من شكاوي المبدعين في الأرض
تاريخ النشر: 23/05/15 | 9:47-1-
وصلت إلى المدرسة، أجرّ ورائي حقيبتي الكبيرة المليئة بالكتب، وإذا بي أرى أن موقع المدرسة عالٍ جدًا، على قمة الهضبة، ولا يوجد بقرب المدرسة موقف للسيارات بل يبعد عنها ما يقارب الـ(300) متر. جررت حقيبتي أسير الهوينا، مثل الأشخاص المشرّدين، وعندما وصلت إلى المدرسة، وإذ بعشرات الدرجات، كان عليّ أن أصعدها لأصل إلى مدخل المدرسة، فكان للمكان متاعبه الجسدية الجمّة. وقفت قليلا لألتقط أنفاسي وأستريح، فرأيت بوّاب المدرسة يقف في مدخلها، وبان لي رجل عريض المنكبين، طويل وقوي البنية، وصارم الملامح. لاحظ بأنني أتخبّط واتعثّر بأذيالي، وأنا أصعد الدرج، رافعة حقيبتي الثقيلة، لكنّه لم يقترب ويمد يد المساعدة أبدًا، وأنا على يقين لو كانت الآية معكوسة لقدّمت له المساعدة.
-2-
دخلت المدرسة، ولم أعرف الى أين أتّجه، وقفت بقرب مكتب السكرتارية، مرتدية بذلة رسميّة ومعتدّة بنفسي. قسم من كتبي على كتفي، وركنت حقيبتي المكتنزة بالكتب بجانبي. التقيت بأحد المدرسين ويدعى جواد، وأنا على معرفة قديمة به، فأشاح بوجهه عنّي، بملابسه المهلهلة.. ناديته وحيّيته، وقلت له ممازحة: لا تتظاهر بأنك لم ترني.
– سمعت عنك من طاقم المدرسة ما أغضبني..
تعمّدت بأنني غير مدركة لما يقوله وهززت رأسي ببطء من جانب إلى جانب.
تركني جواد وبقيت واقفة مكاني لمدّة عشر دقائق، فتوجّهت إلى سكرتيرة المدرسة وسألتها: أين جلس ضيوف المدرسة الذين وصلوا قبلي؟ فقد رأيت أحد الضيوف وهو كاتب معروف وكبير السن.
– انهم في غرفة المدير..
دخلت غرفة المدير دون أن استأذن على اعتبار أنني ضيفتهم اليوم، وكان جواد في الغرفة معهم يشربون القهوة. سكب جواد لنفسه فنجان قهوة. فقلت له: هل يمكنني مشاركتك قهوتك؟ فاعتذر بأنه نسيني، وشعرت بأنّني شخص غير مرغوب فيه في هذا المجلس الرجولي، حيث تواجد فيه كل من مفتش المدرسة ورجل دين، وحقيقة، لم أعرف كيف أتصرّف، فحافظت على سكوتي كما اعتدت في لحظات كهذه.
-3-
وصل أعضاء لجنة الآباء في المدرسة ومعظمهم من الأمهات، فقمت مع الضيوف والمدير ليعرفنا على الفعاليات التي ستكون في المدرسة، بمناسبة شهر آذار وشهر الربيع وشهر الأم. بدا لي المدير الشاب وسيمًا، مهتمًا بمظهره وفيه شيء مخنّث، فعرّف المدير الحضور على الكاتب الكبير المعروف، وعلى رجل الدين والمفتش وأعضاء لجنة الآباء ونسيني، وبدت في ثنايا وجهي أمارات اليأس.
-4-
تنقلت بين عدة صفوف في المدرسة شارحة عن أهمية اللغة العربية وعن مكونات الكاتب وصفاته وهمومه واحلامه، ثمّ عرضت عليهم ما أكتب ورويت لهم بعض قصصي. انتهيت من اداء واجبي، وعدت إلى غرفة السكرتيرة. وقفت ثانية وحدي أنتظر قدوم أحدهم ليحرّرني من هذا اليوم، وكان لي مناص من التريث. استغربت تصرفهم، فقبل زيارتي للمدرسة قامت إحدى المربيات بالاتصال بي عدّة مرّات لتنسيق زيارتي إليهم، واتفقنا فيما بيننا على برنامج هذا اليوم وما سأقدمه للطلاب.
