أمسية ثقافية حول رواية “فاطمة” بكفرياسيف
تاريخ النشر: 30/05/15 | 19:53أقامتْ مؤسّسةُ محمود درويش للإبداع في مقرّها- كفر ياسيف أمسيةً ثقافيّة للأديب محمّد نفّاع، وإشهار روايتِهِ الأخيرة “فاطمة”، وذلك بتاريخ 27-5-2015، وسطَ حضورٍ مِنَ الأدباءِ والكُتّابِ والأصدقاء، وقد رحّبَ الأستاذ عصام خوري رئيسُ المؤسّسة بالحضور، ثمّ تولّى إدارةَ الأمسيةِ د. بطرس دلة، وكانتْ مُداخلاتٌ حولَ الروايةِ لكلٍّ مِن د. محمّد هيبي، د. راوية بربارة، والكاتبة رجاء بكريّة، ومداخلاتٍ أخرى من الحضور، ثم كانت كلمة شكر للمحتفى به محمّد نفاع، والتقاط الصّور التذكارية.
جاء في مداخلة د. بطرس دلة: المنظورُ الفكريُّ في رواية فاطمة للقاصّ محمّد نفّاع: يقولُ الكاتبُ الباحثُ حسين حمزة في كتابهِ (صورُ المرايا): لا شك أنّ كلَّ نصٍّ أدبيٍّ كيفما كانَ نوعُهُ يَتمُّ ضمنَ بُنيةٍ اجتماعيّةٍ مُحدّدةٍ، وضِمنَ مَرجعيّةٍ تقافيّةٍ تُسقِطُ تَصوُّراتِها على النّصّ، شريطةَ ألّا يتغلّبَ الواقعُ السياسيُّ على الواقعِ الأدبيّ”، وأضيفُ: شريطةَ أنْ يَبتعدَ عن المُباشرةِ والتقريريّةِ في سردِ الأحداث .
القاصّ محمّد نفّاع كانَ واعيًا لهذا الشّرط عندما كتبَ القصّةَ القصيرة، وكانَ أكثرَ وعيًا عندما كتبَ روايتَهُ فاطمة، فمِن خِلالِ وعيِهِ عرَفَ كيفَ يُحافظُ على واقعِهِ الأدبيِّ، إلى جانبِ المُحافظةِ على فنّيّةِ النّصِّ، على الرّغم مِن الظّروفِ السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ الّتي يعهيشُها مِن جهةٍ، والّتي يَعيشُها شعبُنا العربيُّ الفلسطينيُّ من جهةٍ أخرى، فهو كإنسانٍ مُثقّفٍ وقارئٍ نهِمٍ وكاتبٍ، أصدرَ حتّى الآنَ العديدَ مِنَ القِصصِ في صحيفةِ الاتّحاد، وفي المجموعةِ الّتي كانَ آخِرُها “التّفاحة النهريّة”، وأتبَعَها بهذهِ الرّواية.
لغةُ الرّواية: محمّد نفّاع أديبٌ مُطّلعٌ على شواردِ اللّغةِ العربيّةِ وغرائبِها، ولهُ زاويةٌ خاصّةٌ في صحيفةِ الاتّحادِ الّتي هو محرّرُها المسؤولُ عنها، يُعالجُ فيها بعضَ المُصطلحاتِ اللّغويّةِ، من أجلِ تصحيحِ استعمالاتِها على أيدي الكُتّابِ والمُبدِعين، وقد جَمَعَ مئاتِ التّعابيرِ باللّهجتيْنِ الفصيحةِ والعامّيّة، فجاءتْ كتاباتُهُ خليطًا مِن هاتيْنِ اللّهجتيْن، ونحنُ نعرفُ أنّ اللّجوءَ إلى العامّيّة يُسهِّلُ على الكاتبِ الخوْضَ في كلِّ نصٍّ بحرّيّةٍ تامّةٍ، لا تُقيّدُهُ قيودُ النّحوِ والصّرفِ في قواعدِ اللّغةِ العربيّةِ، والغريبُ في لغةِ صاحبِنا أنّهُ يَحفظُ آلافَ التّعابيرِ العامّيّةِ، يَضعُها في نصوصِهِ بشكلٍ ذكيٍّ، كي تُعبِّرَ عن مُستعمِليها مِن أبطالِ روايتِهِ وقصَصِهِ، فتأتي أكثرَ تعبيرًا وقوّةً وانسجامًا معَ ما حولها، وما زلنا نذكُرُ دفاعَ أديبنا الرّاحلِ مارون عبّود عن اللّهجةِ العامّيّة، حيثُ كانَ يؤكّدُ في مُحاضراتِهِ في الجامعةِ الأمريكيّةِ ببيروت، أنّ التّعبيرَ باللّغةِ العامّيّةِ قد يَكونُ أكثرَ وقعًا أحيانًا مِنَ اللّغةِ الفصيحة (قصّة ناتع). إنّهُ يَعي تمامَ الوعيِ الفارقَ بينَ المَعاني المُباشرةِ للمُصطلحاتِ وبينَ الدّلالاتِ الخافيةِ خلفَ المصطلحات، ولو ناقشنا بعضَ هذهِ المُصطلحاتِ، لوجَدْنا أنّ بعضَها يَحملُ دلالاتٍ بصَريّةٍ وسمعيّةٍ حسبَ العلاقةِ النّصّيّة، فيَقولُ في أحدِ المواقفِ: فلان يَمشي مفاحجة! فما مَعنى مفاحجة؟ إنّها تعني أنّ فلانًا يَتعثّرُ في مِشيتِهِ، فيوَسّعُ ما بين رِجليْهِ عندَ الخطوِ، وقد يُضيّقُ ما بينهما لِعِلّةٍ تُضايقُهُ بينَ رجليْهِ، أو لأنّ الطريقَ الّتي يَسلكُها غيرُ سالكةٍ أو لأيّ سببٍ آخر! المُهمُّ أنّنا عند قراءةِ هذا النّصِّ، سوفَ تتكوّنُ في مُخيّلتِنا صورةً لذلكَ البطلِ وهو يَمشي، لا ككُلِّ مَن يَمشي! هكذا إذن فإنّ المصطلحَ العامّيَّ هنا لا يَكونُ لهُ بديلٌ باللّهجةِ الفصيحةِ. وفي مكانٍ آخرَ يَلجأُ للمُقابلةِ الّتي تُكسِبُ النّصَّ جمالًا بديعيًّا كقولِهِ ص14: “هذا اسمُهُ تبذير وقِلّة تدبير، لكن مع مين تحكي!” هكذا يُقابلُ بينَ لفظتَيْ تبذيرٍ وتدبيرٍ، وينتهي بالعامّيّةِ في كلمتَيْ مين بدلَ مَن، وتِحكي بكسْرِ التّاءِ بدلًا مِن تَحكي بفَتْحِها. وص21 يقول: “لم تتوفّقْ في حياتِها الزّوجيّة، فقط بعدَ شهورٍ مِن فرحِها
ماتَ زوجُها بغبّةِ قلب، لم تكنْ فاطمة حاملًا، العِلم عندَ الله لا وَلد ولا تلد، يمكن ابن عمّها عريسها ما غدر يجوز عليها، بخعته ومن يومها حرّمِت على الزّواج”.
