جمرة السّنديان وسقوط الطّغاة
تاريخ النشر: 30/01/13 | 13:22
لا يمكن أن نلوم النّاس عمّا يفعلون الآن لأنّنا لم نقل في الوقت المناسب الشّيء الصّحيح ولم نفعله، كان هناك نوع من الصّمت المتواطئ خاصّة داخل النّخب، يكفي أن نلقي نظرة سريعة على ما كتبته نائلة منصور حول "الكافور البعثي" وهو يسري على جميع الأقطار العربيّة، ممّا يجرّنا إلى البحث عن الأسئلة "الحقيقيّة". فالنّخب كانت قبليّة إلى حدّ النّخاع، ليس فقط على مستوى المشهد السّياسي، كأحزاب ونقابات حيث يستمر الأمين العام إلى الأبد مع صعوبة في إيجاد البدائل الصنميّة لآلهة إلى الأبد. ورغم ذلك حتّى لو تغيّر بفعل الموت فإنّ قطع الشطرنج الجديدة لا تغيّر شيئا من قواعد اللعبة، لذلك لا داعي لبكاء مدرسة العلوم السياسيّة.
إنّ المسألة أعمق من ذلك بكثير، فهي إحدى تجلّيات أسس مرض التّكريس الاجتماعي والسّياسي والثّقافي… والشّيء نفسه نلاحظه على المستوى الفكري والثقافي، حيث ظلّ مثلا مدير مجلّة تزعم التّفكير في المستقبل العربي لأكثر من ثلاثين سنة. هذه نخبة بقواعدها لم تؤسّس سوى تجربة الغبار والرّماد، خاصة وبشكل رئيسي على مستوى التّعليم بمختلف مراحله، مثلا قبيلة فلان في السوسيولوجيا، و قبيلة الآخر في اللسانيات، والثّالث في الفلسفة…
إضافة إلى العلاقات التسلطيّة المتعفّنة بين الأساتذة فيما بينهم، وبينهم وبين الطلاب، حيث يسود التزلّف والولاء والتعهّر والسّرقة، متنافسين في إتقان قيم وسلوكيات أبيهم المستبد الحاكم. ويبقى للبحث العلمي متّسع في سدرة منتهى خمريات خطب ومؤتمرات وندوات ولقاءات وجوائز الحاكم العربي. إنّ أسئلتنا ينبغي أن تشمل كلّ قطاعات التخلّف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، دون أن ننسى محور تجاذب وتفاعل مستويات البنية الجدليّة للكل المجتمعي، وهو المحور النّفسي الذّهني الثقافي الذي يمكن لمسه في سيكولوجيّة الإنسان المهمّش، المقهور والمسحوق.
وإلا كيف نفسّر هذه الألفة تجاه الظلم التي قد تجد أسّسها في إسلام الإقطاع العسكري؟ بحيث إن المستبدّ يلجأ إلى نوع من العدل في النّهب والظلم خوفا على ملكه واستبداده، وليس نزولا عند العدل كقيمة إنسانيّة، فيبدو سلوكه شرعيّا وفق مشيئة الله في خلقه، كما أصلته مدونّة الحديث لإسلام الإقطاع العسكري الذي سدّد مقولاته وأحكم إغلاقها ابن خلدون بفقه التّاريخ السنّي للاجتماع البشري. نعم كيف نفسّر هذه الألفة وسهولة تطبيع الجهل وتقديسه والتخلّف والقتل اليومي؟ ألم يحدث هذا مثلا أثناء المجازر التي ارتكبتها الصهيونيّة في حق الشّعب الفلسطيني؟ والنّاس يتابعون على الفضائيات، ويتوقفون من حين لآخر لقراءة الخبر العاجل، دون أن تتحرّك أعماقهم المتفحّمة بتراث الخنوع والقهر والاستبداد الشّرعي، وهذا ما يفعلونه اليوم وهم يشاهدون بحياد بارد من داخل سوادهم النّفسي والذّهني… مجازر في حقّ الشّعب السّوري.
