الحبُّ وإشكالية الوجود
تاريخ النشر: 06/02/13 | 6:00خلق الله سبحانه آدم من الطين ، وحالما فتح عينيه كان الشعور بالوحشة ملازما للوجود ، وكانت الرحمة بخلق حواء من ضلع نابض بالحياة متوهج بالحركة ، لذا كان وجودها معه مصدر حيوية وعطاء وألفة ومصدر حوار قادهما للبحث عن الحرية والاختيار فكان الطرد والنفي ، وظل البحث عن المعرفة هاجس المخلوقين تكيفا مع الكون الجديد الذي هبطا إليه وتأمينا للحاجات التي استجدت في بيئتهما الجديدة وطبيعة التغيير الذي لحق بأعضاء الجسدين .
ومع الصعوبات الجمة التي لازمتهما كان الحب دواءهما في الوحشة ، وكان البوح خلاصهما من عذاب النفي .
هذا ما أرادت الحياة الجديدة قوله وحتى يومنا المزدحم بشتى المعاناة هذا : الحب بكل ألوانه وأشكاله وتمثلاته هو الخلاص من عزلة الروح وسجن الجسد ، خلاص من الواحدية الخانقة ومن انكفاء الروح وذبول النفس في كون غامض كبير ومعقد ، ووسط عصر يختنق بإيديولوجيات متناقضة ملأت الحياة بالضوضاء والفوضى وقتلت روح الإنسان .
وهو انفتاح على الآخر في حوارية حميمة ، وشفاء من شقاء الآخرين الذين يمثلون القيد والحد والعبء والرقابة ، الحب وحده علاج الاغتراب وانكفاء الذات على ذاتها ؛ كونها تعيش مع الآخر لحظة الحرية التي تقول فيها ما لا يمكن أن تقوله إلا لذاتها وقد صارت آخر محبوبا في نقاء وصفاء فريدين ، ولجلال هذه اللحظة الإنسانية المشعة كونها بوح روحٍ لروح فقد ذكرها القران الكريم بغاية الاحترام والتبجيل(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْن َمِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا..النساء 21) والاستفهام هنا يفيد الإنكار والتعجب ، إنكار الذات العلية لأي مساس بتلك الحالة الراقية ، حالة الإفضاء ، وتعجب من أمر مَنْ يخون لحظات البوح الحميم حتى في أمرِّ ظروف الحياة خصومة أو قسوة .
والمتأمل بخفايا دلالة الآية يدرك اللوم الخفي العميق الموجه للرجل ؛ كونه الأقوى بالعرف المجتمعي والأشد عضدا بما يؤازره من نفوذ الجماعة وسطوتها ؛ بيده سلطة الأخذ وسلطة ضرب الحلو بالمر والشفافية بالجفاء .
إن الحب هبة السماء للإنسانية تعويضا للبشرية عما في الأرض من اقتتال فادح وشرور ، ولعل أيَّ فن من الفنون لم يرتبط بالحب كما ارتبط به الشعر وخلده ؛ كون مشاعر الحب مرتبطة بصميم الذات الإنسانية أصلا وليس بالحب موضوعا ، فأثر التجربة يختلف من إنسان لآخر ، لاختلاف حدة المشاعر ونسبية تأثيرها والتأثر بها ؛ ولذلك يتجلى الحب جديدا في كل تجربة جديدة ليصدر الشعر بمشاعر وتجليات مبدعة .
الحب مصدر فرح وقوة واقتدار لأنه أرقى مظاهر الإبداع في القدرة على مغادرة الذات والتحرر من أسر القيد والكيد . الحب إبداع لأنه يرفض الاشتغال داخل معايير الجماعة ورتابة زمنها وقوانينها النفعية ؛ فهو يتسم بمنطقه الخاص وقوانينه التي لا تنبع الا من صميمه ومن تفتح الحرية الداخلية التي تمنح الإنسان كرامة روحه ليمتاز عن بلادة القطيع وعن السائد والمعتاد الزاحف نحو مصيره المحتوم في موت بلا أثر ، تلك الحرية المبدعة التي يولد بها وينمو ويزدهر ، وإذا كان الحب إبداعا ، فالإبداع لا يصدر إلا عن قوة ، قوة إلهامية وقوة معرفية وقوة تنظيمية ، وحين يتداخل إبداع الشعر بالحب فإنهما يضاعفان من طاقة الفعل المبدع ؛ لأنهما يصدران عن فيض الطاقة الإنسانية التي لا يمتلكها غير الذكاء الإنساني الخلاق ، ذلك الذي يقدس حريته ويحمي حدائقه ويعرف كيف يُديم شموسها ويدافع عنها .
وهكذا كان الفعل في قصائد الشعر العظيم وآثار الفن الخالد ؛ فالحب الذي تغنت به الفنون هو الحب الأسمى الذي ينأى عن الوسائل وقوانين الإرشاد ولذة الأبدان وجدل بايولوجيا التكاثر والتناسل ؛ لأنه الأكبر والأرقى من كل ذلك ؛ كونه المشاعر والأحاسيس المطلقة صفاءً والتي تنبثق من أعماق الروح لتمتزج بروح الحبيب مع جزئيات الكون وتفاصيله الرحبة شجرا وضوءا وانهارا ولذة واشتعالا وعبير حدائق لتشفَّ وتسمو ، عبر لحظة إنسانية روحانية ربانية تهب الروح ما يجعلها قادرة على العطاء أكثر بعيدا عن حساب الربح والخسائر ، وتماهيا مع البذل بسعادة التحليق في الأعالي ، متمكنة من الإبداع أكثر ، ومن الفعل والتأثير أقوى ومن الرؤية والفهم أعمق ، ومن الحلم أبعد ما يكون .
