النقدُ الأدبيّ فنٌّ ونزاهةٌ وذوق
تاريخ النشر: 18/01/13 | 12:22
انّ النقد البنّاء بشكل عام ، هو فنٌّ وأي فنّ ،ينمّ عن اطّلاع وسيع لصاحبه في أمور شتّى ، وعن سعة أفق وكفاءة وجدارة ونزاهة، بحيث يأتي النقد مُقْنِعًا، مدعومًا بالإثباتات والحجج مع توخي المصلحة العامّة لا الخاصّة الضيّقة .
وقديما كان الناقد يحتل مركزًا محترمًا في المجتمع فيسلخ عليه لقب الحكيم والمُجرّب والحجة في الشيء والخبير وما إليه.
لقد كان النقد دومًا دِعامة ترفع شأن الأديب وتُبرزه وتقوّم مساره وكلّنا يذكر الكاتب الساخر برنارد شو كيف انه كان ينشر قصة ، ثمّ يقوم بنقدها في الأسبوع الثاني وفي نفس الصحيفة وتحت اسم مُستعار ، فيهاجمها ويُبيّن نقاط ضعفها ، ليعود في أسبوع آخر وتحت اسم مستعار آخر ليردّ على الناقد داحضًا نقده ، مُظهرًا الجوانب الجماليّة الأخّاذة في القصة أو المقالة .
هذا الكاتب المبدع جعل القرّاء يتابعون القصة والنقد والنقد المُضادّ، ممّا رفع من شأن برنارد شو في بداية طريقه ، رغم انّه كاتب مطبوع حقًّا ، وكان سيصل الى مصاف الأدباء العالميين حتّى لو انّه لم يستعمل هذا الأسلوب الإبداعيّ الظريف .
في أدبنا العربي كوكبة لا بأس بها من النُّقّاد صالوا وجالوا صولاتٍ وجولاتٍ ، وكان لهم الفضل الكبير في تصحيح مسار الكثير من الأدباء ، ولعلّ اشهرهم الدكتور محمد مندور ، ايليا حاوي ، حسين مروّة ،ميخائيل نعيمة ، مارون عبّود والعقّاد وغيرهم .
هذه الكوكبة تركت بصماتها جليّة واضحة ًفي حقل الادب العربي ،فجاء الحصاد كثير القمح قليل الزؤان ، فلم يحابوا احدًا ولم يتزلّفوا لقريبٍ، بل كان نقدهم احيانًا هامسًا رقيقًا ، وأحيانًا عاصفًا كما الحزّ في اللّحم الحيّ، حتى ان احدهم قالَ : " ان هناك بعض الأورام في جسم بعض النصوص علينا ان نقطعها".
اما في أدبنا المحليّ –وهنا بيت القصيد –فإنّنا والحقّ يُقال يتامى فانك لن تجد ناقدًا فذًّا حتّى ولو فتشّت بفانوس ديوجين ليلاً ونهارًا.
قد اكونُ مُغاليًا وظالمًا ، ولكن هذا هو الواقع المرير ، فالنُّقّاد المحليون قِلّة ،وحتى هذه القِلّة المقبولة نوعًا ما ليست على اطلاع وسيع على حقول الادب وسنابله.
كما انها ليست في مستوى النزاهة السامية ، فترى البعض يكيل المديح لفلان من الشعراء لانه ابن ملّته وابن بلدته او كان زميلاً له على مقاعد الدراسة ، فيروح يغدق علية المزايا الإلهية ويهيل عليه الثناء اللامُتناهي ، فكلّ نصٍّ كتبه هو خالدٌ سرمديّ ، يستحق ان يُسجّل بماء الذهب على أطراف السماء ، أمّا أدب غيره فهو فجٌّ وحِصرم .
من الخطأ بل من الجريمة التجنّي هكذا وبجرّة قلم، فنروح نشطب فلانًا او فلانة من قاموس الادب والشعر ، ونروح بجرّة قلم أخرى نتوّج فلانًا امبراطورًا لا يُشَقُّ له غبار , في حين اننا لم نقرأ الأدب بما فيه الكفاية , ولم نسافر في فيافي ورياض القصائد العالمية والعربية حُفاة مكشوفي الرؤوس !!
من ناحيةٍ أخرى جميل ان يعترف احدنا نحن معشر الأدباء،بالأخطاء وبضعف نصّ ما أو عدم نضوج فترة أدبية ما من حياتنا ، فالعُظماء نهجوا هذا النهج . وهنا يحضرني ما صرّحَ به فيلسوف المهجريين جبران حين ندِمَ قبل صدور النبيّ على كلّ ما خطّه قلمه ، وقال بما معناه : "لو عُدت الى شبابي لاحتفظتُ بكلّ النِقاط وجمّعتها وأطلقتها شلّالاً واحدًا يجرف كلّ الأدران" .
وبالفعل اصدر جبران بعد ذالك كتاب "النبيّ "الذي رفعه الى مستوى العالمية ، رغم ان جبران في كلّ كتبه من كتاب الموسيقى وحتّى النبيّ كان مقدامًا ، مُبدِعًا ، فيه حِسُّ الشرق وروحانيته الى جانب جبروت الغرب وصناعته.
جميل ان ننتقد ، ولكن بعد ارتواء وشبعٍ من شجرة الحياة الادبيّة، وبعد ان نلفظ العائلية والطائفية والصداقة جانبًا، فلا يصِحّ ان نُصفّق لشاعر ما وقد كتب عن " القعّادة " ونروح نصوّبُ سهامنا نحو شاعرٍ أجادَ في موضوعٍ يقُضُّ مضجع العالم والإنسانية .
وأخيرًا لعلّ كلمة النقد تحمل من خلال لفظها ايضًا معنى اللسع والهمز والغمز ،ولكنها يجب ان تبقى هامسةً ، رفيقةً ، فيها عنصر الأبوّة ، وما اظنّ أنَّ الأب يقصد من وراء نقده لبنيه سوى الإصلاح والإصلاح والنجاح .