المُصطلحاتُ العامّيّةُ نقوشٌ تُلوّنُ النّصَّ الفصيحَ، وتُكسِبُهُ الشيءَ الكثيرَ مِنَ الجَمالِ، خاصّةً لأنّها تأتي بشكلٍ طبيعيٍّ، مُنسجِمةً معَ ما حوْلَها مِن اللّهجةِ الفصيحةِ، فلا تَعثّرَ فيهِ ولا فوقيّة ولا ابتذال. وفوقَ ذلكَ لجأ إلى أسلوبِ الحكايةِ الشّعبيّةِ الّتي تبدو بسيطةً في خارجِها، إلّا أنّ لها دلالاتٍ بعيدةَ المدى لمَنْ يَتأمّلُ النّصَّ أكثرَ مِن مرّةٍ، ويَلجأ إلى لغةِ الحوارِ مِن خلالِ السّردِ، فيَدخلُ في حوارٍ مُتوَهِّمٍ كمَن يُحاورُ ذاتَهُ ص243، بعدَ أن ماتتْ فاطمة وهو يتّكئُ إلى القبرِ حيثُ يقول: “بترودح؟ -آه برودح –عالحزن؟ -عالحزن. بكيت عليّ كثير؟ -معلوم كثير! –رحموني؟ -ألّفت الرحمات عليكي. –نوّحوا عليّ؟ –نوحوا وعتّبوا.. أجرك أحمى أجر -وزعقت من قحف رأسي.. منين بتحكي؟ اطلعي من القبر.. ورددت الخلات والمغر والوديان.. بر بر بر!”
إذن؛ يلجأ إلى أسلوبِ الحوارِ من أجلِ تقويةِ أسلوبِ السّردِ، ومِن أجلِ التّنويعِ الّذي يُبعِدُ المللَ عن القارئ، وبالتالي قد يُجبرُهُ على عدمِ الاستمرارِ في القراءةِ، وفوقَ كلِّ ما ذَكرْنا، يُلاحظُ القارئُ العاديُّ أنّ الكاتبَ خفيفُ الظلّ، فيما يَسرُدُ وفيما يُحاورُ، حيثُ يَلجأ إلى الكلماتِ العامّيّةِ المُثيرةِ كقوْلِهِ: زعقت مِن قحِف راسي!
هذا الأسلوبُ في الحوارِ جعلَ لغةَ نفّاع لغةً ديناميكيّةً فيها الكثيرُ مِنَ الحرَكةِ، إلّا أنّ الأحداثَ في هذهِ الرّوايةِ لا تَتماشى مع هذا الأسلوب، فالكاتبُ يَلجأ كثيرًا إلى وصف الطبيعةِ والموجوداتِ في المكانِ الّذي تدورُ فيهِ الأحداثِ، ويُطيلُ في الوصفِ، حتّى ليَعتقِدُ القارئُ أنّ الهدفَ مِن هذهِ الكتابةِ هو وصفُ المكانِ، لأنّ حركةَ الزّمانِ بطيئةٌ، وكذلكَ الأحداثُ تمُرُّ كما يَمُرُّ التّصويرُ البطيءُ، ثمّ أنّ لجوءَ الكاتب إلى الخلطِ بينَ اللّهجتيْنِ الفصيحةِ والعامّيّةِ هو محاولةٌ لخلقِ توتُّرٍ أسلوبيٍّ في المَضمونِ، حيثُ وازى بينَ الشّكلِ والمَضمون، فهو لا يَكتبُ فنًّا مِن أجل الفنّ، بل يَكتبُ مِن خلالِ رسالةٍ سياسيّةٍ اجتماعيٍّةٍ يُؤمنُ بها كأمينٍ عامٍّ للحزبِ الشّيوعيّ الإسرائيليّ، وكمُنظِّرٍ يُؤمنُ بالنّظريّةِ الماركسيّةِ اللّينينيّةِ نظريّةً وتطبيقًا وعُمقًا، فقد تقمّصَ الكاتبُ شخصيّةَ البَطلِ عندما تكلّمَ بلغةِ الرّاوي، أي أنا الرّاوي والمُؤلّفُ، معَ كلِّ إشكاليّاتِ هذا التّقمُّصِ حتّى جلدِ الذّات، لأنّهُ لم يُظهِرْ نفسَهُ كراوٍ بَطلٍ يَحملُ كلَّ صفاتِ البطولةِ الّتي يُحبُّها القارئُ، بل إنّهُ أبرَزَ نقاطَ ضعفِهِ إزاءَ قوّةِ شخصيّةِ فاطمة، مِن بابِ احترامِهِ لبطلتِهِ فاطمة، حيثُ يَلعبُ دوْرَ الشّابّ العاشقِ لصبيّةٍ عاركَتِ الحياةَ، وعاشتِ العلاقاتِ الجنسيّةَ معَ الزّوجِ المُتوفّى أوّلًا، ثمّ معَ غيرِهِ مِن الشّبابِ والرّجالِ البالغينَ، حتّى ولو كانَ أحدُهُم راعيًا، إلّا أنّهُ بالنّهايةِ قسَا بشدّةٍ على بَطلِهِ– وهو نفسُهُ الرّاوي- فجعلَهُ يَهذي فوقَ قبرِ حبيبتِهِ بعدَ موْتِها، لأنّهُ لم يَحتمِلْ صدمةَ موتِها وهي حبيبةُ القلب.
سُئِلَ أحدُ الكُتّابِ الكبارِ: لماذا تقسو على أبطالِكَ؟ أجابَ: كي أكسبَ عطفَ ورضى القرّاءِ عليهم! فهل كانَ هذا دافعُ كاتبِنا في إظهارِ بطلِهِ كراوٍ بصورةِ شابٍّ قليلِ التّجاربِ معَ النساءِ، وفي مُقتبَلِ العُمرِ يعيشُ بقلبِهِ لا بعقلِهِ في رومانسيّتِهِ الشّبابيّةِ، إزاءَ معشوقتِهِ فاطمة القويّةِ والمُجرّبة؟!
محمّد نفّاع الكاتبُ السّاخرُ: يُلاحظ القارئُ أنّ الأسلوبَ مُبطّنٌ، بحيثُ يَسخرُ مِن بعضِ العاداتِ والتّقاليدِ الباليةِ، ويَسخرُ مِنَ الأفكارِ الرّجعيّةِ في تقييم المُجتمعِ للمرأةِ المُنفتحة، ولكن بأسلوبٍ مُبطّنٍ غيرِ صريح! (ص217) يلجأ إلى التّناص في قصّةِ الحيّة: “صاحبةُ البيتِ راحت ترشقُ السّقفَ.. نقلتْ عشَّ الحيّةِ معَ البيْضِ إلى مَكانٍ آخَرَ. جاءتِ الحيّةُ ولم تجدْ عشَّها وبيْضاتِها، بخّت السُّمَّ في طنجرةِ اللّبنِ وغابت. أعادتْ صاحبةُ البيتِ العشَّ إلى مَكانِهِ، جاءتِ الحيّةُ ووجدت العشَّ، فما كانَ منها إلّا أنْ نزلتْ ولكّتْ على طنجرةِ اللّبنِ وقلبَتْها لينكبَّ اللّبنُ المَسموم. كلّ عاطلٍ قبالَهُ عاطل، وكلّ منيحة قبالها منيح، الحية وإلها خطيّة”.
هذا الإيمانُ والمفهومُ للعملِ الجيّدِ والعملِ السّيّئِ لا يُؤمنُ بهِ سوى بُسطاءُ النّاس، فنجدُ الكاتبَ يَروي الحكايةَ كما لو كانَ مُؤمنًا بصحّتِها، مع أنّ الفِكرَ والأيديولوجيا اللّتيْن يُؤمنُ بهما لا يَنسجمانِ معَ هذهِ الحكايةِ، إلّا مِن بابِ السّخريةِ والطّعنِ بالعاداتِ والتّقاليدِ القديمة. (ص202): “والشّيوخُ في لحظاتِ الفرحِ يَتسامحونَ ويَغضّونَ النّظر، والنّظرُ مَشغولٌ!” لهجةُ السّخريةِ مِن رجالِ الدّين الشّيوخِ في تكرارِ كلمتي (والنّظرُ مشغول)! فبماذا يَنشغلُ نظرُ هؤلاء؟ إنّهُ يَنشغلُ بمفاتنِ جسدِ فاطمة الّتي ترقصُ أمامَ صفِّ السّحجةِ بالسّيفِ، وتُلقي التّعليقاتِ المُثيرةِ على هذا وذاك مِن الواقفين المُتحمّسينَ في صفّ السّحجة، والرّاوي بطلُ الحكايةِ يَحظى بكلمتيْن تخصُّهُ فيهما بشيءٍ مِنَ التّحبُّبِ الّذي توليهِ لهُ بقوْلِها: ظبّطْ سحجتَك يا نمرود! وزيادةً في السّخريةِ يَتّخذُ الرّاوي موْقفًا لا يمكنُ أن يَقبلَهُ المَشايخُ عندما أتى بفاطمة إلى الخلوة تطلبُ دينَها، لتُصبحَ مِنَ المُتديّناتِ وهي امرأةٌ سيّئةُ السّمعة، فتثورُ كلماتُ الدّهشةِ والاستغرابِ مِنَ المُتديّناتِ في جلسةِ الخلوة إيّاها، فتقولُ إحداهنَّ (ص163): “ليكو ليكو مين جاي! الحريقة!” وتّعلّقُ أخرى: “عزا عزا عزا! الدنيا آخر وقت! وتقول ثالثة: الله يبرّينا! مشهاب من مشاهيب جهنم! وتعلّقُ أخرياتٌ بالقول: لا أهلا ولا سهلا كانت الغيبة أجلى! الممحونة اللعينة جاي على مجلس سيد الخلق! اما فاطمة فتبادر بطرح السلام قائلة: مسّيكو بالخير! ويأتي الرد: أهلًا وسهلا! وينتهي الموقفُ بقبولِ توبةِ فاطمة، لكنّهُ لا ينتهي في البيوتِ، لأنّ النّسوةَ المُتديّناتِ يتّهمنَ أزواجَهُنَّ، فيَصِلُ الحالُ بإحداهِنَّ إلى أن تتّهمَ زوجَها وتوجّهُ لهُ اللّومَ “ص168: -“كنك كاين طابب عليها يا فاعل يا تارك؟” -: “انصتي بلا قلة حيا! وتلاحقه الزوجة بقولها: قرّ الصحيح! عينك رقدت”! وهذه أخرى تُحاور زوجَها ص179: “عم تطحن ناعم مبيّن! رقّ درسك! اِحلف ما قرّبت عليها! فتقول فاطمة “ص171: هيك سلّموني الدّين! كثار طلبوا العاطل منّي. عينهن راقدة من إشي قليل؟!”
مواطنُ الجَمالِ في الرّواية: تنضحُ الرّوايةُ بالتّعابيرِ والجُمَلِ الّتي فيها الكثيرُ مِنَ الجَمال، لأنّ الكاتبَ لديهِ طاقاتٍ كبيرةً في ترصيعِ الجُملِ بالصُّوَرِ والتّشابيهِ والاستعاراتِ، وما إلى ذلكَ مِن أساليبِ البلاغة، والنماذجُ تملأُ صفحاتِ الرّواية. ففي ص217: أزاح الوعر عنه غطاء الليل”! فالاستعارةُ والتّشبيهُ يَكمنانِ في كلمتيْ أزاحَ وغطاءِ، لأنّ الإزاحةَ لا تأتي مِنَ الجَماد، حيثُ شبّهَ الوعرَ بإنسانٍ يُزيحُ الغطاءَ، واللّيلُ لا يتغطّى بغطاءٍ أسودَ بل الإنسان! هذا الوصفُ الرّائعُ مَرسومٌ بالكلماتِ. ويقولُ الرّاوي ص256: “لهبةُ السّراج كانت تقف أحيانًا كأنّها تُفكّرُ أو ترتاح من الرّقص”. إنّهُ يُؤنسِنُ اللّهبةَ ويَجعلَها إنسانًا تعبَ مِنَ الرّقص. “بعدَها تعودُ تترنّحُ وتتمايلُ! النّارُ الموهوجةُ في الموقدة يَخفقُ بصوتٍ عميقِ الرّقص! والموقدة بهو بهو بهو، وخيالُ اللّهب يَتلاعبُ على وجهِها الأبيضِ، فيُحمْرق ويتورّدُ والعيونُ عليها، والدّخانُ يَميل على وجهِها قبلَ أن يُكملَ طريقَهُ إلى السّقفِ، ويَخرُجَ مِن الدّاخونِ إلى الفَلا! هذه لوحةٌ بصريّةٌ حتّى ولو عبّرَ عنها الكاتبُ بالكلماتِ، لأنّنا نكادُ نُبصرُها بعينِ خيالِنا!
تبدو لغةُ الكاتبِ بسيطةً كبساطةِ حياةِ أبطالِهِ، لكنّها لغةٌ مفهومةٌ ومُؤثّثةٌ بإيحاءاتٍ يَستطلعُها القارئُ ويتمتّعُ بها، لأنّها تأتي مُنسابةً وذاتَ إيقاعٍ جميلٍ كما الشّعر الجميلِ الموْزونِ المُقفّى، وهي ذاتُ رشاقةٍ خاصّةٍ وأناقةٍ مُنتقاةٍ بذائقةٍ مِن قاموسِهِ الغنيّ بتعابيرَ ومصطلحاتٍ تسحرُ القارئَ، وهو يَعيشُ حلمَ أبطالِهِ، ولكنّهُ لا يُحقّقُ ذلكَ الحُلم! ليسَ لدينا أدنى شكٍّ، في أنّ الكاتبَ ما زال مُتأثّرًا بما حدثَ في نكبةِ عام 1948، وتشريدِ مئاتِ اللّاجئينَ الفلسطينيّين، إلّا أنّهُ في هذه الرّوايةِ ابتعدَ عن زمنِ النّكبةِ، وجاءَ ليقرّرَ أنّهُ يَعيشُ زمانًا جديدًا فيهِ الكثيرُ مِن النّقمةِ، على الظّروفِ والأوضاعِ الّتي يَعيشُها الفلّاحُ الفلسطينيُّ في مَسقطِ رأسِهِ بيت جن. وما تصلحُ نِسبتُهُ إلى بيت جنّ الدّرزيّة، يَصلح تطبيقُهُ على جميع القرى العربيّةِ الفلسطينيّة. وإذا كانت بطلةُ الرّواية فاطمة، فإنّ اتّخاذَ المرأةِ لتلعبَ دوْرَ البطلةِ، فيهِ شيءٌ كثيرٌ مِنَ التّلميحِ إلى الأرض. وإذا كانت الخصوبةُ إحدى مميّزاتِ الأرض، فإنّ خصوبةَ المرأةِ لا تقلُّ عنها أهمّيّة! إلّا أنّه جعلَ فاطمة عاقرًا، كما أنّ نضالَ الفلّاحينَ الفلسطينيّينَ والقوى اليساريّةِ المُكافحةِ ضدّ المُحتلّ ما زالَ عاقرًا، ولم يُثمرْ في تحقيقِ النّصرِ الموعود، وهو كنْسُ المُحتلِّ وتحقيقُ الثّوابتِ الفلسطينيّة! ما يُمكنُ أن نُضيفَهُ إلى هذه الروايةِ، أنّ أسلوبَ الكاتب محمّد نفّاع مع طريقةِ السّردِ والسّخريةِ، تجعلُ الرّوايةَ قابلةً للمَسرحةِ وتحويلِها إلى مسرحيّةٍ أو شريطٍ سينمائيٍّ رائعٍ، خاصّةً بسببِ حيويّةِ الحِواراتِ والصُّورِ الكلاميّةِ الّتي أثرَتِ النّصّ.
أخيرًا: جاءَ الفصلُ الأخيرُ قويًّا ومميّزًا ومُختلِفًا عن النّمطيّةِ في الرّوايات، حيث قضى الكاتبُ على البطلةِ الجميلةِ الّتي تعلّقَ بها الراوي لتموت، فيتأسّفُ على موتها هو وكلُّ مَن تعرّفَ عليها في مختلفِ مواقفِها، وجعلَنا نحزنُ بحُزنِهِ! وزادَ على تمَسُّكِهِ بالأرضِ، أن جعلَ نفسَهُ الرّاوي في موقفِ المُدافِعِ عن الأرض، حيثُ يُصاب بطلَقٍ في فخذِهِ خلالَ دِفاعِهِ عن المكان، فيَسيلُ خيطٌ مِن الدّمِ على حجارةِ قبرِ فاطمة، لم يشعرْ معهُ البطلُ بالألمِ في البداية. وبالرّغم مِن موتِ فاطمة، فإنّ الحياةَ لم تتوقّفْ بالمرّة، لأنّ سمّاخ القمح ظلّ يَكبرُ وورقَ البرقوقِ يَرتعشُ، والعصافيرَ تُغنّي وتُزغردُ في فرح، وشبّابةَ الراعي ترشح مع الحجل، ونسرًا وقورًا يَحوّمُ في الجوّ حوماتٍ دائريّةً واسعةً فوقَ كلِّ الأرض! أيّها الصّديقُ محمّد نفّاع، لكَ الحياة!
جاءَ في مداخلةِ د. محمّد هيبي: يَقولُ ميخائيل باختين أحدُ كبارِ مُنظّري الرّواية: “إنّ الرّوايةَ عملٌ غيرُ مُنتَهٍ”، وأظنُّهُ يَقصدُ بذلك أنّها تُعادلُ الحياةَ، فهي مستمرّةٌ ما استمرّت الحياة، ومُتجدّدةٌ، وتحملُ همومَها وتعقيداتِها. فهذا القولُ في رأيي مَهَّدَ للرّوايةِ الحداثيّةِ، وما يُعرفُ اليومَ بالرّوايةِ التّجريبيّة، حيثُ يبحثُ الكاتبُ عن مضمونٍ مُميّزٍ يُقدّمُهُ في شكلٍ مُميّزٍ أيضًا. رواية “فاطمة” التي أتحفَنا بها هيَ عملٌ روائيٌّ مميّزٌ. “كون وعامر”، يَجمعُ في طيّاتهِ أكوانًا عامرةً، مُتّصلةً ومتداخِلةٍ، تزخرُ بما متحَهُ مِن فِكرِهِ التّقدّميِّ النيّرِ، وفِكرِهِ الوطنيِّ والأُمميّ، وثقافتِهِ وذاكرتِهِ، وقدّمَها لنا على طبقٍ مِن ذهبٍ اسمُه “فاطمة”. وأتوقّفُ عندَ بعضِ ملامح لغةِ الرّوايةِ وبعضِ مَلامحِها السّياسيّة. لو اقتصرَتْ “فاطمة” ولغتُها الفريدةُ على أسماءِ الحيوانِ والطّيرِ، والنّباتِ والمكانِ، وعلى عناصرِ القصصِ الشّعبيّةِ والأهازيجِ والأمثالِ الّتي تُوثّقُ التّراثَ، خارجةً عن أيّ سِياقٍ، لكانَ ذلكَ يَكفيها، فما بالكَ وهي تحتضنُها جميعًا، وكلٌّ منها في سياقِهِ الّذي يَليقُ بهِ، وبنفَسٍ سَرديٍّ مُمتعٍ ومُذهل، لا أعتقدُ أنّ كاتبًا آخرَ يستطيعُ أن يَفعلَ ما فعلَهُ نفّاع، وأن يَجمعَ ما جمعَهُ، ويُوثّقُ ما وثّقهُ، وأنْ يَبني هذا الكونَ العامرَ المَدعو “فاطمة”، وبتلكَ اللّغةِ الّتي يتفرّدُ بها.
“فاطمة” بشكلٍ ما، هي عملٌ موسوعيٌّ، ونحن بحاجةٍ إلى المُعجم الّذي ذَكَرَهُ الأستاذ إبراهيم طه في مقالِهِ حولَ الرّواية، فأجيالُنا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى معرفةِ ما يُوثّقُهُ نفّع، فأنا وإن كنتُ أعرفُ الكثيرَ مِن عناصرِ التّراثِ المُوثّقةِ في الرّوايةِ، إلّا أنّ الكثيرَ منها أيضًا، خاصّةً أسماء النباتاتِ والطّيور، لا أعرفُ مُسمّياتِها.
لغةُ الرّوايةِ لغةٌ مميّزةٌ وخاصّةٌ بأبي هشام، لا هي فصيحةٌ، ولا هي عامّيّةٌ، لغةٌ فريدةٌ طوّعَها مُستنِدًا إلى مَخزونِ فِكرِهِ وثقافتِهِ وذاكرتِهِ، وإلى لغتِهِ الّتي هي لغةُ كلِّ النّاسِ، على اختلافِ مُستوياتِهم وسلوكيّاتِهم الاجتماعيّةِ ومُعتقداتِهم الدّينيّةِ، وغير ذلك ممّا يزخرُ بهِ هذا الكونُ العامرُ الّذي لم نَعُدْ نخشى زوالَهُ؛ إنّهُ عالمُ “فاطمة” الّذي بناهُ في روايةٍ تتحدّى الزّمنَ ونَكَباتِهِ. (ص30): “ضاع خبر إخوتها في- السفربرلك- وهي على بزّ إمْها”. عبارةٌ شقُّها الأوّلُ فصيحٌ بكلِّ المَقاييسِ، وشقُّها الأخيرُ عامّيّةٌ مَحكيّةٌ بكلِّ المَقاييسِ أيضًا. يَتوسّطُ الشّقّيْنِ السّفربَرْلِك، هذا الاسمُ والمصطلحُ الذي يُلائمُ اللّغتيْنِ: الفَصيحةِ والمَحكيّةِ، ويَجمَعُ بينَهُما. لغةُ الرّوايةِ تَعتمدُ السّخريةَ بدرايةٍ وبشكلٍ مُوفّقٍ، والسّخريةُ تقنيّةٌ لها أهدافٌ مُتعدّدةٌ تعتمدُ تقنيّاتٍ مُختلفةً، وهي وسيلةٌ جيّدةٌ لتعويضِ القارئِ عن خسارتِهِ بسببِ اللّغةِ المُباشِرةِ أحيانًا، أو بُطْءِ السّردِ أحيانًا أو غيرِهما. وسيلةٌ جيّدةٌ لتعريةِ الواقعِ وفضْحِهِ، وللتّعبيرِ عن الألمِ الشّخصيِّ والجّمعيِّ، ألمِ الكاتب والنّاس.
ومِن تقنيّاتِ السّخريةِ التّشويهُ أو المَسخ (Grotesque)، وقد وظّفَهُ الكاتبُ بشكلٍ مُوفّقٍ. فجاءَ على لسانِ “فاطمة” لِرَجُلِ التّسويةِ الّذي جاءَ يَقيسُ الأرض (ص185): “الأرضُ ملاك دولة”، فقالت لهُ: “روح قيس قبر إمّك وبوك، مَطرَح ما انقلزوا يا ابن الكلب”. عبارةٌ تَمسخُ رَجُلَ التّسويةِ كلبًا، وإذا أطلقتم العِنانَ لخيالِكم قد ترَوْنَ في العبارةِ كلبًا ابنَ كلب، يَقيس قبرَيْ كلبَيْنِ، وربّما يَرفعُ رِجلَهُ إلى جانب أحدِهِما. وتعتمدُ السّخريةُ في الرّواية على المُفارقةِ، وهي تقنيّةٌ أخرى مِن تقنيّات السّخرية. مثلا: “وترفع إجر شنتيانها أكثر، المتديّنون يغضّون النظر قليلا”. وتقول “فاطمة” في مكانٍ آخر: “حاشا أن أحط ربّي ورا ظهري”، اُنظروا الفرقَ بينَ رجالِ الدّين و”فاطمة”، مَن مَنهما يتمسّكُ أكثرَ بأخلاقيّاتِ الدّين؟ رجالُ الدّين الّذين يجبُ أن يكونوا قدوةً حسنةً، يَغضّون النظرَ قليلًا، (يعني ممكن يحطّوا ربّهن ورا ظهرهن)، و”فاطمة” الّتي يعتبرها المجتمع “فالتِة” بلا أخلاق، لا يُمكن أن تقومَ بمثلِ هذا العمل. هذه الصّورُ موجودةٌ بكثرةٍ في مجتمعِنا، يَفضحُها الكاتبُ، ويُعرّي بها المجتمعُ وخاصّةً رجال الدين.
محمّد نفّاع كاتبٌ احترفَ السّياسةَ والأدبَ وأبدعَ فيهِما، وبالفصْلِ بينَهما، فالسياسةُ عاهرةٌ تُخفي تحتَ قِناعِها الجَميلِ وجوهًا مُتعدّدةً كلُّها بشعةٌ، وأدبُ نفّاع فنٌّ جميلٌ راقٍ، لهُ وجوهٌ كلُّها جميلةٌ، سواء كانتْ بأقنعةٍ أو بلا أقنعةٍ، وقد عَرَفَ بلغتِهِ وأدبِهِ كيفَ يَجعلُ الغصّةَ تتنامى في حلقِ القارئ ثمّ تتراجعُ، ليُدخِلَ مكانَها البهجةَ والفرحَ، ففيما قدّمَهُ حزنٌ وقهرٌ، ولكن فيهِ بهجةٌ وفرحٌ أيضًا، حيثُ يعيشُ القارئُ بهجةَ ذلكَ الفتى الرّاوي وفرحَهُ بفاطمة، ويعيشُ حزنَهُ وقهرَهُ بموْتِها. روايةُ “فاطمة” ليستْ خاليةً مِنَ السّياسة كما يعتقدُ البعضُ، ولكنّ السّياسةَ فيها تحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ مِنَ القارئِ ليَبلغَها، واختباءُ السّياسةِ في الرّوايةِ لا يَعني أنّ نفّاعَ عاجزٌ عن الخوضِ فيها، وعن مُواجهةِ السّلطةِ الظّالمةِ وسياستِها البشعةِ، فحياتُهُ كلُّها عبارةٌ عن معركةٍ واحدةٍ مُتواصِلةٍ وما زالتْ مُستمرّةً في مُقارعةِ السّلطةِ، لكنّهُ يَرفضُ أن يَطغى الوجهُ القبيحُ لتلكَ العاهرةِ على الوجهِ الجميلِ للأدب، فكأنّي به يُريدُ أن يَحملَ القارئَ إلى عالمٍ جَميلٍ بعيدٍ عن عُهرِ السّياسةِ وقُبحِها، إلى مدينةٍ فاضلةٍ، يوتوبيا جسّدَها في “فاطمة”، لأنَّ عالمَ “فاطمة” الداخليّ ليسَ هو نفسُهُ عالمَها الخارجيّ، وإنّما هو عالمها الخاصّ، الّذي جعلَ منها شخصيّةً مُميّزةً، وقد حاولتْ هي أن تنقلَ عالمّها الدّاخليَّ إلى النّاسِ الّذين تعيشُ معهم، بكلِّ أشكالِهم وعلى اختلافِ مَذاهبِهم. فاطمة الشّخصيّةُ المركزيّةُ البطلةُ امرأةٌ جميلةٌ ومُتميّزةٌ، كأنّها ليستْ مِن هذا العالم. جاء (ص30): “العلم عند الله أنها بدوقة! مش من ظهر هلمسكين”. ولنا أن نتساءلَ: مِن ظَهر مَن إذن؟ ربّما ليستْ مِن ظهرِ أحَد، لأنّها ترمزُ للأرض. وإذا كانتْ مِن ظهرِ غريبٍ، فهل غريبٌ على المُستعمرِ الّذي اغتصبَ الأرضَ سواء كانَ تركيًّا أو إنجليزيًّا، أنً يغتصبَ نساءَها؟ هي امرأةٌ قويّةٌ وشجاعةٌ، أشجع مِنَ الرّجالِ جميعًا. (ص83): “هاي أرجل من كل الزلام”، وهي امرأةٌ مُتميّزةٌ عن النّساءِ كما (ص254): هي “مع النسوان حرمة، ومع الزلام زلمة”، فهي تخرقُ جدرانَ المُجتمعِ وتنتزعُ حقَّها الّذي يَتجسَّدُ في مُمارستِها للجنسِ معَ مَن تختارُهُ هيَ، ومعَ مَن تراهُ يَستحقُّها، (الغول والراعي مثلا). والجنسُ هنا هو رمزٌ للحرّيّةِ، وهو في رأيي تعبيرٌ عن المنشودِ وليسَ عن الموجود، وهي كذلكَ امرأةٌ لا تَسكتُ على ظلمٍ، فلا يَسلَمُ مِن لسانِها ويدِها وحذائِها مَن يعتدي عليها أو على أرضِها. (ص 83): “هجم عليها فشلحت الفردة الثانية من صرمايتها فتراجع واندسّ بين الناس”. وهي امرأةٌ نشيطةٌ وعاملةٌ تشتغلُ في الأرضِ، وتُحافظُ على كرامتِها ولا تُفرّطُ بها ولا بأرضِها، كما جاء (ص83): “تفو عليك وعلى المصاري.. تفو عليك وعليهن” قالتْ ذلكَ لمَن جاءَ يُساومُها على كرامتِها وأرضِها، طبعًا لهُ ولمَنْ أرسلوهُ.
وهي امرأةٌ وطنيّةٌ ثائرةُ، تُساعد الثوّارّ وتنقلُ لهم الزادَ والعتادَ. (ص78): “أعطاها الغرض، زوّادة وشويّة فشك”. وهي امرأةٌ اجتماعيّةٌ أيضًا، تُحبّ النّاس وتشاركُهم حياتَهم ومناسباتِهم، أفراحَهم وأتراحَهم. لا تطيبُ لهم “الكُبِّه” إلّا مِن يديْها، ولا يَطيبُ عرسٌ بدونِها، ترقصُ وتدبكُ وتغنّي وتُحمّسُ الرّجالَ والنّساءَ، حتى “الأجر بدونها يَظلّ باردًا، حتّى تأتي وتبدأ القوْل”، (ص110)، تنوحُ وتُعدِّدُ وتندبُ في الأتراح. وهي امرأةٌ مُتمرّدةٌ على المجتمع، لا ترهبُ النّساءَ ولا الرّجالَ ولا شيوخَ الدّين. وهي امرأةٌ مُغويةٌ تُثيرُ غيرةَ النّساءِ وغضبِهنَّ بجَمالِها وجرأتِها، ولا يَسلمُ أحدٌ مِنَ الرّجالِ مِن الوُقوعِ بشِباكِها، حتّى المُتديّنين. وهي امرأةٌ عالمةٌ بالمُجتمعِ ورِجالِهِ، عزيزِهِم ووضيعِهم، فلا تقبلُ الاقترانَ برَجُلٍ “يشبع وينام وعنده ضيف” (ص9). عبارةٌ مليئةٌ بالأرضِ والسّياسة. فكان اليهودُ أيّام الإنجليز يَفدونَ على البلاد كضيوفٍ، ولمّا وجدونا نيامًا، نهشوا العِرض والأرض.
ويَطغى على كلّ ما تقدّمَ مِن أوصافٍ عزّةُ نفسِها واستقامتِها، التي تجعلُها تترفّع عن شهوتِها عندَ الحاجة، فذلك الفتى الّذي تعلّقَ بها، أحبَّها وتبعَها، وبدأتْ تستلطفُهُ وتحبّهُ وتشتهيهِ، لكنّها لم تمنحْهُ جسدَها إلّا بعدَ أن أحسّتْ برُجولتِهِ. (ص149): “شاب في أول عمره، قلبي رشق له، حاشا أن أحطّ ربّي ورا ظهري، طمّعته في حالي. أعطيته الحلال والحرام، كلّ يوم يلزق فيّ أكثر مثل اللزّيقة. الولد انجنّ. عمري قد عمره على مرتين العلم عند الله، مثل أقوى زلمة، أهدس فيه ليل نهار”. لم تمنح جسدَها لذلك الفتى إلّا لأنّها رأتْ في رجولتِهِ حُلمَها ومُستقبلَها، وإلّا لماذا “راحت الدموع تشقعُ من عينيْها وتسيلُ على عرضِ وجههِا” (ص149)، عندما عرضَ عليها الزّواجَ فاستسلمت له (ص150) وضمّتْهُ “من صماصيم قلبها وراحت تشهق ودموعها أربعة أربعة” ثم قالت له: “خذ إللي بدّك إيّاه”. الأرضُ تُعطي مَن يقترنُ بها، ويُحسِنُ معاملتَها والدفاعَ عنها. لا يَفي “فاطمة” حقّها أيُّ كلام. فهي الأرضُ والحرّيّةُ والتّمرّدُ والقوّةُ والنّشاطُ وحُسنُ التّدبيرِ وعزّةُ النّفس والاستقامة. وكلّ ذلكَ يَسكنُ جَمالًا صارخًا يُثيرُ المتعةَ في الرّوحِ والجَسدش، جمالًا لهُ سلطتُهُ على كلّ النّاسِ.
وبما أنّ الرّوايةَ بعدَ نشرِها تُصبحُ نصّا مفتوحًا أمامَ القارئ، و”فاطمة” كذلك، وكما قال الأستاذ إبراهيم طه في مقالِهِ: “فاطمة فعلٌ سيميائيّ”، إذن؛ هي نصٌّ أدبيٌّ يُغري بالتّأويل. وموتُ “فاطمة” بحدّ ذاتِهِ أمرٌ مُحيّرٌ، يُغري في رأيي بالتأويلِ السّياسيّ. فهو لا يُمكن أنْ يكونَ حدَثًا شخصيًّا أو حتّى اجتماعيًّا فقط. من هذا المنطلقِ، أفترضُ أنّ الكاتبَ لم يُقدِمْ عبثًا على فِعلتِهِ بموت “فاطمة”، وإنّما لأسبابٍ نفسيّةٍ وجمْعيّةٍ لها أبعادٌ سياسيّة، إذ لا يُعقلَ أنّ امرأةً مثلَ “فاطمة”، وصَفَها الجميعُ بأبشعِ الأوصافِ خلقيّا واجتماعيًّا ودينيًّا، فهي في عرفهم (ص150) “مرتدّة، كافرة.. قتلها حلال، عرضها سايب على الدروب، داشرة، ممحونة، فالتة، مفضوحة”، وبالتالي يَبكيها الجميعُ، ويَحزنُ لموتِها الرّجالُ والنّساءُ على حدٍّ سواء، حتّى رجال الدّين الذين نشرَتْ عِرضَهم في القرية. وقد “ماتت بغبّة القلب” موتًا مُفاجئًا. هذا الأمرُ لهُ دلالاتُهُ السّياسيّة، لأنّ موتَها كان “لا على البال ولا على الخاطر، بيت وانقطع” (ص215). ألم تكن النكبةُ مُفاجئة كغبّةِ القلب، لا على البال ولا على الخاطر؟ ألم تكن الأرضُ بين أيدينا وسُحبتْ منّا فجأة، فأصبحنا بلا بيتٍ وبلا أرض وطن؟
من هنا أرى أنّ “فاطمة” هي الأرضُ الشّهيدةُ وشهيدةُ الأرضِ وضحيّةُ السّياسة، تُحيلُ بموتِها إلى الأرض التي ضاعت، وقد رأت بذلك الفتى الصّغير الشّابَّ في أوّلِ عمرِهِ (ص149)، الذي يُمثّلُ الجيلَ الجديدَ آنذاك، رأت فيهِ فارسَها الّذي اشتهتْ أنْ يُنقذَها مِن ألسِنةِ الناس وبراثنِ المُغتصبين، ولكنّ موتَها المُفاجئ باغتصابِها ومُصادرتِها، جاءَ أسرعَ وأكبرَ مِن قُدراتِهِ، فعجزَ عن إنقاذها. ذلك الشاب يُحيلُ أيضًا إلى الجيل الجديدِ اليوم، جيل الزابود الّذي يَكتبُ لهُ نفّاع، ويغرسُ في قلبِهِ وذاكرتِهِ الأرضَ وحبَّها، ويُريدُهُ أن يَرفضَ التّسليمَ بأنّ “فاطمة” ماتت، وأنّ الأرضَ اغتصِبتْ وضاعتْ، يُريدُهُ أن يَضْرِب ويُضْرَب حفاظًا عليها ودفاعًا عنها. وإذا تعمّقنا الألفاظ التي وظّفها الكاتبُ في وصف “فاطمة”، سنجد أنّها تُحيلُ كذلك إلى الأرضِ وأسباب مُصادرتها، ممّا يَجعلُ القضيّةَ قضيّةً سياسيّة. عبارات: “عرضك سايب على الدروب، داشرة، ممحونة، فالته، مفضوحة” (ص150)، كلُّها أوصافٌ يُمكنُ أن تنطبقَ على الأرضِ وتُحيلُ إليها. “عرضك سايب على الدروب، داشرة، فالته”، هي عبارات فيها إشارةٌ إلى الأرض المَشاع في فلسطين، الأرضِ غيرِ المُسجّلة التي لفتتْ نظرَ المغتصِب، فاتّخذ مِن ذلك ذريعةً لاغتصابِها ومُصادرتها.
