أقانيم محمد نفاع الثلاثة: المرأة، الطبيعة واللغة
تاريخ النشر: 03/06/15 | 17:02الحياة والناس والكون، الفرح والسعادة والحلم والآمال العريضة ،كلّها تتجسّد في فاطمة. المرأة والطبيعة كيان واحد مُتَمازج لا انفصال بينهما. راودتني الكثير من التّساؤلات والأفكار وأنا أتابع قراءة حلقات رواية “فاطمة” التي كان الكاتب محمد نفاع ينشرها في ملحق جريدة “الاتحاد”، ولكنّني وقد قرأتها رواية متكاملة بين دفَّتَيّ كتاب تراجعتْ هذه التّساؤلات، وتقلّصت الأفكار. ووجدتُ نفسي أمام عمل إبداعيّ متميّز، يختلف كثيرا عن كلّ ما عهدته سابقا وإنْ كان يشدّني إلى المواقع نفسها، ويُسمعني اللغة ذاتها، ويُردّد على مسامعي بعض الأناشيد التي أحببتها، ويضعني بين الناس الذين عرفتهم وأحببتهم، فأعادني إلى ذلك الزّمن الجميل البعيد القريب.
فمحمد نفاع كغيره من مُبدعينا المتميّزين تناول في قصصه مختلف قضايا جماهيرنا العربية، وساهم في توعية الأجيال، ونشْر الأفكار التّقدميّة الثوريّة، وطرْح الفكر الاشتراكي التّفاؤلي، ورسَم للأجيال الطّالعة سُبُلَ العمَل والنّضال وكيفيّة الوصول لتحقيق الأهداف الصّغيرة والكبيرة.
لكنّ محمد نفّاع، حتى من خلال القصص الأولى التي نشرها على مَدار عشر سنوات، وجمَعَها في مجموعته القصصيّة الأولى “الأصيلة”(1976)، وفي مجموعات قصصه اللّاحقة، استطاع أنْ يحدّد لتوجّهه الأدبي وانطلاقه الإبداعيّ معالم بارزة تميّزه عن غيره من المبدعين محلّيا وعربيّا.وقد ترسّخت هذه المعالم المتميّزة وتوضّحت وأصبحت في إبداع محمد نفّاع أقانيم مقدّسة يكرّسها في كل عمل جديد، يجمّلها ويطوّرها، ولكنّها تبقى مركز الاهتمام وأساس الانطلاق الإبداعيّ.
هذه الأقانيم الثلاثة هي: المرأة، الطبيعة، اللغة.
لكنّها في رواية “فاطمة” توحّدت الثلاثة في أقنوم المرأة المعبودة التي جسّدتها “فاطمة” التي أغنت عن كلّ ما عداها. فلم تكن حاجة لذكر أسماء غيرها من النساء، ولا حتى لذكر أسماء الرّجال الذين التقيْناهم في الرّواية. فاسم فاطمة هو الوحيد المرَدَّد على ألسنة الجميع والطّاغي والمتفرّد. باسمها ينطق الجميع مادحا أو ذامّا، أمّا إذا ذُكر الغير فيكون بغير اسم مميِّز، فهو الرّاعي أو الغول أو الشّيخ أو السّمسار أو الزّوجة أو الموظّف. صفات لشخصيّات تظهر وتختفي، لا تترك أثرا وراءها. حتى الولد الذي تعلّق بها وأحبّها وتبعها بعد أن ترك أهله لم نعرف اسمَه،وظلّ العاشق المجهول، وظلّت “فاطمة” سيّدة المواقف كلّها.
وارتقت فاطمة لتكون في مصاف القديسين كيوسف الصدّيق، وَليّة شريفه يُدافع عن قبرها أهل القرية، ويطردون موظفي الحكومة الذين جاؤوا ليصادروا الأرض، وبضمنها قبر فاطمة.(ص281).