إن الأسئلة التي أثارتها نائلة منصور أكبر ممّا تفعله أدوات الهيمنة الإيديولوجيّة في التحكّم في معاودة الإنتاج. ما قيمة التراكم الفكري والثّقافي الذي أنجزته النّخبة وهو غارق في التّضليل والتبعيّة إلى أبعد الحدود؟ وما السرّ في هذا التّراكم "الموبوء" الذي تغنّى بالنّقد والعقلانيّة والعلميّة وأساء إلى العلمانية كثيرا وإلى القيم الإنسانية الكونية؟ في وقت لم يستطع مثلا هذا التراكم النفعي الاستغلالي الشبيه بـ"إقطاع الرّقبة" أن يكشف ترّهات ابن خلدون في علم التاريخ والعمران، لولا إنسانة عظيمة تكفلت بحفريات الخطاب الخلدوني. ولولا إنسانا آخر تفرّغ لكشف العبء الثقيل للإسلام الحديث، وهو الشّكل السّياسي الدّيني للإقطاع العسكري الذي عرف صيرورته من إسلام الغنيمة إلى إسلام الإقطاع العسكري، من المشرق إلى الأندلس مرورا بنماذجه المشهورة البويهيّة والسلجوقيّة والمملوكية
ومن جانب آخر وهو المؤلم أيضا إلى درجة السم السقراطي، كيف كانت هذه النخب ترى بأم عينها ليس فقط نهب خيرات الوطن، بل أكثر من هذا هدم الإنسان؟ من خلال مراقبتها لتسرّب التلاميذ والطلاب، ومشاركتها في الآلة الجهنميّة لهدر الطاقات والكفاءات والعقول، عبر السياسات التعليميّة والإصلاحات المزيفة التي كانت تخبئ في مظاهرها خنجر القاتل المستبد. إنّ سواد اليوم هو نتيجة الاستبداد القهري بعيون نخبة رأت العري ولم تصرخ. رأت عودة الشعوب إلى المستوى النباتي، والقبول بالمستوى الأولي للقمة العيش وتصريف شؤون الحياة. إن إنسانا أعيد قهرا إلى ما دون خط الفقر، أي ما دون خط البشر إلى المستوى الإجرائي الحيواني، لا يمكن أن ينزاح عن خط الفقر السياسي. بمعنى أن سواد اليوم هو التوافق التناقضي للحيوان الديني مع الحياة، ذاك التوافق المسمّى عودة إلى الماضي في صورة قوى السطو على الإسلام والمتاجرة بمعتقد الشعوب. هذه القوى التي لا تستحيي أن تكشف أوطانها في حالة من البؤس والترهّل التّنموي، كما تعري عورات شعوبها صحّيا وغذائيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا مقابل الصّون الكاذب لمؤخّرات النّساء بحجاب تعفّف يمرّغ كرامتهنّ في وحل لقمة العيش البائس واليائس، تفكّكا وانحرافا وتعهّرا وجنحة واختلالا وانهيارا لقيمة الإنسان الذي يسحق في وجوده الإنساني. وبالتّالي فإنّ هذا التفحّم السّياسي المتلبّس زورا معتقد الناّس الإسلامي والذي أزعج الحبيب الجنحاني في اعترافه، ليس أصيلا ولا طبيعيّا ولا حتّى مدهشا أو مرعبا، إنّها مرحلة في الصيرورة المجتمعيّة، لكنّها تحتاج إلى معاول الهدم قبل البناء. هدم الأساس الاستبدادي للإقطاع العسكري الذي فجر شوق الأستاذ الجنحاني إلى مصادره القديمة، كما أشارت إلى جزء منه نائلة منصور، وقد جعل حياة الناس في واقعهم الحي جزءا من الطبيعي الناجز والجاهز كقدر محتوم. حيث يحفرون قبورهم بأيديهم دون أن ينتبهوا إلى تلك الأشياء الجميلة التي حمتهم من الاندثار والانقراض. ذلك التنوّع والتعدّد الذي جعل حياتهم قابلة لاستمرار فعل المقاومة والبقاء والنّهوض من جديد، ليس فقط على مستوى الحضور الفاعل والفعّال للمرأة، كما أشار الحبيب الجنحاني، عبر تاريخها المتميّز بالعيون المفتّحة على الحياة رغم ما فعلته سلطة الحريم لفقهاء الإقطاع، بل ذلك النّور الوهّاج والرّؤى المتفاعلة لثقافات حضارات شعوب المنطقة كلها.
