وقفة مع إصدارات مجمع اللغة العربية – حيفا
تاريخ النشر: 28/01/13 | 3:38امتازت إصدارات مجمع اللغة العربية في حيفا بالجديّة والموضوعيّة التي أضافت للمكتبة العربيّة الكثير من الطروحات الأدبيّة والبحثيّة، خاصة أن كتّابها أساتذة متخصصون في الأدب والثقافة العربيّة، وقد حرصت لجنة الأبحاث والنشر في المجمع على أن تأتي إصداراته بحلّة جميلة تضم أبحاثًا قيّمة تساهم في بلورة تشكيل حركتنا النقديّة والبحثيّة. وأودّ أن أتوقّف في هذه العجالة عند إصدارات المجمع للسّنة الفائتة 2012، وذلك حرصًا على التّكثيف الذي قد لا يحتمل تناول جميع الإصدارات دفعة واحدة، على أن أعود إلى إصداراته السابقة في موعد لاحق.
حين ننظر إلى الإصدارات المنوي التوقف عندها، نجدها على النحو التالي: 1- فؤاد عزام: "شعريّة النصّ السرديّ- دراسة في أشكال الحبكة في روايات حيدر حيدر"، 2- كوثر جابر: "الكتابة عبر النوعية- تداخل الأنواع الأدبية في الأدب العربيّ الحديث"، 3- حسين حمزة: "معجم الموتيفات المركزيّة في شعر محمود درويش"، 4- ساسون سوميخ: "ملامح أسلوبية جديدة في الأدب العربي الحديث".
أما كتاب "شعريّة النصّ السرديّ- دراسة في أشكال الحبكة في روايات حيدر حيدر"، فان مؤلفه الدكتور فؤاد عزام يتناول فيه أشكال الحبكة في روايات حيدر حيدر في إطار الشعريّة، وكما يقول رومان ياكبسون (Roman Jakobson) فإنّ موضوع الشعريّة هو، قبل كلّ شيء، الإجابة عن السّؤال التالي: ما الذي يجعل من رسالة لفظيّة أثرًا فنيًّا؟ واعتبر رولان بارت (Roland Barthes) الشعريّة علمًا للأدب. وإذا كان الأدب، بطبيعته ليس علمًا، ويتأبّى على العلميّة، ويبقى متملّصًا ومراوغًا، فإنّ الشعريّة تحاول إخضاعه لمقتضيات المفاهيم والمصطلحات المنشغلة باختزال النصوص الأدبيّة في أشكال ومقولات علميّة. وفيما يتعلّق بالنصوص القصصيّة فإنّ الشعريّة تحاول الإجابة عن أسئلة من أهمّها: ما هي الخصائص التي تجعل من خطاب ما نصًّا قصصيًّا؟ ما هي مركّبات العمل القصصيّ، وطرائق اشتغالها؟ كيف تتعالق هذه المركّبات لتبني العمل القصصيّ، وتولّد بالتالي دلالاته؟
تأسيسًا على ذلك جاء اقتراحه للحبكة باعتبارها جملة المركّبات التي تشكّل العمل القصصيّ من خلال التعالق الجدليّ فيما بينها، وهي: الزّمان، المكان، الشخصيّات، الأحداث، والراوي. هذا النموذج الخماسيّ هو منهج علميّ نحاول من خلاله فهم طبيعة العمل القصصيّ وطرائق اشتغاله من الداخل، وبالتالي فَهم الفكر الذي يستند إليه النصّ وبنائه، واستجلاء فكر الكاتب الذي يقف خلف بنياته. وتجدر الإشارة إلى أنّ مفهومنا للشعريّة ينهل من الشكلانيّة الروسيّة، والنقد الجديد في الولايات المتّحدة، والبنيويّة، والسيميائيّة.
على هذا الأساس يسعى البحث لتطبيق النموذج الخماسيّ للحبكة، ورصد طرائق اشتغالها في قصص حيدر حيدر، وبالتالي كشف العلاقة بين أشكال الحبكة وفكر الكاتب؛ ثمّ تصنيف أعماله وتقرير الاتجاه المهيمن فيها، مع رصد التقنيّات المختلفة التي يتمّ توظيفها. كما يسعى البحث إلى متابعة التطوّرات التي حصلت في بناء الحبكة وتشكيلها في قصص حيدر حيدر على المستوى التّعاقبيّ (الدياكرونيّ)، والمستوى التزامنيّ (السنكرونيّ) على حدّ سواء.
وبذلك يسعى البحث إلى تحقيق هدفين مركزيّين:
1- على المستوى التنظيريّ: بناء نموذج متكامل لمفهوم الحبكة يشكّل منهجًا إجرائيًّا.
2- على المستوى التطبيقيّ: بحث أشكال التطوّر في الحبكة القصصيّة في أعمال حيدر حيدر.