وفاطمة كالأولياء القدّيسين تعيش مع أب عجوز وأم على حفّة قبرها. فقد ضاع خبر إخوتها في السفر برلك وهي على بزّ إمّها،ومات زوجها بغبّة قلب وتركها بدون أولاد، وبعده حَرّمَتْ على الزّواج وعاشت وحيدة بعد فَقْد والديها.(ص20-21)
وكما طغى وجود فاطمة على الجميع، هكذا تداخلت الطبيعة في فاطمة، وتمازجتا، فخلقة فاطمة “من بياض الثلج النّاعم في الأرض الفجاج، وعبق الرّبيع الصّافي الفوّاح، ووهج الصّيف اللّافح الذي يحرق طرَف العصفور، ونضوج خريف الأيّام.”(ص9) وهي “ممشوقة القَوام كالجبال الممشوقة. ومن كبوش العلّيق وظهر النّمل وعتمة ظلّيل وعر بخوخ سواد الشّعر. ومن اللوز البلدي الكلابي المطاول وقلوب نصب الزيتون السّوري المحروث الماوي تفصيل العيون” (ص14). و “صوت فاطمة عنوة عن كلّ الأصوات، طري منعش كالنسمة الشماليّة الجبليّة”(ص15).”وجهها مفرفح مثل طبّوق الورد الجوري”.(ص20)وهي “مفرفحة مثل الفرفحينة”.(ص32) “لجسمها نكهة أزكى من الحبَق”(ص38).”بَدنْها مثل التّين البياضي المستوي البرّاوي، أو مثل تبن القمح غربيّ العذارى، والحثّان الندي الطري” (ص50)”مثل عشبة المَيّ”(ص64).”ريقها مثل النّدى على طبابيق الهنبل البيضا، والشّبرق، والنّفلة وسكّر العجوز وميّة بير السكر، وميّة نيسان”(ص66). “أسنان فاطمة مثل اللولو وحبّ البردِة” (ص68).”لهب النّار يلعب على وجهها المحمرق مثل طبّوق الورد. وصدرها دالع، يكشف عن عنق أبيض مورّدتنطف عليه الرّوح.”(ص75). “لحمتها شديدة غير مرهرطة شفّتها الفوقا عريضة وناعمة، مثل ورق الزّقوقو. ورموشها طويلة سوداءتسيّج على عينين فيهما بريق غريب؟”(ص89-90).”أسنانها البيضاء مثل القحوان. كل شيء فيها تنطف عليه الروح”.(ص92). “من برد المساء والتعب حمرق وجهها وصار أحلى، صار مثل ورق “فرس سيدي” ، أبيض تدبّ فيه حمرة خفيفة”. (ص111).”أنفاسها دافئة شذيّة ناعمة كهبّال فنجان القرفة. وفي عينيها بريق قوي عنيف”(ص114).”ريقها أحلى من قصب المصّ” (ص127).”في ريقها نكهة الزّوفا والشبرق وصوتها المبحوح مندّى برائحة المسك والبرقوق والنّفل”(ص137).” في عتمة الليل يشعّ جسدها الأبيض الحيّ القويّ كأحلى ما يكون، جسمها دافئ حاريسبح في عَرق العافية العطر، كأنّ كلّ نَكْهة أزاهير الأرض والسّماء تجمّعت فيه مع أنفاس خيط الماء الجاري في النّبْعة وزفرات السنابل والبرقوق، والنّدى الرّقاد والنّفل الفوّاح وأغنيات الحبّ والعشق وكلماتها الواقفة وأنغام الأرغول الشّاكية والمنادية.”(ص139). “على بياض وجهها يرتعش سمّار الفجر. قطوف من حلَق البطم والسنديان عِلْقتْ على شعرها وتعربشت فيها، واحدة منها انتقت مكانا بديعا حلوا بين نهديها المورّدين الفوّاحين كنور اللوز البرّي.”(ص144).”هذه الشّفة الفوقا العريضة والرّموش المتعانقة، والجبهة النديّة، وهذا الشّعر ، هذه الحديقة التي تُسيّج الوجه النّائم المرتاح وتزفر نفحات عمشقيّة.”(ص145).”أنفاسها مع العصريّات طيبة، والنّسمات الخفيفة تلاعب شعرها على خدّها، وتحت شعر السّوالف بقعة بيضاء، هنا لا تطولها الشّمس ولا تلوّحها وقد تكون هذه النّسمات الخفيفة نشّفت العرق على جبهتها وصدرها وحملته إلى الأرض الغربية والشّرقيّة وإلى البلد والبيادر، فظلّ صدرها منمّشا تنميشا خفيفا بلا زرزرة وكذلك جبهتها البيضاء.”(ص195). ” زغبر القمح على خصلات شعرها التي تدبك وتترنّح على جبهتها مع حركة الذّراوة”(ص217).”صدرها الخفّاق مثل ذيل الكركسه في تالي البيادر، عندما يسمّخ القمح على بقايا القَصَل. عنقها فوّاح مثل مذراية الشّبرق وضمّة الورد البرّي والعمْشق”(270). “كان شعرها أسود مثل الليل في مهاوي الوديان” و “زاح شعرها على وجهها، بلج بياضها مثل الهلال، وأنا أنظر إليها وهي تمشط شعرها، يِدْمِل وجهها قبل أن تَفْرقه وتردّه على أكتافها، ليطلّ وجهُها كما يطلّ القمر من عند الجرمق والزّابود.”(276)”دوّغت أرض البلد بالحبّ. “(ص285).