وهذا ما يخشاه الطغاة فينتصرون لعشق السّواد وعماء الرّؤى والبصيرة. وضدّ هذا الإرث النوراني يغزل المستبد أساس وجوده، ويكرّس رؤية فقر الدمّ التّاريخي التي تجعل النّاس ضحايا بديهياتها ومسلّماتها التي توهمهم بالقداسة والصّفاء والنّقاء والتناغم والانسجام لحضارة وأمّة أطرها ما هو مسطور باسم الإسلام في كتب المؤرّخين والمحدثين وفقهاء الإقطاع العسكري، في وقت كانت نصوصهم مفارقة لما حدث على أرض الواقع من ظلم ورقّ وعبوديّة وقتل وسبي… وترف وجواري وغلمان… في قصور الأمراء وقواد الجند والعسكر، وهذا ما يعمق جراح "مقدّسات زيد إزاء حريّات عمرو" في كفاحه ضدّ فقر الدم التّاريخي.
وهذا الأساس الاستبدادي الملموس في نمط حياة النّاس، وفي أسلوب تفكيرهم ونظرتهم للوجود ولأنفسهم والعالم والآخرين، هو الذي من أجله يرتكب المستبدّ المجازر تلو المجازر كما يفعل بشّار. فيزداد الطاغية اختناقا عندما لم تقبل المدن السوريّة تحدي بشار وحلفائه لها، كما سخرت من حقد الصّمت القاتل لأصدقاء سوريّة، ذلك الحقد الذي يشرب من عروقها ولا يرتوي.
شيء ما في المدن السوريّة يقاوم ويقاتل، بطريقة ترعب بشّارا بشرقه وغربه وصهيونيته، بغض النّظر عن الشّعب. صحيح أنّه ارتكب مجازر مروّعة في حقّ الشّعب، وصحيح أن الجيش الحرّ يقاوم، لكن حتّى المدن، البنايات، الجدران، الشّوارع، القرى والحقول الخالية من السكّان والأنهار والماء والتّربة… كلّ بصمات تاريخ الإنسان هذه في تمازجها الايكولوجي تقاوم. أراد الطاغية بشرقه الرّوسي الصّيني، وبغربه الأوربي الأمريكي أن يدك ويدمّر سوريّة، لكنّها كانت تنتفض من عمق يجهلونه فتنهض من جديد. كلّ هذا كان يخنق بشارا يوما بعد يوم، فيزداد توتره وغضبه إلى درجة الهذيان بفعل قوّة الاختناق التي تحاصره، بسبب تلك الأشياء النّابعة من الجغرافية والتّاريخ والحضارة والفنّ…
ومن الأساطير الأولى لقصص الخلق والآلهة. أشياء كانت غامضة للكثيرين، إذ حال الاستبداد دون رؤيتها، ومنهم بشكل خاص بشّار بشرقه وغربه، وهو الآن يرى الرّعب الذي ينبعث من جوف الأرض وأعماق التّاريخ والحضارة، ومن على سطح أرض سوريّة. هكذا هي سورية تحسّ بأهلها في محنتهم، في معاناتهم، في دمهم المسفوح، في عيدهم الكبير القادم بشموس الحريّة. قد لا يصدّق الكثيرون بأنّ بشارا بشرقه وغربه في حالة جنونيّة قصوى. يتمنّى في أعماقه لو يستطيع أن يلتهم كوحش أسطوري سورية في أشيائها الجميلة الرّائعة والمقاومة العاشقة للحياة التي تتحدّاه، وتزيد من قوّة قبضتها وهي تخنقه. كما أنّها لا تريد أن تجهز عليه مرّة واحدة، سيموت ألف مرّة قبل أن ينعم بموت طالما تمنّاه. لن يصدّق