حين نتوقف عند كتاب "الكتابة عبر النوعية- تداخل الأنواع الأدبية في الأدب العربيّ الحديث" للدكتورة كوثر جابر، نجدها ترصد ظاهرة الكتابة عبر النوعية عن إلحاح جليّ وسعي دؤوب نحو تغيير مواضعات النصّ الأدبيّ العربيّ. وكانت مسألة اندياح الحدود الفاصلة بين أشكال الكتابة المتعارف عليها إحدى سمات الحساسية الجديدة. وقد استطاعت القصيدة العربية إعادة النظر بجرأة في مسلمات وفي توجهات وأشكال، تمكنت بها من اختراق الحدود التي كانت عليها سابقًا، فكسرت المنظومات الشعرية التقليدية، وغيّرت الذوق العام في التلقّي والتقبّل، وعبرت إلى حقول أدبية مجاورة وأخذت تمتح من الأنواع الأخرى. كذلك أخذت الرواية تنافس كل الأجناس الأخرى وتحاول احتواءها، فنافست الشعر واستعاراته وأخذت تلعب بموسيقى الكلمات والإيقاع ورنين الجمل وتأخذ من المسرح والمونولوج والحوار. كذلك نظرت الرواية صوب الفنون الجميلة فأعطى الروائيون أعمالهم بنية فنية كفن السينما والكولاج والرسم وغيره.
والسؤال المهم في هذه المقام: أثمة سياق يمكن أن ينتظم خصائص هذه الأنواع جميعًا ومظاهر اشتباكها؟ وكيف يمكن تحديده؟ لربما ليس ثمة سياق موحّد يمكن أن ينتظم جميع هذه الكتابات المتجاوزة للتقليد الكتابي الأدبي، ولعله لذلك، من الأفضل التسليم بأن لكل جنس أدبيّ جمالياته الخاصة وبلاغته المتميزة، وأنه من أجل استقصاء ذلك النزوع نحو دمج الأنواع وتداخلها، يجب دراسة الكيفيات والآليات التي يتوسع من خلالها جسد النص، ليستوعب عناصر من حقول أدبية أخرى مجاورة، ويهبها وجودًا حيويًا ودالاً داخل النص الجديد. كذلك تجب العودة إلى استخدام آليات وإجراءات ومفاهيم مأخوذة من علوم الشعر والسرد والقص، بما يسمح بمعاينة تقارب الأنواع الأدبية المختلفة.
والواقع أنه مهما يكن الخلاف حول مقولة النوع الأدبي ومدى أهميتها في تناول النصوص الأدبية المعاصرة التي عمدت إلى انتهاك الأنواع ومزجها، فإنه لا خلاف على المكانة المحورية التي تحتلها مقولة النوع في كلّ دراسة أدبية، مهما اختلفت المداخل وتباينت النظريات. فمنذ أفلاطون وأرسطو ونظريتهما في المحاكاة وأنواعها، مرورًا بمسيرة تاريخ النظرية الأدبية ونظرية الأنواع من هوراس إلى هيجل إلى لوكاتش إلى كروتشة وبلانشو، وصولاً إلى باختين ونقاد ما بعد الحداثة كريستيفا وجينيت وديريدا ورفاتيير، وثورتهم على "قانون النوع"، ظلت مقولة "النوع" موضوعًا دائمًا مثار الحوار والجدل. عليه تظل مقولة النوع الأدبي مقولةً أساسية في وصف الخطابات الأدبية، كما تظل أساسًا لكل تصنيف نوعي جديد. وما هو حاصل من تفاعل بين الأنواع الأدبية إنما يدل على غنى مقولة النوع الأدبي واتساعها بحيث تأتي هذه المقاربات النوعية الجديدة كتمثيلات على تجدّد نظرية النوع وتحديثها وليس زوالها أو التخلي عنها.
حسين حمزة: "معجم الموتيفات المركزيّة في شعر محمود درويش"
انطلاقًا من ارتكاز تجربة محمود درويش الشعريّة على محاور أساسيّة تنعكس في المكان، التاريخ، الأسطورة، الدين، الأدب والرموز الذاتيّة، التي أبدعها محمود درويش لتصبح دالّة عليه، وعلى معجمه الشعريّ، قام الدكتور حسين حمزة في كتابه المذكور أعلاه باختيار الموتيفات والرموز التي تشكّل تجربة "درويش" الشعريّة في جميع مراحل تطوّرها.
تمّ اختيار الموتيفات الأكثر حضورًا في تجربة درويش من كلّ محور، وقد جاء ذلك بناء على اعتبارين: الأول، الحضور الكميّ للموتيف، سواء بقي هذا الحضور محتفظًا بدلالة واحدة أم طرأ تغيير على دلالته، وذلك نابع من فرضيّة أنّ تكرار الرمز أو الموتيف يدلّ على أنّه مكوّن هامّ في تجربة درويش الشعريّة. والثاني، الحضور النوعيّ للموتيف، فبعض الموتيفات برز في المراحل الأولى مثل موتيف "الصليب" ثمّ قلّ توظيفه في المراحل اللاحقة بشكل كبير. وهناك بعض الموتيفات ظهرت بشكل واضح في مراحله الأخيرة مثل موتيف "الغياب". يساعد مثل هذا الرصد على تبيان مراحل تطوّر درويش الشعريّ، وهي ركيزة أساسيّة في الشعر تدلّ بشكل مباشر على التحوّل في رؤيا الشاعر للواقع الذي يعبّر عنه، وتشكل جزءًا أساسيًّا في تمثيل تجربته الشعريّة.