-5-
استنجدت بمركِّزة اللغة العربية.. حين دخلت غرفة السكريتارية، لأنني حظيت بعدم مراعاة لي، خاصة من مدير المدرسة الذي لا يعرف أو لا يعترف بوجودي. لم أفهم ما الخطوة القادمة؟ هل يمكنني ترك المدرسة؟ ولكن مركِّزة اللغة العربية وبصوتها الوديع الذي تنبعث منه نبرات الحنان، طلبت مني الانتظار نصف ساعة أخرى، لأنه سيتم تكريمي مع الكاتب الآخر- المعروف والمشهور – فخرجت إلى ساحة المدرسة، حيث الطاولة المغطاة بشرشف أحمر وعليها عدّة باقات من الورود البيضاء الجميلة، والتي جلس عليها رجل الدين والمفتش ومندوب عن البلدية، ففهمت بأن مكاني بينهم، على اعتبار أنّني سأكون أحد المكرمين.. وعندها دخل الكاتب الكبير ولم يكن له مكان ليجلس على طاولة المحترمين. أردت أن أقف واعطيه مقعدي، ولكنني تململت وادركت بأنني إذا اعطيته مقعدي سأنزوي ثانية وحيدة ويكون ذكور الحفل في صدر الاحتفال. تصنّعت عدم الانتباه، وبقي الكاتب المسن واقفًا على قدميه ورائي، وكلّ واحد من الحضور يحمي كرسيه بمؤخّرته العريضة المكتنزة. على الفور، أحضروا طاولة أخرى وشراشف حمراء وباقة زهور بيضاء ليجلس عليها أديبنا. عرفت السيناريو مسبقًا، فلو أعطيته كرسيي، لن يكون لي مكان على طاولة المحترمين ولن تجهّز لأجلي طاولة مع باقات الورد.
وقف مدير المدرسة، واعترف بوجودي على منصة الاحتفال. ليته لم يعترف بي، لأنه اعطاني اكثر مما استحق ونعتني أمام جمهور الطلبة والأهالي، بالكاتبة التي تربعت على عرش أدب الاطفال بتميز ونجاح.. تواضعي جعلني أشعر بالخجل والاهانة من هذا التعظيم، فأنا ما زلت اتخبط في البحث عن دربي في عالم الكتابة..
-6-
لا أعرف أين اختفى الذوق الذي فضلوه على العلم- جاءت بعض المعلمات إلى طاولة الضيوف وحيّين الكاتب الكبير الذي كان مدرّسهم في السابق ولم يلتفتن صوبي البتّة، فشعرت بغصّة تليها غصة.
قام المفتش وعرّف عن ذكور الطاولة الحمراء، واحدًا واحدًا وعندما وصل الي طأطأ رأسه واقترب مني معتذرا ليسألني عن اسمي، وعندما أجبته، قام بالترحيب بي على الملأ.
تلاه من الطبّالين والزمارين، رجل الدين، الذي القى كلمته ورحب بذكور الطاولة مع ذكر القاب الجميع باستثنائي، بعدها، تمت عملية تكريمي مع الكاتب الكبير وقدموا لنا شهادة شكر وتقدير كبيرة لا أعرف أين سأضعها لكبر حجمها، فبيتي صغير ولا يوجد به متّسع لمثل هذه الشهادات التقديرية.
-7-
قدّم المفتش اعتذاره منّي ومن الكاتب لأنه سيغادر الاحتفال، فاليوم هو يوم الجمعة، يوم عطلته وعليه ان يذهب إلى الصلاة، ثم قام رجل الدين ومندوب البلدية بالاعتذار لذات السبب. اقترب منّي رجل الدين خلال انسحابه من الحفل، واعتذر مني على عدم ذكر اسمي، فنظرت اليه دون أن تكون عندي ردّة فعل، ولم أنبس ببنت شفة، لم أرد كشف نفسي وأشيائي أمامه. أردت أن أترك الكاتب الكبير وحيدًا على الطاولة الحمراء، ولكنني لم أجرؤ، فهو كاتب يستحق التقدير ولن أتركه.
-6-
في آخر المطاف، هممت وخرجت من المدرسة، وعلى مدخلها التقيت ثانية بالمدير، فابتسم لي قائلا: قمت بواجبك بكل بساطة وكفاءة.. استري عمّا ظهر منّا، تململت قليلًا، ولكنّه لم ينتبه ويهتم لململتي، فجررت حقيبتي الكبيرة، وكان بوّاب المدرسة يسد أمامي الطريق ثانية. نظرت إليه بعيون ملؤها الغضب كأنه هو المسؤول عن كل ما حدث، لم يفهم البواب سبب غضبي.
-7-
اتفقت مسبقا مع معلمة المدرسة التي نظمت معي هذا اللقاء وهي بدورها طلبت الإذن من مركِّزة اللغة العربية التي بدورها طلبت الإذن من المدير أن يكون هذا لقاء عمليا مع الصفوف الرابعة مقابل مبلغ بسيط، لم يرق طلبي هذا للمدير ولا لنائبه جواد، فوضعوني في جو مطير من الاهانات، لأنني رفضت التطوع.
-8-
استغرقت في الحياة، سابقا، مترفّعة عن اهتمامات الأرض، ومع بزوغ فجر جديد، اوقفت القلق الذي ينخر في نفسي، فرؤيتي لا غبار عليها وأنا موقنة ممّا أقول!
بقلم: ميسون أسدي