية ظهور الفكر النقدي في فرنسا إبّان تلك الحقبة الشهيرة، وما هي المصاعب والعراقيل التي واجهت فلاسفة التنوير الكبار، وكيف حاولوا مواجهتها أو التغلب عليها. يقول المؤلف بما معناه: يتفق المؤرخون على أن عصر التنوير هو الذي أدى إلى النقد الراديكالي والمراجعة الجذرية لكل العقائد الموروثة عن الماضي القروسطي.
فحتى ذلك الوقت ما كان أحد يتجرأ على نقد التراث المسيحي أو دراسته دراسة علمية تاريخية. ما كان أحد يتجرأ على نقد الأحكام المسبقة، المذهبية والطائفية، الشائعة في المجتمع والمتغلغلة في أحشاء الطبقات الشعبية الأمية الجاهلة التي تتبع وصايا رجال الدين بشكل أتوماتيكي. كانت هذه الأفكار المتعصبة تعتبر بمثابة حقائق معصومة، مقدسة، لا تقبل النقاش. صحيح أن ديكارت كان قد نقد الفكر السائد في عصره وقام بأكبر انقلاب فلسفي وعلمي على الفلسفة السكولائية السائدة… ولكنه لم يتطرق إلى الدين أبدا. بل وحلف بأغلظ الأيمان بأنه مؤمن حقيقي. لقد نقد ديكارت نظريات أرسطو وبطليموس عن تشكل الكون والظواهر الطبيعية ولكنه لم يتعرض للعقائد المسيحية على الإطلاق. وقد كان يخشى ذلك أشد الخشية خوفا على نفسه من المعاقبة الصارمة للكنيسة ورجالاتها الأشداء. ولكن كل هذا الحذر الشديد لم ينفعه شيئا. فقد أصبح مؤكدا الآن أنه مات قتلا على يد الكاهن الكاثوليكي الأصولي المتعصب فرانسوا فيوغيه[1]… لقد دس له السم في القربان المقدس!
أما فلاسفة التنوير الذين جاؤوا بعده بمائة سنة على الأقل فإنّهم ساروا بمنهجية الشك الفلسفي التي دشنها خطوة إضافية إلى الأمام. وهذا يعني أن ما كان مستحيلا في عصره أصبح ممكنا في عصرهم. فقد استخدموا منهجيته العقلانية لنقد التراث المسيحي ذاته. وهنا تكمن الطفرة النوعية الكبرى في تاريخ الفكر الأوروبي. هنا يكمن الفرق بين عصر ديكارت، أي القرن السابع عشر، وعصر فلاسفة التنوير، أي القرن الثامن عشر. فقد حصل تقدم في تاريخ الفكر بين كلا العصرين. وما كان مستحيلا سابقا أصبح ممكنا حاليا. ولكن هذا لا يعني أن العملية كانت سهلة أو مرت دون عقاب.
فالواقع أن فلاسفة التنوير دفعوا ثمن جرأتهم الفكرية والنقدية غاليا. فكبيرهم فولتير [2]عاش ثلاثين عاما في الخارج وهو ممنوع من زيارة مسقط رأسه: باريس وضواحيها. ولم يعد إليها إلّا لكي يموت بعد ثلاثة أو أربعة أشهر فقط. ولكنها هبت عن بكرة أبيها لكي تستقبله وتحتفل به إلى درجة أن الملك نفسه غار منه. وبالتالي فقد أغمض عينيه وهو راض قرير العينين. وأم جان جاك روسو فقد عاش أيضا بعيدا عن جنيف بل وعن كل شيء لأنه كان ملاحقا في كل مكان طيلة النصف الثاني من حياته بسبب أفكاره السابقة لأوانها عن الدين والسياسة. وقد ظل مهددا لفترة طويلة حتى مات. واحمرت عليه الأعين أكثر من مرة، بل وكادوا أن يبطشوا به لولا أن العناية الإلهية نجته من براثنهم في آخر لحظة. ولكنه خرج من المعمعة معطوبا مزعزعا. وحتما قصرت عمره…
وأما ديدرو الذي يركز عليه المؤلف دراسته فقد تعرض للسجن في أبشع معتقل فرنسي آنذاك. وأنزلوه إلى الطبقات السفلية المظلمة لكي يستجوبوه ويكسروا مقاومته. ولولا تدخل بعض الشخصيات الهامة لربما مات في السجن. وكل ذلك بسبب بعض الكتابات النقدية التي نشرها والتي أعلن فيها عدم إيمانه بالأصولية المسيحية. بل وعبر فيها عن أفكاره العقلانية الجريئة التي تنقض العقائد الخرافية والمعجزات الواردة في كتب المسيحيين التقليديين. ثم يردف المؤلف قائلا: وبعد تجربة السجن هذه أصبح ديدرو أكثر حذرا، ولم يعد يعبر عن أفكاره بنفس الصراحة والوضوح. وإنما أصبح يستخدم الأسلوب الملغز المبطن والرموز والمسرح والقصة في كتاباته. وكثيرا ما كان يضع هذا الكلام المرموز المقنّع على ألسنة الآخرين لكيلا يتحمل مسؤوليته.