أمّا عبارة مثل “ممحونة ومفضوحة”، فذلك لأنّ نفّاع يرى الأرضَ كالمرأةِ الشّبقةِ العاهرة الّتي تستجيبُ لكلِّ مَن يَحرثُها، حقّا أو اغتصابًا، إذ ليستِ الأرضُ هي الّتي يَجبُ أن تُقاوِمَ وتَمنعَ اغتصابَها، وإنّما أهلُها هم الّذين يَتوجّبُ عليهم الدّفاعَ عنها، وأنْ لا يَتركوها مَشاعًا كـالممحونة أو المفضوحة، التي يَفترشُها كلُّ من سالتْ شهوتُهُ عليها. وكلّنا نعرفُ أنّ في بلادِنا سُلطةً ظالمةً، وأكثرُ ما يَسيل لعابُها على الأرض. وقد صوّرَ الكاتبُ أصحابَ الأرضِ عاجزينَ عن أن يَمنعوا موتَ “فاطمة”، أي ضياع الأرض واغتصابها ومصادرتها. وقد شبّه ضياعَ الأرضِ بالموتِ المفاجئ، لأنّ اغتصابَ فلسطين فاجأ أهلَها، رغمَ أنّه كانَ نتيجةً حتميّةً للظّروفِ السّياسيّةِ وغيرِ السّياسيّة التي كانتْ سائدةً في فلسطين والعالم العربي آنذاك، نتيجةَ العجزِ الفلسطينيّ والعربيّ، ولا أقصدُ العجزَ العسكريّ فقط.
وختامًا، يَسردُ محمّد نفّاع الحاضرَ ويغوصُ في الماضي، وكلّ ذلك مِن أجلِ المُستقبل. فإذا كانت “فاطمة” هي الماضي والحاضر، حاضرَ السّردِ الذي يَنتهي بموْتِها ودخولِ حُكم اليهودِ واغتصابِ الأرض، فما علاقة كلُّ ذلكَ بسمرقند والشاعر رسول حمزاتوف وابنته (ص10) وبـ “أنادير”، تلك المدينة الروسيةِ وأهلِها وجبالِها في الدائرة القطبيّةِ الشماليّةِ (ص39)، وما علاقتُهُ بـ”كيرغينا”، تلك الفتاة الجميلة ذات “الصّدر الأبيض كالثلج الدّافئ الناعم الطري” (ص50)؟ العلاقةُ هي جَمال “فاطمة”، ولا أعني جمالَ الجسدِ فقط، يُريدُ نفّاع أن يقولَ لنا إنّ لدى “فاطمة” ومُجتمعِها من الجَمالِ ما يُضاهي جَمال “أنادير” و”كيرغينا”، ولذلك، فأصحابُ هذا الجَمال مِن فاطمة ومجتمعِها، يَستحقّون حياةً جميلةً تُضاهي تلك الحياةَ الجميلةَ الّتي شعرْنا بسعادةِ نفّاع تتدفّقُ ونحن نقرأ الصفحاتِ الأولى للروايةِ، في حديثِهِ عن “أنادير”، وجَمالِها وجَميلاتها. وإذا كان لذلكَ علاقةٌ بامرأةٍ فلسطينيّةٍ تَعيشُ في قريةٍ لها عاداتُها وتقاليدُها، تخرقها “فاطمة” وتُخرجُها عن رتابتِها، فإنّما تلكَ العلاقة هي استشرافُ مُستقبلٍ مُشرِقٍ أفضلَ، يَرجو الكاتبُ أن يَصِلَ إليه وفاطمة ومجتمعِهما والإنسانيّةُ كلّها.
جاء في مداخلة د. راوية بربارة: “فاطمة” محمّد نفّاع تحملُ التّضادَ في اسْمِها، فمِن طهارةِ فاطمةِ الزّهراء إلى عُهرِ “فاطمةِ” الرّواية.. فاطمة حبّ الرّجال وحقد النساء. هي انفلاتٌ اجتماعيٌّ غيرُ معهودٍ، فاطمة ليستْ مجرّدَ امرأةٍ، فبقدرِ أنوثتِها تطغى الرّجولةُ، وبقدْرِ نسويّتِها تَطغى القرية بكلِّ ما فيها.
فاطمة طعمُ الشبرق والفلِّ والتّين، والمُرِّ والعلقم، وحكايةُ قريةٍ عربيّةٍ درزيّةٍ تتعالى على جُرحِها لتَسيرَ قُدُمًا، ترفضُ واقعَها لتسيِّرَهُ كما شاءتْ. فاطمة توثيقٌ اجتماعيٌّ قرويٌّ بامتيازٍ، فمِن أصغرِ حَجَرٍ وتربةٍ ونبتةٍ، إلى أعلى صخرةٍ وجبلٍ شجرةٍ، ومن كلّ “التشاقيع” الموجودةِ إلى القصائدِ المَحكيّةِ/ الزّجل، إلى اللّغةِ الفصيحة.
كيفَ تجرّأَ محمّد نفّاع أن يرتكبَ “فاطمة”، ونحنُ ما زلنا في بدايةِ القرنِ الحادي والعشرين، فيسبقُنا، ولا يترك للمبنى تأطيرَهُ، ولا للحبكةِ تصاعدَها ولا تَهافُتَها، ولا قِمَّتَها ولا تَأزُّمَها؟ لا يتركُ مَجالًا للتّسلسلِ ولا للتّسلُّلِ، كفِعلِ الولدنةِ أتتْ “فاطمة”، تنمو وتنمو بين أيادينا لتتركَنا مَدهوشين! كيف تجرّأ أن يَقْرَبَ مِن فاطمة ويكشفَ سِرَّها، وأن يكونَ عشيقَها السّرّيّ؟! كيفَ تجرّأَ أنْ يَستطردَ ويَستطردَ ويأخذَنا معَهُ في رحلتِهِ القرويّةِ، ثمّ يُعيدُنا مُنهَكينَ باحثينَ عن فاطمتِهِ وعمّا يَحدثُ معها؟؟
قالوا: “لولا الفرزدق لضاعُ ثلثُ اللّغةِ العربيّة، بل ثلثاها”، وأقولُ: لولا محمّد نفّاع لضاعَ ثلثُ تَقاليدِنا وعاداتِنا ولغتِنا ولهجاتِنا وقُرانا، وزجلنا وماضينا، بل ثلثاهم. إذًا؛ كيفَ عوّضَنا نفّاع عمّا فعَلَهُ بنا مِن دهشة؟ عوّضَنا بآليّاتِهِ الخاصّةِ، بسُخريتِهِ، بفكاهتِه، بتداعياتِهِ، بلغتِهِ، بحكاياتِهِ، بمفارقاتِهِ، وبجُرأتِهِ على كسْرِ المُسلّمات.
نفّاع الرّاوي، كنتَ تروي لنا في مقهانا الخاصِّ كلَّ يومٍ رواية، وكنتَ تتركُنا ننامُ وفاطمةُ تداعبُ أحلامَنا، وقريتُك مُشتهاةٌ، وروايتُكَ “فاطمة” علامةٌ فارقةٌ في القصّ الرّوائيِّ الفلسطينيِّ المَحَلّيّ.. وليَشهَدِ التّاريخ!
جاء في كلمة الكاتبة رجاء بكرية: الروائيّ القصصيُّ بالدّرجةِ الأولى الجميلُ والسّاحرُ، فيما كتبَهُ محمّد نفّاع أنا أعتقدُ بأنّ محمّد نفّاع هو عبارةٌ عن مشروعِ قضيّةٍ قائمةٍ بحدّ ذاتِها، ومِن هنا نستطيعُ أن نلتفَّ على الكلمةِ وعلى المُفردةِ مِن زوايا عدّةٍ ونُحيطُها، وقد لا نستطيعُ أن نُحيطَها، وسوفَ تُؤدّي إلى مَضامينَ عديدةٍ باتّجاهاتِها الاجتماعيّةِ، والسّياسيّةِ، والفِكريّةِ، والحِسّيّةِ الّتي تَعنيني بالدّرجة الأولى أكثرَ مِن أيّ شيءٍ آخر، حتّى دونَ أن أُعلِنَ عن هذهِ الزّوايا، فقلتُ فيهِ بأنّ الكلمةَ أو المُعادلةَ تنفرطُ، حينَ يَجري الحديثُ حولَ رَجُلِ حكايا توقّفَ عن عَدِّ الزّمن. ليسَ كاتبًا تمامًا، ولا يَروي حكاياهُ، بل تَرويهِ هي مِن بئرِ روايتِها، فليسَ عاديًّا في عمرِ الحكايةِ أن نمسكَ بها مِن زنّارِها، إلّا في حالاتٍ نادرةٍ، حينَ يَشتدُّ لمعانُ عيونِها، وتسقطُ فتنتُها بضوضاءِ خاتمٍ على صولجانِ قلب. وهذا ما يَحدثُ حينَ يَفُكُّ أزرارَ حكاياهُ. محمّد نفّاع. لسنا هنا أمامَ حالةٍ عابرةٍ نُسجّلُ عنها لنقلبَ صفحتَها ونَمضي، ولكنّا أمامَ ظاهرةٍ كلّما جُدْنا بنَفيسِها، جوّعتْنا قلّةُ أدواتِنا، فحينُ يُغرقُ النّفيسُ صاحبَهُ بالبريقِ، يَصيرُ الكلامُ فقيرًا ودرويشًا إن شئتم، لا يَروي ظمأ الورق، فراوينا عاشقٌ يُربّي شُخوصَهُ كزرعِ الحقلِ تمامًا، بعشقٍ لا يَرويهِ الحَكي. قرأتُ كثيرًا لكُتّابٍ، لكنّي لم أقعْ على مِثلِ وليمةِ الكلامِ التي لأبطالِهِ وشخوصِهِ. وليمةٌ لا تُحبُّ أن تمدَّ إليها يدَكَ، لئلّا تجعلَكَ بعضَ أطاييبِها، وأنت أمامَها لا تعرفُ كيفَ تنتقي ما تُحبُّهُ، لأن كلَّ ما فيها يُحبُّكَ. لا، لم أقرأ سردًا كهذا يَتعربشُكَ، ويُؤسّسُ لهُ على زنديْكَ عالمًا، وفي قلبكَ وبينَ عينيْكَ وعلى جبينِكَ يَسقُطُ ورقَ عنبٍ ناضجَ القُطوفِ، كي يُدلّلَكَ. منذ قرأتُ أعمالَهُ، وأنا أزدادُ حيرةً كلّما التفّتْ نساءَهُ عليهِ، فهنَّ يَتشابهْنَ في مَصادرِ أنوثتِهِنَّ وأنَفتِهِنَّ وثورَتِهِنَّ، أمّا عن خصرِ أجسادِهنَ ولو تمرّدْنَ، فحدّث ولا حرج. خَصبٌ يَغرفُ مِن جُرنِ الأسطورةِ، ليَجُدْنَ نضارةً وعُمرًا ومسافةً، فلهُنَّ كبرياءٌ أشَمُّ تتمنّاهُ الأنوثةُ في أماكِنِها وأزمانِها، ورغمَ ذلك، يَحفظنَ ذلكَ الحياءَ الفطريَّ الّذي بِتنا نَستحييهِ في النّساء، ولعلّهُ الجميلُ فيما يُصادفُنا اقترانُ حكايا النساء بحكايا الأرض، بشوْكِها وورْدِها، ببُطمِها وسِرّيسِها، وبتاريخ ذاكرتِها. حرصٌ يَمنحُ جُذورًا بعيدةَ الأثرِ لتاريخ الميجنا والعتابا والأغنية، فالنّصُّ تشكيلٌ فنّيٌّ لكلِّ ما لا يَخطرُ لنا ببالٍ، يَستدعي الغائبَ حاضرًا. يَجمعُ الأفعالَ ضِمنَ فِعلٍ واحدٍ. يسترسلُ ليَضربَ الضّمائرَ بالإسماء. يَستحضرُ الذّاكرةَ. يُسجّلُ أحاديثَ شِتائِها كصيْفِها في ذاتِ المُساجلةِ، ونحنُ نختارُ تمامًا ولا نُميّزُ، إذا كانَ يَشطحُ خلفَ جدائلِ غيمةٍ، أم أنّهُ يُطلقُ للزّرعِ جدائلَ مِن نسيج الحكاية! رائحةُ الترابِ والوَرقِ والنّبْتِ والتّلمِ تحتَلُّكَ، حدَّ أنّكَ لا تُميّزُ أيّها الأجملُ في حضورِ بلادٍ تستشريهِ بلا نهايةٍ. غيرَ مرّةٍ شدَهَتْني سبيكةُ السّردِ الّتي لشُخوصِهِ بأحداثِها. هو يكتبُ كما يَحكي ويَحكي كما يكتبُ. يُفصِّحُ ويُعمِّمُ بيُسْرٍ وسلاسةٍ. يُغنّي ويَثورُ بذاتِ القدْرِ مِنَ الغضبِ والسّعادةِ. لا يَهمُّهُ الجائزُ والممنوعُ، ولا خطوطٌ تُلوّنُ فواصِلَهُ. إشاراتُ المُرورِ لديهِ كما اللّغة، تمسحُها ليونةُ سرْدِهِ بيُسْرٍ وتِلقائيّةٍ، وهذا الانسيابُ النّادرُ للحديثِ بينَ أصابعِهِ، يَنطوي على جَماليّةٍ فنّيّةٍ بارعةٍ، بَعدَها، لا يُمكنُ لأيٍّ كانَ أن يَتحدّى فاطمةَ وهي تُناورُ أنوثتَها، وتتجاوزُ رجعيّةَ ربْعِها وتسبقُ زمَنَها. نسجَ نقشًا يُلغي مَعاييرَ الحكاية، فأنشأ حكايتَهُ وقاموسَهُ وشخوصَهُ وتاريخَهُ، وأعلنَ أنَّ كلَّ سطرٍ تَطؤونَهُ سجّادةٌ تَحكي عن نقوشِها الرّواية!
آمال عوّاد رضوان