الجمع بين روايات الوضوء
تاريخ النشر: 26/05/15 | 9:00من العبادات ما ورد بهيئات مختلفة, وصفات متنوعة، فجعلها البعض من قبيل المختلف المتعارض، وعند التحقيق نجد في كلام العلماء ما يقرب المتباعد، ويجمع النصوص كنص واحد، أوجب لهم ذلك رسوخهم في فنون الشريعة، وملكتهم المكتسبة من كثرة الدربة والممارسة، ونور الحق الذي قذفه الله في قلوبهم لتفهم الأحاديث والسنن الواردة.
من ذلك ما ورد في صفة الوضوء، فقد روى البخاري في “صحيحه” عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: توضأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرة مرة. ثم ما رواه أيضاً عن عبد الله بن زيد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – توضأ مرتين مرتين. وكذلك ما رواه عن عثمان بن عفان أنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الاناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه الى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار الى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه).
وظاهر اختلاف الروايات السابقة في عدد الغسلات، ولم يرَ الفقهاء تعارضاً بين هذه الروايات، بل حملوا هذا الاختلاف على تعدد صفة الوضوء، فحملوا رواية الغسلة والغسلتين على الجواز، ورواية الثلاث على الكمال.
وقد حمل الشافعي وابن خزيمة هذا الاختلاف من باب اختلاف المباح.
قال الشافعي: “ولا يقال لشيء من هذه الاحاديث مختلف مطلقاً، ولكن الفعل فيها يختلف من وجه أنه مباح، لا اختلاف الحلال والحرام، والأمر والنهي، ولكن أقل ما يجزئ من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاث”.
وبوَّب ابنُ خزيمة في “صحيحه”: باب إباحة الوضوء مرة مرة، والدليل على أن غاسل أعضاء الوضوء مرة مرة مؤد لفرض الوضوء؛ اذ غاسل أعضاء الوضوء مرة مرة واقع عليه اسم غاسل، والله – عز وجل – أمر بغسل أعضاء الوضوء بلا ذكر توقيت، وفي وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم – مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأعضاء الوضوء شفعاً، وبعضه وتراً دلالة على أن هذا كله مباح، وأن كل من فعل في الوضوء ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – في بعض الأوقات مؤد لفرض الوضوء؛ لأن هذا من اختلاف المباح، لا من اختلاف الذي بعضه مباح وبعضه محظور”.
ومما ينبه عليه في هذا المقام جواز تثليث الرأس وهو مما يخفى على كثير من طلبة العلم، مع وروده برواية صحيحة عند أبي داود وابن خزيمة عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل هذا.
قال الحافظ في “الفتح”: “وقد روى أبو داود من و جهين، صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، و الزيادة من الثقة مقبولة”.
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: “وهو الحق؛ لأن رواية المرة الواحدة وإن كثرت لا تعارض رواية التثليث؛ إذ الكلام في أنه سنة، ومن شأنها أن تفعل أحياناً، وتُترك أحياناً، وهو اختيار الصنعاني في سبل السلام.
فظهر بما تقدم أن الروايات المختلفة في كيفية الوضوء لا تعارض بينها، بل هي من قبيل اختلاف التنوع، كما يقول ابن تيمية، ويلحق بها روايات دعاء الاستفتاح، وروايات القراءة في الصلاة، وروايات صلاة الوتر، فقد وردت على كيفيات متعددة، ليس بعضها ناسخاً لبعض، ولا يعارض بعضها بعضاً، بل هي من باب التنوع وبيان الجواز، ولعل في هذا التعدد حكمة وهي التوسعة والتيسير على المكلف، وهذا شأن الشرع الحنيف، وإن كان شأن المتعبد أن يطلب الكمال والتمام في عباداته.