آش وجان يتفقان أكثر
تاريخ النشر: 17/01/13 | 9:22جان هو ايضا شاب فليمي، يقطن، هو الآخر، في نفس العمارة في شارع المدينة، شاب نحيف، ذو عينين خضراوين صغيرتين وشعر كستنائي اللون أشعث. كان جان مقربا من كريستيان بحكم الانتماء القومي. الا انه كان يختلف عنه، ولم اسمع منه طوال مدة معرفتي به، تصريحات عنصرية كتلك التي سمعتها من كريستيان وابنه. منظره متوتر، ويبدو لمن ينظر اليه وكأن هموم الدنيا كلها تجمعت فوق رأسه.
كان جان موسيقيا، يجيد العزف على عدة آلات، وكان طموحه ان يكون مؤلفا موسيقيا. إلا انه اضطر للعمل في مكتبة الجامعة في مدينة غنت، وهي بالاساس مدينة فليمية. كان جان يشعر بالاغتراب في عمله هذا، إلا ان للضرورة احكام. وكان دائما ما يعبر عن رغبته، او قل امنيته، في ان يتفرغ للتاليف الموسيقي.
دخل آش غرفة جان ذات مساء، اذ دعاه هذا الاخير لشرب القهوة، بعد ان ابدى آش اهتمامه بالمويسيقى. كانت الغرفة مرتبة بشكل فوضوي، زوايا وبقع فيها مجموعات من الاشياء المكدسة، بترتيب يعرفه جان وحده. كان جان يستمع الى نوع من المويسيقى يجمع ما بين الكلاسيكية والحداثة، نوع لم يستسغه آش، الا انه ومن باب الادب لم يطلب تبديل القرص المدمج.
جلس آش على كنبة صغيرة في وسط الغرفة، بعد ان نقل جان ما كان مكدسا فوقها من أشياء، ليفسح له مكانا للجلوس. سأله وهو متوجه نحو المطبخ لتحضير القهوة:
هل تود الاستماع الى ما ألفته من موسيقى لاحد الافلام؟
بكل سرور، اجابه آش.
بعد دقائق، عاد جان الى الغرفة حاملا كوبين من القهوة وضعهما على حافة طاولة صغيرة، وتوجه مباشرة الى احد الرفوف المليئة بالأقراص المدمجة، تناول من بينها واحدا، وفتح غطاءه البلاستيكي وفي عينيه بريق يدمج ما بين الفخر والتواضع في آن:
"هذا ليس بالمقطع الطويل. وأنا احلم بتأليف ما هو أجود منه."
كان المقطع قصيرا، لم يتعد طوله ثلاث دقائق، ولم يجده آش مميزا، إلا ان جان، استمع اليه بتعابير تنم عن الرضى.
بعد لحظات من الصمت، أكمل آش حديثه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة تدل على الرضى، قال:
لقد وجدت بجان انسانا أقرب الي، كان لديه رغبة صادقة في ان يبدع وكان اقرب الى النظر الفلسفي مما كان عليه كريستيان. كان به من السماحة ما يكفي لكي ينصت، ونوع من الاستعداد لقبول امكانية كونه على خطأ وغيره على صواب.
جلست معه ذات مساء، في ساحة السوق الكبرى، وهي مكان يؤمه السواح اللذين يزورون بريسل، محاط ببنايات عالية قديمة، لكل منها رونقها الخاص بها من حيث عمرانها وألوانها. وعلى كل واحدة منها نقش باسلوب مختلف، تاريخ ينائها.
فيما مضى، كانت لكل بناية وظيفنها، فهذه مقر حرفيي الذهب، ونلك لمصنعي الجلود، وأخرى للتجار، وغيرها من المهن. الا ان استعمالها اليوم قد تغير، واحدة تستعمل كدار البلدية، واخرى متحفا، وما يجمعها هو هذه الحانات والمطاعم التقليدية الراقية بتصميماتها التي تؤلف ما بين الخشب والزجاج الملون. وفي صيف كل عام، تبادر البلدية الى انتاج لوحة فنية تغطي غالبية ارض الساحة الكبيرة بين البنايات، تتشكل كلها من الازهار والورود. حدث سنوي يجتذب عشرات الآلاف من السواح والزوار.
بادرني جان، واصل آش حديثه، سائلا:
متى أستطيع الحصول على نسخة للشريط الذي سمعته عندك من غناء ديني؟
قلت له مبتسما: لم يكن غناء وإنما ترتيل للقرآن المقدس. وكان جان في زيارة لشقة آش، وجده يستمع الى الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في تلاوة لقصار السور.
قال بنبرة تنم عن عصبية، وكأني بتدقيقي هذا قد أعرض أفكاره للتشتت: "نعم، نعم. هو ما تقول. لكن بعد استماعي اليه، راودتني فكرة قد أنجح في تحقيقها."
سألت: وما هي هذه الفكرة؟
قال: لقد أسسنا كل موسيقانا الكلاسيكية من وراء التراتيل الدينية في الكنيسة. وخطر ببالي انني قد أستقي بعض الالحان الجديدة من وراء ما سمعته عندك.
يتبع …… آش يكتشف قصر لبنان