النّاس، ولا حتّى الكثير من السوريين، بأنّ من سيحرّر البلد من الطاغية، ليس الجيش الحرّ رغم قوته وبطولاته المجيدة، بل تلك الأشياء الجميلة التي يقف الناس العاديون والمثقفون عند سطحها المتديّن. عندما يقول الشّعب "يا الله ما لينا غيرك يا الله" هذه الأشياء تتجاوز المحرّمات والمقدّسات، وهي تعيش دنيويّة الحياة بأوسع معاني العلمانية التي ترهب مرضى السواد، أهل القبور وخراب الأرض وفساد الزّمان. هذه الأشياء لا تفهم من زاوية أحاديّة للجهاز السياسي المنحط، ولا تسهل مطيتها لقوى سواد بدو الرّحل الذين يعيشون على ريع اللصوصية، بسرقة ليس ثورات الشّعوب فحسب وإنّما دماءها. وهي الأشياء التي يعسر رؤيتها في ظل الطغاة وأزلامهم، لكن يصعب قتلها وتدميرها.
ونحن نرى اليوم الجهد الكبير لرجال ونساء يفتحون عيوننا على متعة وقوّة الحياة في تلك الأشياء الجميلة لحياة آبائنا وأجدادنا وقد عاشوها دون خوف من سطوة نزوة الحلال والحرام. حتى تلك الأنقاض من المدن والقرى الخالية من السكان، مثلا داريا المكان الشهادة، هي الآن ترعب وتحاصر وتخنق بشارا، حتى الأرض الجدباء تعذبه وتزيد من اختناقه، حتى أمواج البحر تؤلمه بطعناتها لدرجة كان يطلب من الشبيحة إلقاء القنابل والبراميل على البر والبحر وفي الهواء، حتى ما تبقى من أنقاض المنازل كان مرعبا إلى حد تفجير قلب الطاغية وشبيحته. عندها أدرك الطاغية في لحظة احتضار عنيفة أنّه غريب ومطلوب منه الرّحيل أشلاء. حتى لو بقي وحده حيا في البلد، فتلك الأشياء العميقة الجذور والحيّة النسغ ستخنقه. لن يفرح الغرب بقصفه السياسي والإعلامي ولا الشرق بهجومه العسكري بقدرة بشّار على تدمير البلد، حتّى لو هجر الشّعب كله فسورية حيّة -كجمرة السّنديان- لا تموت.
الأشياء الجميلة والنبيلة والعميقة الجذور لا ينفرد بها الشّعب السّوري، فهي تستعد للانقضاض على الدكتاتور الرّوسي والصّيني والإيراني… حيث سيفاجأ العالم بثورة هذه الشّعوب التي وقف الطّغاة في وجه مسارات حياتها المشرقة وأحلامها العظيمة، وهي تحتضن التمرّد تلو التمرّد والثّورة تلو الثّورة. كلّ مدن وقرى هذه الشعوب تنتفض يوميّا بطريقتها الهادئة في تمثل واستيعاب توهج نور وتنوير تاريخها الثوري، بشكل يدركه طغاتها لذلك جنّ جنونهم، فهم يقاتلون في سورية ضد شعوبهم التوّاقة إلى التحرّر من طغيانهم. يتمنّون في قرارة أنفسهم لو يدمّروا نهائيّا تلك الأشياء الحيّة والحيويّة في حياة الشّعوب. من هنا كانت سورية معركتهم الأماميّة، أو بتعبير أدقّ يخوضون حربا استباقيّة لقهر شعوبهم وتكريس طغيانهم، لكن الحياة أكبر من بشّار وبوتين ونجاد و…
نزيه كوثراني ,الأوان