ولتنفتح على ما في داخلها من طاقات كامنة وخلايا نائمة تُفعّلها النار المقدسة التي ظلت سرا عصيا على الكشف إلا بما ينهمر خلالها من اللطائف ؛ ليكون الحب منقذ الإنسان من التشيء ورتابة الزمن الديمومي حين يضفي على الحبيبين من الصفات الإنسانية أبهاها وأكثرها حركية ، فلحظات الحب ذات تلاوين شتى لا تستقر على حال إلا حالة التوهج والوعي بما هو كائن ؛ لأن الحب لا يحيا إلا في اللحظات المتقطعة الواثبة ، وهذا الوعي هو ما يجعل من الحب خلاصا حتى لو كان وهما ، فالحياة في حقيقتها وهم حسب أفلاطون ومعظم الفلاسفة والمتأملين ، واستعارة حسب المتصوفة وهذان التوصيفان للحياة لا ينكشفان الا بالموت الذي هو الحياة الحقة ، فإذا كانت الحياة وهما فإن الحب أجمل ما في هذا الوهم من حقيقةٍ بها تستحق الحياة أن تعاش بجدارة ووعي ، ولذلك وحده كان حب الله عبادة ، بل وأصفى أنواع العبادات ، وكان النظر – حبا – بوجه الأمهات عبادة وكان العذاب بحب الحبيب حضورا وشهادة .
نعم ، الحب خلاص حتى لو كان وهما ؛ لأن به وحده يمكن أن نقول من الجمال ما لا يقال خارجه ، ونسمع من البهاء والألق ما لا يمكن أن نسمع بعيدا عنه ؛ لأنه الوهم الجميل المقتدر على تصوير المحبوب للمحبِّ خارقا فيه من المدهش والخلاق ما ينأى به عن المألوف فيجعلنا في توق دائم لغير المألوف والمتجدد ؛ ولذلك نشعر بالافتقار إليه والحاجة لحضوره ، لكن هذا الحضور ما ان يدوم حتى ينتابه الشحوب والانطفاء حالما يتحول الاستثنائي إلى اعتيادي والمفتقد لموجود ؛ ولذلك كان الغياب الذي يُديم الأشواق شرطا لدوام الحب ؛ فضلا عن كون ذروة المتعة في الحب ملتبسة بلحظة الموت لأنها لحظة انفصال .
الحب خلاص حتى وهو مصحوب بالعذاب ومهدد بألم الغياب ، شرط أن يكون ذلك العذاب واعيا بجوهره ؛ كونه ثورة على بلادة اللا حب ورفضا للهمود ورتابة العيش واستكانة المصير وغياب الانتظار بسبب غياب المحفز وفقدان التصميم والدافعية التي تشيع النشاط والحيوية في الكون ، وغياب الانتظار إنما يعني انغلاق الأفق وهيمنة عوامل السلب التي تؤدي لخمول خلايا التركيز المخية الفاعلة والمحفزة على الإبداع ، حيث يسود السكون ويلف الكون شعور بالعدم واللا جدوى وعبثية الآتي . الحب بكل أوهامه وعذاباته أمل وتوق وانتظار ، والانتظار سعي نحو المحبوب أيا من كان ؛ وتواصل مع الحلم وما سيكون .
أن ننتظر يعني أن نحيا ، أن ننتظر يعني أننا نركز باتجاه هدف راقٍ ، والهدف أسمى المعاني التي يمكن لحياة المبدعين تحقيقها ، لأن هدف الأغيار محصور في حاجاتهم وغرائزهم الاعتيادية ، أن ننتظر يعني أن معنا مَنْ وما يستحق مكابدة الحياة التي أرهقتنا .
مِن هنا كان الحب خلاصا في مطلقيته حين ينعتق الإنسان به وفيه من كل ما يكبله ، وقد وعى بعض الفنانين والروائيين تلك الحقيقة فأقروا الغيابَ المنظَّمَ وتطوير الذات الدائم وسيلة لدوام الحب المتوهج ، وهدفا لإذكاء الشعر العظيم من خلال الإمساك بلحظة اللقاء ثم الغياب الملتبس بالحضور .
تلك اللحظة الحقيقية التي لا حقيقة سواها ؛ فالماضي محترق منتهٍ وقد أفرغ الإنسان منه اليدين إلا ما فيه من ذكَرٍ وأثر ، والآتي غيب مغيب علمه في الأقدار الخفية ، وليس بمقدورنا الإمساك إلا باللحظة الحاضرة ؛ ولذلك كان الحب مصحوبا بالحزن عبر الفنون كلها وعبر تجارب المحبين ؛ لأنه مهدد بالفقدان والفراق وعذل العذال ، بهجته استثنائية والألم فيه دائم ، بينه وبين المحب ما بين المطلق والمحدود المقيد ، فكيف يتمكن المحدود من احتواء المطلق ..؟
الحب ش مو محسوس..
بشحن وبقوي الروح والنفوس..
معانيه والاحساس فيه مو بالقاموس..
جمالو وطاقتو كألوان الطاووس..