المثقف وتقدير الذات
تاريخ النشر: 24/01/13 | 12:28إنّ الإطلاع على إنتاج بعض المثقّفين والمفكّرين يؤدّي إلى الإعجاب بهم وتقديريهم، خاصّة إذا توفّر في ذلك الإنتاج إبداع من منظور زاوية المعالجة وجرأة النّقد ورصانة التحّليل، أو حقّق إنتاجهم الإبداعي في مجال الشّعر أو الرّواية إضافة نوعيّة مشهودا لها بالطفرة والتميّز.
ومن شأن كلّ ذلك أن يحقّق لهم وضعا اعتباريّا في مجتمعاتهم وهو الأمر الحاصل في غالب الأحيان، ويتطلّب منهم في المقابل أن يقدّروا قيمتهم ويستحضروا وضعهم الاعتباري في اللحظات التي تتطلّب منهم موقفا ينبغي أن يكون بالضّرورة منسجما مع خلفيتهم الفكريّة ومتجسّدا في رأي أو سلوك لا يناقض تلك الخلفيّة.
إلا أن الملاحظ هو أن بعض المفكّرين والمثقّفين يتصرّفون في لحظات مماثلة بصورة مناقضة للانطباع الذي ترسّخ لهم لدى الرّأي العام المتتبع لمنجزهم في مجال الفكر أو الإبداع، ويتجلى ذلك عندما يعبرون عن رأي يخص سلطة نظام قائم، أو يتقلدون مناصب معيّنة أو يحتكون مباشرة برأس النّظام أو ببعض حاشيته. والنّماذج العربيّة في هذا المجال متعدّدة، تكشف للأسف عن مفارقة بائسة بين الخطاب والممارسة، وتضع مصداقيّة المثقّف موضع تشكيك وتساؤل.
وقد شكلت حالة المفكّر عبد الله العروي أبرز نموذج في هذا الصّدد، ذلك أنّ منجزه الفكري تمحور أساسا حول الدعوة إلى الحداثة والقطيعة مع التراث وضرورة استلهام واستيعاب التجربة الليبرالية الغربيّة من أجل تجاوز التأخّر التاريخي الذي نعاني منه في المجال الجغرافي العربي، إلا أنّه طالما عبّر عمّا يناقض هذه الدّعوة على مستوى سلوكه إزاء رموز النّظام وطقوسه، أو من خلال أحاديثه وتصريحاته لأجهزة الإعلام بخصوص قضايا تتعلّق بجوهر السّلطة القائمة ومضمونها. فهو الدّاعي إلى الحداثة لم يستطع أن يعبّر عن رفضه حضور الدّروس "الحسنية" في شهر رمضان التي كانت تلقى في عهد العاهل المغربي الرّاحل الحسن الثّاني بالرّغم من المضمون العتيق لتلك الدّروس الغارقة في التّقليد والمناهضة تماما للحداثة سواء في بعدها السّياسي أو الثقافي، وأكثر من ذلك، كان يحضر تلك الدّروس وهو مرتديا الجلباب والطربوش المخزني، الذي يعي تماما وظيفته السميولوجية المكرّسة لبعدي التّقليد والمحافظة.
ولم يكن يتوانى في إبراز خضوعه لطقس تقبيل اليد عندما يريد السّلام على العاهل الرّاحل، بحيث تنمحي قيمته أمام ذاته كمفكّر ومنظّر ولا تحضر في تلك اللّحظة إلا قيمة الجالس على عرش السّلطة. وأمّا رأيه في التّعديلات الدستوريّة التي جرت في تلك المرحلة، فيعبر عن نوع من التّبرير المكرّس للواقع القائم دون امتلاك الشّجاعة اللازمة للتّعبير عن رأي منسجم مع خلفيته الفكريّة المعروفة.أضف إلى ذلك مساهمته في كتاب جماعي يمجّد تلك المرحلة من بين كتّابه المزعومين وزير داخليّة تلك الفترة الاستبداديّة القاتمة.
وقد عاب عليه المفكّر الرّاحل محمد عابد الجابري في إحدى حواراته الصحفيّة اندماجه في دواليب السّلطة القائمة، وهو ما أثر بشكل سلبي على استقلاليته وآرائه بخصوص تلك السّلطة.
وهناك مثقف آخر لا يزال يتقلد لحدّ الآن منصبا وزاريّا منذ عشر سنوات يهم قطاع الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتشكل حالته نموذج المثقف الذي يضحي بالحقيقة التاريخيّة والعلميّة من أجل تبرير السّلطة القائمة وكيل المديح لها في خضوع مهين وتضاؤل مخجل تتقزم بسببه الذات إلى حدّ الانمحاء التام، خاصة عندما يكون على قرب من رأس السلطة حيث يشاهد مرتبكا وخائفا ومتماديا في تقبيل يده ومنحنيا وهو يتحدّث إليه بعبارات من قاموس الخضوع والانبطاح من قبيل " نعم سيدي أعزكم الله" أو "الله يبارك في عمر سيدي" وغيرها من العبارات المستقاة من معجم الآداب السلطانية.
ولم يتردّد صاحبنا في إحدى دروسه أمام العاهل المغربي من تأكيد أنّ البيعة كما تجري طقوسها في المغرب تماثل جوهر العقد الاجتماعي الذي بلوره جان جاك روسو دون أن يحمر وجهه خجلا من هذه المقارنة التي تكشف عن مدى السقوط والاندحار الذي يؤول إليه بعض "المثقفين" حفاظا على منصب يتعسفون في سبيله على كرامتهم ويتحمّلون ألوانا من الامتهان والإذلال.
ولم يتردّد أحد المثقفين المغاربة من إضافة لقب "العلوي" إلى اسمه بمجرّد تقلده منصبا بإحدى الجمعيات التّابعة للسّلطة، بعد أن كان يورد اسمه الشخصي خاليا من ذلك اللقب الذي يشير إلى قرابة دم مع السلالة الحاكمة، حينما كان قريبا في مرحلة ما من المعارضة على الأقل في الجانب الفكري والثقافي، وكان تخليه عن ذلك اللقب يعبر عن موقف من السّلطة إلى أن تمّ استقطابه، فلم يسمع منه من بعد أي رأي نقدي يخص تدبيرها للشأن العام.
وهذا في الواقع يعبر عن ضعف بارز إزاء السلطة القائمة وعن هشاشة واضحة في الموقف منها. وقد كان قبول الناقد المصري المعروف جابر عصفور منصبا وزاريا في آخر لحظات نظام حسني مبارك، نموذجا آخر عن ضعف المثقف إزاء السلطة، حتّى وأن كانت قد فقدت كل شرعيتها بسبب نزيف الدّماء الذي تسببت فيه عندما أرادت قمع الثورة الهادرة دون جدوى.
لقد كان النظام يترنح بفعل المظاهرات الجماهيرية الصاخبة على طول البلاد وعرضها والتي كانت تطالب بإسقاطه، والغريب أن جابر عصفور فضّل أن يساهم في تقديم طوق النّجاة للنّظام، وهو الذي طالما كانت له مواقف تقدميّة تنحاز إلى قضايا الجماهير، وقد انعكس ذلك في مؤلفاته وترجماته العديدة التي تؤّشر على تبنيه لقضايا التغيير والتقدم والعدالة الاجتماعية. لقد شكل قبوله ذلك المنصب صدمة حقيقية لكل من كان يعرف قيمته ووزنه، وقد بقي تأثير تلك الصّدمة قائما حتى بعد تقديمه استقالته من المنصب المذكور بعد أيّام من قبوله. ليس مطلوبا من المثقّف أن يكون بالضّرورة مناضلا أو معارضا شرسا للسلطة، ولكن مطلوب منه أن يحافظ على دوره التّنويري والنّقدي، وأن يعرف كيف يقيم على مسافة معقولة من السلطة، تجنبه الوقوع في أفخاخها الرّامية إلى توظيف مكانته ورمزيته في إضفاء شرعيّة على سياساتها وقراراتها.
ومطلوب منه قبل ذلك أن يحافظ على كرامته ومصداقيته ويقدر ذاته، وأن لا يقع فيما يناقض خلفيته الفكرية الحداثية، سواء على مستوى القول أو الفعل، والقول أو الفعل، وإلا فقد صفته كمثقّف، وفقد بالتاّلي جدارته.
عن الأوان