وبالتالي فقد أصبح مناورا من الطراز الأول بسبب اختلال موازين القوى بين جماهير الأصوليين الحاشدة، وجمهور الطبقة النخبوية المستنيرة القليلة العدد والحيلة. ولذا راح يتبع أسلوبا جديدا أو فنا مختلفا في الكتابة الفلسفية لكي ينجو بجلده من سيف الرقابة المسلّط فوق رأسه. بل وراح يمتنع عن نشر مؤلفاته الأكثر جرأة. فقد أخفاها في أدراج مكتبه وأوصى بألا تنشر إلا بعد موته. وهذا ما فعله سبينوزا قبله وهيغل بعده وآخرون عديدون. وبالتالي فنصف مؤلفات هذا الفيلسوف الكبير لم تكن معروفة في حياته. ولهذا السبب فإنه لم ينل الشهرة التي يستحقها إلا بعد وفاته بزمن طويل وبعد أن أصبح نشر جميع كتبه ممكنا. ديدرو لم يشتهر فعلا إلّا في القرن التاسع عشر على عكس روسو وفولتير اللذين طبقت شهرتهما الآفاق في عصرهما.
ويقال بأنّه عندما كان يكتب مؤلفاته كان يلقي من خلال النافذة (ومن وقت لآخر) نظرة على الخارج لكي يرى فيما إذا كان البوليس قادما لاعتقاله أم لا. وهكذا عاش في جو من القلق والخوف كبقية فلاسفة التنوير. بل إن مشروعه الكبير المتمثل بالموسوعة العلمية والفلسفية الشهيرة اضطر إلى التوقف عدة مرات بسبب اعتراض اليسوعيين، أي الإخوان المسيحيين، عليه. فقد طلبوا من السلطات إصدار قانون بمنع نشر هذا المشروع الفكري الذي يفكك التراث المسيحي في نظرهم أو يوجه له انتقادات لاذعة. وهي انتقادات صريحة أحيانا وملغزة أو مضمرة أحيانا أخرى كما ذكرنا. والواقع أن رجال الدّين المسيحيين كانوا غاضبين عليه غضبا شديدا. بل وكانوا يعتبرونه مارقا زنديقا أو ماديا ملحدا. ويقال بأن أخاهـ وهو رجل دين. كان يرفض أن يسلّم عليه أو يضع يده في يده لكيلا ينجّسه!
فإذا كان أخوه الشقيق (أوليفييه ديدرو) يرفض السلام عليه فما بالك بالآخرين؟ وعلى الرغم من كل هذه العراقيل فإن مشروع الموسوعة الفلسفية لقي نجاحا منقطع النظير في ذلك العصر. وأصبح ديدرو يشكل قوة ثقافية يحسب لها الحساب. واستطاع أن يقيم علاقات مع بعض الشخصيات الأرستقراطية الكبيرة لكي تحميه. ولولا ذلك لما تجرأ على مواصلة المشروع مدة عشرين سنة متواصلة على الرغم من كل العراقيل والصعاب والتهديدات.
ويمكن القول بأن مقدمة الموسوعة كانت تمثل المانيفست الفكري الأعظم لكل عصر التنوير. وقد ساعده على كتابتها صديق عمره ومعاونه الأساسي: دالامبير. وفيها يقولان ما معناه: "إنّ المنهجية العقلانية التجريبية هي وحدها القادرة على إيصالنا إلى المعرفة الصحيحة والدقيقة بظواهر العالم والكون. وبالتالي فينبغي أن نتخلى عن كل الأفكار القديمة والخرافات البالية والتصورات الغيبية التي ورثناها عن الماضي ونتبنى الأفكار الجديدة. المستقبل للعلم وليس للجهل.
ثم أردف المانيفست يقول ما معناه: إن عصرنا هو عصر العلم والفلسفة، إنه عصر جون لوك ورينيه ديكارت وغاليليو وبقية العلماء الذي غيروا تصوراتنا عن العالم والكون. ولم تنتشر المعرفة العلمية في عصر ما كما انتشرت في عصرنا الحالي، وبالتالي فينبغي أن نقدم للناس هذه المعرفة في قاموس كبير أو موسوعة ضخمة لكي تشمل كل الاختصاصات والمجالات: من فيزيائية، ورياضية، وسياسية، وفلسفية، ودينية، وتكنولوجية، وسواها. كل المعرفة البشرية ينبغي أن تصل إلى الفرنسيين من خلال هذه الموسوعة التي سيشارك فيها عشرات وربما مئات من مفكري عصرنا". انتهى كلام المانيفست.
على هذا النحو دشن ديدرو عصرا معرفيا جديدا في تاريخ فرنسا، ويمكن القول بأن نهضة الفرنسيين أو تنوير عقولهم ناتج إلى حدّ كبير عن ذلك المشروع الفلسفي الكبير. ولكن كما قلنا كان إلى جانب ديدرو مفكر كبير آخر هو دالامبير. وهو من أكبر علماء الرياضيات والفلاسفة في عصره. وقد تعاون معهما على كتابة مواد الموسوعة الضخمة عشرات وربما مئات الباحثين والمفكرين في شتى الاختصاصات. ففولتير كتب فيها، وكذلك جان جاك روسو، ومعظم علماء ذلك الزمان. فالموسوعة لا يكتبها شخص واحد وإنما جيش من الباحثين. من سيؤلف الموسوعة العربية التنويرية في هذا العصر؟
من جهته يرى جاك أتالي أن هذا المشروع الفلسفي الضخم أدى ليس فقط إلى تنوير فرنسا وإنما أيضا أوروبا والعالم كله. فالثورة الفرنسية التي أصبحت منارة لكل الشعوب ما هي إلا ترجمته السياسية على أرض الواقع. فديدرو هو الذي بلور مفهوم حقوق الإنسان لأول مرة في رأي أتالي. وهو الذي فكر بالثورة كحقيقة حتمية قبل أن تندلع. بل وهدد الملك لويس السادس عشر شخصيا قائلا له: "إذا لم تكن قادرا على تلبية مطالب الشعب فسوف يشطرك إلى شطرين"! وهذا ما حصل للمسكين بعد عشرين سنة فقط إذ قطعوا رأسه تحت المقصلة الشهيرة. وبالتالي فكانت عبارته تنبؤية. لقد رأى بأم عينيه كيف يموت عالم بأسره وينهض على أنقاضه عالم آخر جديد. رأى ذلك حتى قبل أن يحصل الزلزال الكبير، أي الثورة الفرنسية، لأنّه مات قبل اندلاعها بخمس سنوات فقط. وهو الذي تحدث عن وحدة الجنس البشري قائلا بأنه لا يوجد شيء اسمه عرق أعلى وعرق أدنى. وأدان بذلك الطائفية والعنصرية والاستعمار والمتاجرة بالسود كعبيد. وبالتالي فهو معاصر لنا في الواقع ولا يمكن حصره في عصره فقط. لقد كانت الموسوعة التي دشنها وأفنى عمره فيها هي الدعامة الكبرى لكل الثورة الفلسفية والسياسية والاقتصادية التي عمت أوروبا. لقد كانت المدشن الأساسي للربيع الأوروبي كله وليس فقط الفرنسي. وهكذا نلمس لمس اليد كيف أن التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي ويمهد له الطريق. لهذا السبب بالذات لم يتحول الربيع الفرنسي إلى خريف أصولي![3]
فكيف تبلور هذا المشروع الفلسفي الكبير يا ترى؟ على هذا السؤال يجيب ريمون تروسون قائلا: في البداية كان ديدرو وزميله دالامبير يريدان ترجمة الموسوعة الإنجليزية لكي يطلع القارئ الفرنسي على آخر مستجدات المعرفة في عصره. ومعلوم أن إنجلترا كانت قد سبقت فرنسا إلى النهوض العلمي والصناعي والسياسي. وكانت تمتلك موسوعة «شامبر» المشهورة التي ألفت باللغة الإنجليزية بين عامي 1728 ـ 1742. وكانت تشتمل على مختلف المعارف والعلوم.