استطاع درويش خلال نصف قرن إبداع معجمه الخاص برموزه وموتيفاته، أو ما يمكن أن نطلق عليه الموتيفات الذاتيّة، وهي الموتيفات التي شكّلت جانبًا من طفولته كالبئر مثلا، أو القهوة، التي تتكرّر في مواطن عدّة من شعره، بحيث تكاد تشكّل هويّة وبصمة درويش الشعريّة، بالإضافة إلى موتيفات: الريح، الحمام، والحصان، وغيرها من الرموز التي شكّلت جزءًا من تجربته. وقد استطاع الكاتب توثيق 50 موتيفًا محوريًّا من شعر درويش، يعتقد أنّها تشكّل مسيرته الشعريّة منذ بدايتها حتى وفاته.
إذا أمعنا النظر في تكرار الموتيفات في شعر درويش فلا بدّ أن يتضح لنا أنّ موتيف الموت هو أكثرها ورودًا؛ فهو من الشعراء العرب القلائل -إلى جانب السيّاب- الذين جعلوا من موتيف الموت محورًا هامًّا في تجربتهم الشعريّة. فله الحضور الأكبر في جميع مراحل درويش الشعريّة، وثمّة فارق كبير بينه وبين سائر الموتيفات كمّيًّا. يبدو لنا أنّ السياق الخارجيّ للشاعر، وما مرّ به من عدّة تجارب مع الموت قد انعكست بشكل جليّ في شعره، إضافة إلى علاقة موتيف الموت بالتجربة الجماعيّة، التي مثّلها درويش.
يسهم هذا المعجم في مساعدة الباحث في شعر درويش ودراسته، وقد يكون محفّزًا لأبحاث أخرى تعالج مشاريع شعريّة كبيرة في الشعر العربيّ المعاصر مثل وضع معجم للسيّاب، أدونيس، صلاح عبد الصبور ونزار قبّاني. فمن شأن ذلك أن يثري دراسة الشعر العربيّ المعاصر، وأن يلقي الضوء على مراحل تطورّه بشكل أكثر موضوعيّة.
ساسون سوميخ: "ملامح أسلوبية جديدة في الأدب العربي الحديث"
يضم هذا الكتاب أبحاثا كُتبت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ونشر عدد منها في مجلة الكرمل الحيفاوية، ومجلة الشرق الشفاعمرية، ويرى الباحث أن آن الأوان لنشر هذه الأبحاث في كتاب، لأن موضوعا مشتركا يربط بينها، ألا وهو تطور المفاهيم والاتجاهات الأسلوبية في الأدب العربي خلال القرنين الأخيرين، وهو يؤكّد أنه يرى الأدب كفنّ لغويّ أولا وقبل كل شيء. وبخلاف الفنون الأخرى كالمسرح والموسيقى والنحت والرسم، النص الأدبي هو أولا وأخيرا الكلمات، الكلمات، الكلمات، على حد تعبير هاملت في مسرحية شكسبير المعروفة. لذا فمن واجب الباحث الأدبي أن يلتفت إلى الجانب اللغوي للأدب حتى إذا كان اهتمامه الأولي هو الأدب لا اللغة..
أجل، إن الأدب هو أكثر من نص لغوي، ففي المؤلَّف الأدبي نجد أمورا هامة كالمفاهيم النفسية والاجتماعية والفكرية وغيرها. ولكن دراسة النص من منظور مفصول عن اللغة غير كافٍ. فموهبة الكاتب تصل إلى القارئ عن طريق اللغة وحدها في أول الأمر.
في الماضي كان النقاد يقتصرون في ملاحظاتهم اللغوية على رعاية البلاغة أو الثراء الأسلوبي. ولكننا اليوم نؤمن بمفاهيم مختلفة تماما في تحديدنا لوظيفة اللغة في الأدب. فالثراء المعجمي والتعابير الرنانة لم تعد تثيرنا كما كانت في الماضي. فهذه التعابير لا تضفي على الإنتاج الأدبي قيمته وتأثيره. إنّ استخدام اللغة استخداما فنيا معناه أنك تنظر إلى الكلمة كأداة مركبة يخلق منها الكاتب عالما كاملا بطرائق مختلفة كالأيروني (التوتر المعنوي) والتأثير الصوتي والأضداد والتناص (intertextuality) وغيرها.
وقد تكونت هذه المفاهيم العربية الجديدة، أو الطرائق المحدثة، نتيجة لانتهاء الانعزال الثقافي، ولانطلاقات جديدة، أهمها تجدد الصلة مع الآداب والثقافات العالمية، بعد قرون من العلاقات الضئيلة الأثر.
(للحديث صلة)
من سيمون عيلوطي المنسق الإعلامي للمجمع: