تدبر القرآن ووعي معانيه
تاريخ النشر: 20/05/15 | 9:45إنّ قضية وعي القرآن وفهمه واستيعاب دلالاته ومعانيه، هي قضية من أهم قضايا التعامل مع القرآن وفهم الرِّسالة، وبناء السلوك والحياة وإكتشاف آفاقه ومحتوى أعماقه البعيدة. وعندما يغيب دور العقل، ويسيطر الجمود والتحجّر، وتغلق العقول، فلا يمكن إكتشاف معاني القرآن وفهم محتواه، لذا يذمّ القرآن أولئك الذين وضعوا الأقفال على عقولهم، ولم يفكِّروا في دلالات الآيات ولم يتدبّروا معانيها، جاء ذلك في قوله تعالى: (أفَلا يَتَدبَّرُونَ القُرآن أمْ على قُلوبٍ أقفالُها).
ومَن يستقرئ القرآن، يرى أنّ خطابه موجّه للعقل، دعوة للتفكّر والفهم والوعي.. وإستخدام العقل في فهم القرآن وإكتشاف معانيه.. هو ما حثّ عليه القرآن ودعا إليه في العديد من آياته؛ مثل:
(قَد بَيَّنّا لَكُم الآياتِ لَعَلّكُم تَعقِلُون).(الحديد/17)
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).(يونس/24)
حين نزل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164).
حين نزلت هذه الآية، قرأها رسول الله (ص) على المسلمين، قال: “ويلٌ لِمَن لاكها بين لحييه ثمّ لم يتدبّرها”.
وإذاً، لكي نفهم القرآن، لابدّ من أن نتعامل بالعقل والوعي والتدبّر، ويُحذِّر القرآن عن قفل العقل وغفلته عمّا حمل هذا الكتاب للناس من حقائق وعلوم ومعارف وهداية وصلاح وتشريع وقيم إنسانيّة سامية، ويتحدّث القرآن عن غياب التدبّر والوعي العملي وفهم الدلائل والآيات الطبيعية والحياتية والإجتماعية حتى كأنّ الإنسان لم يرها لأنّه لا يُفكِّر فيها، ولا يستوعب الدروس والعِبَر منها، لذلك يُندِّد القرآن بأولئك المعرضين الغافلين.
قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف/ 105).
إنّ تلاوة القرآن الكريم من غير تدبّر ولا وعي، لا تُعطي أهدافها العلميّة والتربوية والإيمانيّة.
لنقرأ كلّ آيات تحريم الخمر كوحدة موضوعية ولنتدبّر فيها، ولندرس الأضرار الصحية والأمنية والإجتماعية والمالية… إلخ، لنعرف لماذا حرّم الله الخمر.
لنقرأ كل آيات الرِّبا في وحدتها الموضوعية ولنتدبّر فيها؛ ولندرس الآيات المدمِّرة للرِّبا وإنعكاساتها على الإقتصاد والحياة المعاشيّة، ولنعرف لماذا حرّم الله الرِّبا.
لنقرأ كلّ الآيات التي تحدّثت عن المال كوحدة موضوعية، لنعرف فلسفة المال وقيمة المال، وكيف نحصل على المال، وكيف ننفقه، ولنعي أخطار تجميد المال واكتنازه وأخطار الفقر والحرمان على الحياة بأسرها الإجتماعية والسياسية والسلوكية والأمنية..
لنقرأ كل الآيات التي تحدّثت عن الإسراف والتبذير، ونتأمّل في أخطارها وأضرارها، لندرك الحكمة من التحريم..
لنقرأ كل الآيات التي تحدّثت عن المرأة والزواج والأسرة والعلاقة الزوجية بوعي وتحليل وفهم، ولنعرف مكانة المرأة وأهمية الأسرة وحقوق الزوج والأبناء، ولنعي الحكمة في كل تشريع ومفهوم ثبّته القرآن في هذا المجال.
لنقرأ الآيات التي تحدّثت عن صفات الله وأسمائه الحُسنى.. ولنعي تجلِّياتها في الشريعة وفي تعامل الخالق مع الخلق وعلاقة المخلوقات بخالقها من خلال وعي دلالات تلك الصفات والأسماء الحُسنى.. لنعرف أنّنا نتعامل مع ربٍّ غفورٍ رحيم، عادل حكيم ودودٍ عليم، قادر على ما يُريد. عدوّ للظلم والظالمين، منتقم من الطُّغاة، فيتحدد موقفنا من الظلم والإستكبار والطغيان ونتعامل مع الخلق بالعفو والرحمة والدفاع عن المظلومين والمستضعفين.
وهكذا نتعامل مع كلّ آية وكلّ مجموعة من الآيات التي تحدّثت عن موضوع موحّد، ولعني مجمل التنزيل وأهداف القرآن ومشروعه المنقذ الرائد على هذه الأرض.
فيما يلي نستعرض أمثلة من تدبّر القرآن العقلي ووعيه وإستنتاج الأحكام والمفاهيم والقيم منه، كما وردت في بيان الرسول الكريم محمد (ص) وأئمة المسلمين.
رُوي عنه (ص) قوله: “إنّ الله – عزّوجلّ – كتبَ عليكُم الإحسان في كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليريح ذبيحته”.
إنّ الرسول الكريم (ص) بقوله هذا ينهي عن الإيذاء والتعذيب والإساءة حتى في قتل المستحق للقتل وفي الحروب أو ذبح الحيوان، فإنّ ذلك مخالف لخُلق الرحمة والإحسان التي جاء بها القرآن..
إنّ هذا البيان النبوي الكريم هو بيان لما جاء في كتاب الله تعالى من الدعوة إلى مطلق الإحسان، مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ…) (النحل/ 90).
ومثل خطابه تعالى للنبي موسى (ع): (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف/ 145).
وهذا البيان هو دعوة للتدبّر في كتاب الله وتوجيه العقل وتحريكه للتعامل مع القرآن، وإستنتاج الأحكام والمفاهيم وإستنباطها من أعماق محتواه وإرشادات دلالاته.
وعلى هذا المنهاج جرى أئمّة أهل البيت (ع) في فهم القرآن والأخذ منه، فإنّهم يؤكِّدون دوماً أنّ ما يفتون به هو صادر من كتاب الله وسنة نبيّنا الكريم محمد (ص).
روى أبان بن تغلب، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، أنّه قال: “قال: سمعتُ علي بن الحسين (ع) وهو يقول لغلمانه: لا تذبحوا حتى يطلع الفجر، فإنّ الله عزّوجلّ جعل الليل سكناً لكل شيءٍ، قال: قلت جُعلت فداك؟ فإن خفت؟ قال: إن كنت تخاف الموت فاذبح”.
وهكذا يسير الإمامان الصادق وزين العابدين (ع) في بيان هذا الحكم، وهو النهي عن ذبح الحيوان ليلاً إلاّ إذا خيفَ عليه من الموت، لأيِّ سبب كان، فهما يؤصِّلان ويستندان في ذلك إلى قوله تعالى:
(فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام/ 96).
فأّس الفقهاء على ذلك الحكم بكراهية اصطياد الطائر وأخذ بيضه ليلاً، فإنّ الليل خلقه الله سبحانه ليكون أمناً وراحة وسكناً للخلائق كلّها..
وبفهم هذه الآية، ينهى الإسلام عن ذبح الحيوان واصطياد الطائر ليلاً، فيحفظ للحيوان حقّه، ويتعامل الإمام الصادق بمنهج الوعي والتدبّر ذاته مع القرآن، فيكشف لنا عن قِيَم ومفاهيم أخلاقية ترتبط بأحكام القرض والدَّيْن، فقد رُوي عنه حوار بينه وبين أحد أصحابه الذي أخطأ الفهم في المطالبة بدَينِه فأرجعه الإمام إلى دلالات، قوله تعالى: (.. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) (الرعد/ 21).
وفسّرها له وطبّقها على السلوك العملي.. جاء ذلك في نصِّ الرّواية التي استدلّ بها المفسِّرون على تفسير قوله تعالى: (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)..
فقد ورد ما نصّه: “روى حمّاد بن عثمان، عن أبي عبدالله (ع)، أنّه قال لرجلٍ يا فلان! ما لكَ ولأخيكَ، قلت: جُعلت فداك، لي عليه شيء، فاستقصيت حقِّي عنه، قال أبو عبدالله (ع): أخبرني عن قول الله سبحانه: (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ). أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم، لا والله، ولكن خافوا الإستقصاء والمداقّة”.
وهكذا يُفسِّر الإمام الصادق (ع) (سُوءَ الْحِسَابِ)، بأنّه المداقّة في الحساب، وأنّ الله مُنزّه عن الظّلم وسوء الحساب، ففي التفسير نجد مفهوماً عقيديّاً مهماً: وهو تنزيل الباري جلّ ثناؤه عن كلِّ ما لا يليق به، ومنه سوء التعامل مع العباد، ونجد مفهوماً أخلاقيّاً مؤسّساً على هذه الآية، وهو النهي عن المداقّة في المطالبة بالحقوق، والتعامل بيُسر وتسامح، ويُستفاد من ذلك البيان أيضاً، النهي عن التعسّف في إستعمال الحق، فإنّ ذلك الرجل تعسّف في إستعمال حقّه في المطالبة باسترداد ماله.
وهكذا يتجاوز هذا المنهج حالة التحجّر والجمود ويدعو إلى إستعمال العقل في الفهم والإستنباط والتطبيق على المصاديق الواسعة، وعدم حصر الدّلالة القرآنية في دائرة ضيِّقة.
فقد رأينا توسّع مفهوم “جعل الليل سكناً”، ومفهوم “إنّ الله يأمر بالإحسان”، ومفهوم “يخافون سوف الحساب” في التطبيق السلوكي للإنسان والتعامل مع الإنسان والطير والحيوان.. وذلك من تدبّر القرآن، وفهم معناه.