ولكن ديدرو، بعد تأملات طويلة ومناقشات عميقة، استقر رأيه على كتابة موسوعة جديدة لا على ترجمة الموسوعة الإنجليزية حرفيا. وكان يهدف من ورائها إلى استعراض كل مكتسبات الروح البشرية ـ أو الفكر البشري ـ في مجال العلوم والصناعات والحرف على مدار القرون الماضية. كان يهدف إلى تغيير العقلية الفرنسية عن طريق تشجيع الفكر الجديد ونشر الأنوار الفلسفية في مملكة الاستبداد والأصولية الظلامية. فالفرنسيون في ذلك العصر كانوا جهلة منغلقين على العلم والفلسفة ومحدودي الأفق على عكس الإنكليز. وهذا ما لمسه فولتير لمس اليد عندما زار لندن وأقام فيها مطولا. ومعظمهم – أي الفرنسيين- كانوا فلاحين وأميين يعاملون كالعبيد تقريبا من قبل النبلاء الإقطاعيين. ولذلك فكر هذا الفيلسوف الكبير بتنويرهم وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم. ولكن ذلك لا يمكن أن يتحقق بدون أن يقدم لهم معرفة جديدة غير المعرفة الكنسية السائدة: أي المعرفة التي يتلقونها عن طريق الرهبان والمطارنة من المهد إلى اللحد. وهي معرفة دينية في معظمها ولا تولي أهمية تذكر للعلوم الحديثة. كان الكهنة المسيحيون مسيطرين آنذاك على عقول الجماهير الفرنسية مثل شيوخ الفضائيات عندنا الآن.
وبالتالي فالموسوعة كانت موجهة عمليا إلى النخبة التي تحسن القراءة والكتابة وتحب إشباع فضولها المعرفي وتمتلك النقود الكافية لشراء الكتب. كل هذه المعطيات ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار إذا ما أردنا أن نفهم الجو العام الذي كان سائدا آنذاك. هذا وقد أوضح ديدرو مقاصده منذ البداية عن طريق افتتاحية العدد الأول قائلا: "إن هدفنا من هذه الموسوعة هو جمع كل المعارف التي حققتها البشرية في مختلف العلوم طيلة العصور السابقة. كما ونهدف إلى نقد التعصب الديني الأعمى وكذلك التعصب السياسي أو بالأحرى الاستبداد السياسي، هذا بالإضافة إلى الإشادة بالروح النقدية للعقل وحرية الفكر. ففرنسا بحاجة إلى أن تتنفس بحرية، إلى أن تتقن الروح النقدية الإبداعية".
هكذا نلاحظ أن هدف المشروع هو محاربة الأصولية المسيحية المهيمنة على العقول منذ قرون عديدة. وهذه الهيمنة الطاغية هي التي تؤدي إلى انتشار التعصب والعقلية الظلامية في أوساط المجتمع وبخاصة في الأوساط الشعبية. وكان ديدرو يهدف إلى تفحُّص كل العقائد بدون أي مجاملة أو مراعاة. فكل شيء ينبغي أن يخضع لسلاح النقد ومنظار العقل بما فيه عقائد الدين المسيحي الأكثر قداسة. ولهذا السبب اصطدم الفيلسوف الكبير برجال الدين فحاولوا عرقلة مشروعه بل وأوقفوه أكثر من مرة قبل أن يعود إلى مواصلة العمل من جديد. ويقال بأنّه أصيب بقرحة في معدته من كثرة المناوشات والتهديدات.
وبالتالي فحول الموسوعة الشهيرة دارت المعارك الفكرية والحروب بين شقي فرنسا: الشق الفلسفي العلماني الصاعد، والشق المسيحي اللاهوتي المهيمن تاريخيا. وهكذا اشتبك الأصوليون المسيحيون مع الفلاسفة العلمانيين بكل ضراوة وشراسة. هذا وقد صدر الجزء الأول من الموسوعة عام 1751: أي في منتصف القرن الثامن عشر بالضبط. وأرسلت نسخة إلى المشتركين الذين ينتمون إلى الطبقات العليا من المجتمع: ككبار الأرستقراطيين، وعلماء الكنيسة المستنيرين والبرلمانيين وسواهم ممن يحبون المطالعة وقراءة الكتب. وكان عدد النسخ المطبوعة منه ألفين (2000).
وفي مقالة بعنوان: السلطة السياسية أو بالأحرى المشروعية السياسية، راح ديدرو يهاجم أكبر شخصية مسيحية في فرنسا: بوسّويه. ومعلوم أنه عاش في القرن السابع عشر وكان مضادا للفلسفة الديكارتية وكل العلم الحديث بشكل عام. ومعلوم أيضا أنه كان مربيا لولي العهد. لقد هاجمه ديدرو لأنه كان يمثل قلعة الفكر الرجعي الفرنسي ولأنه كان يقول بأن ملوك فرنسا يتمتعون بحق إلهي وبالتالي فمشروعيتهم ليست آتية من الشعب وإنما نازلة عليهم من السماء. وهذا يذكرنا بالتخبط الجاري حاليا عندنا بين الحاكمية السنية وولاية الفقيه الشيعية. كل ما مروا به وعاركوه قبل ثلاثمائة سنة نمر به نحن الآن. وهي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبينهم. أعرف بأن هذا الكلام سوف يزعج الكثيرين من المكابرين. ولكن لا بد من قول الحقائق بوضوح. ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه.
وبالطبع فإن هجوم ديدرو على هذه الشخصية الضخمة (بوسّويه) أثار حفيظة الأصوليين المسيحيين ورجال البلاط الملكي. ولكن ديدرو تلقى دعماً كبيراً من قبل شخصيات أرستقراطية مستنيرة ورفيعة «كمالزريب» وزير الثقافة في ذلك الزمان، وكمونتسكيو، وفولتير، وسواهم.
هذا وقد شهدت الموسوعة نجاحا أوروبيا وليس فقط فرنسيا كما ذكرنا. فقد تم توزيعها في سويسرا، وإيطاليا، وإنجلترا، وروسيا. ولكن صدور الجزء الثاني من الموسوعة أثار فضيحة كبيرة في أوساط الأصوليين ورجال البلاط الملكي. فتمت مصادرته فورا وأصبح ديدرو مهددا بالخطر. فراح يتوارى عن الأنظار لكيلا يبطشوا به. وعندئذ اقترح عليه فولتير أن ينقل المشروع إلى برلين لكي يكتمل في ظل المستبد المستنير فريديريك الكبير. ولكنه رفض بسبب ظروفه العائلية وأشياء أخرى… المهم اقرؤوا قصة حياة هذا الفيلسوف الكبير اذا كنتم تعرفون الفرنسية فإنها ممتعة جدا. وسوف تعزيكم عن الوضع الحرج للعرب حاليا. وربما صرختم قائلين: ما أشبه الليلة بالبارحة! أخيرا ينبغي التنبيه إلى أن ريمون تروسون يربط بشكل وثيق بين مؤلفات ديدرو والمراحل المتعاقبة لحياته ويحللها تحليلا دقيقا مرحلة بعد مرحلة بشكل متطور ومتصاعد منذ البداية وحتى النهاية. وهكذا نعرف تماما وبدقة ما علاقة مؤلفاته بحلقات حياته المتعاقبة. كما ونتعرف على تطور فكره مرحلة بعد مرحلة وكيف نضج حتى بلغ ذروته. وهذا عمل جبار لا يقدر عليه إلا الاختصاصيون الكبار. وهنا تكمن ميزته على كتاب جاك أتالي. ولكن أتالي يقرأ ديدرو على ضوء عصرنا نحن وليس فقط على ضوء عصره هو. وهنا تكمن ميزته على كتاب تروسون. وبالتالي فهما يكملان بعضهما البعض. بقي أن أقول بأن حياة ديدرو لم تكن كلها عذابا وملاحقات خلافا لجان جاك روسو. على العكس لقد عاش بشكل بورجوازي مريح واستمتع بالحياة، بل وغطس في الحب والخيانة الزوجية من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. وكتب رسائل غرامية ملتهبة إلى صوفي فولان. وهي رسائل لا تزال تُقرأ حتى الآن. وهكذا قسم حياته إلى قسمين منفصلين تماما: الزوجة القديمة للغسل والطبخ والنفخ، والعشيقة الحلوة للساعات الترفيهية بعد الظهر. سامحونا!
(الأوان)
أحسب أن هيئة تحرير موقع بقجة أحسنت كثيرا بنشرها هذه المقالة ، بغض النظر عن الموقف من المضمون وأسلوب الكاتب المعروف هشام صالح وموقع الأوان هو من خيرة المواقع العربية الفكرية البحثية والمدققة . شكرا لموقع بقجة . ابراهيم مالك