هذه هي فاطمة التي يقدّمها محمد نفّاع، امرأة ليست كأيّ امرأة، هي تكوين إلهيّ خاصّ، من الطبيعة أخذت أجمل ما فيها. والطّبيعة أغدقت عليها كلّ ما يزيدها جمالا وألقا وسحرا وجاذبيّة وحيويّة، لكنّها ضنّت عليها بأنْ تكون أمّا، لأنّ مثل فاطمة، وليّة من ولايا الرّب، خلقها الرّب لتكون ملك الجميع، ومصدر فرح وسعادة كلّ النّاس. هي فريدة ومميّزة وواحدة لا يمكن أنْ يكون لها ثان ووارث. ولهذا عاشت وحيدة بين كلّ النّاس ولكلّ النّاس، وتبقى وحيدة لا مثيل لها، ولا مَن يدّعي الانتماء إليها أو وارث بعض صفاتها. هي من الطبيعة أخذت صفاتها، وإلى الطبيعة عادت وامتزجت وارتاحت بعيدا عن الناس، وسط الأرض، تحيط بها الأشجار والزهور والأعشاب والنباتات، وتغرّد حولها الطيور ويرفرف الفراش وتشدو الرياح ، وتحرسها ملائكة الرّب.
فاطمة في رأي النّاس
فاطمة التي طغت على كلّ الناس، ومحت أسماءهم فتحوّلوا لشخوص يدورون في فلكها، يظهرون ويختفون، لا يتركون أثرا بعدهم.فاطمة هذه اختلف الناس في موقفهم منها، البعض ومعظمهم من النساء، وقف منها الموقف السلبي، ولم يترك مناسبة إلّا وحاول المسّ بها والنّيل منها. فهم يشكّكون بطهارة مولدها وبمصداقيّة انتمائها للطائفة،ففاطمة كما يقولون “إجَتْ على شقحة. العلم عند الله منين”، “العلم عند الله انّها بدّوقة!! مش من ظَهْر هالمسكين”(ص30)، “العلم عند الله إنها من خارج المِلّة”(ص31).”هاي الصبيّة مش بنت معيشة، عمرها قصير”(ص23)، “تلتقي مع المهرّبين النّجسة بنت حرام بلا مَحْرَم”(ص29). “لا حيا ولا نيا”. “مقطوع الأمل منها. سارحة على فيّالها. لا ولد ولا تلد سرّها غميق.”(ص30). “نار مشعلة بنت الحرام”(31).” الفاجرة الصّيّادة، ملاهية الرّاعي”(32) “هاي علّيقة، لا همّ دنيا ولا عذاب آخرة”(ص33). “أم صبيّة منوحة الزلام صيّادة”(64). “هاي البنت عجيبة من العجايب، من مشاهيب جهنّم”(ص66). “مثل الحادي لواح بسبع رواح”(ص68). “ما حدا سلم من شرّها النجسة. حدا بِعْلَق في شُشماية”(ص75). ” محرّمة على الجواز ما بجيها أولاد. داشرة، دايرة على الحرام، سوّدت وجه البلد.”(ص87). “الكرخانة بتظل ملزّقة في الرجال ، البدّوقة مثل السّمك إن طلع من المَيّ بموت”(ص89). “هاي قليلة الحَيا خرّبت الزغار مش بس الكبار. هاي شحبة لا ولد ولا تلد. سيرتها على كل لسان، صيتها العاطل فَقَع في البلاد”(ص104).”بُكرة ربّك بقَرْطلها حَلَمات بزازها تحت السّبت وبشَلْوِطْها على النار في جهنم الحمرا.”(ص105). “شدّاقة برّاقة حرّاقة”(ص110). “هاي المخلوقة مرتدّة طالبة الرّاحة والإباحة”(ص125). “هاي المخلوقة على النار كَرْفَته”(ص137). “مرتدّة، كافرة، أم صبيّة، قَتِلْها حَلال، عَرْضها سايب على الدّروب، داشرة، ممحونة، فالتة، مفضوحة، مثل الشّايعة السّايبة”(ص150). “الممحونة اللعينة جاي على مجلس سيّد الخَلْق”، “الله يبَرّينا!! مشهاب من مشاهيب جهنّم”.”البقرة المِدِورة بعيد من سمع. الشّايعة”(ص163).”هاي شايعة، شرّها بعلق على الحيطان” (ص168).
هكذا كان موقف النساء الحاسد الكاره العدائي من فاطمة. فكلّ واحدة رأت في فاطمة الخطر الذي يُهدّد حياتها الزوجيّة، والمنافسة لها في حبّ الزّوج. كما شكّلت خطرا على أخلاق الشباب وتصرّفهم. وبالفعل عشقها فتى صغير، ترك أهله وتبعها حيثما ذهبت وأقامت. لكنّهذه الكراهيّة وهذا الحسد وهذا الرّفض من قبل النساء لفاطمة كان يُخْفي الإعجاب والرّغبة في التّقليد، والتقرّب منها في مختلف المناسبات، خاصّة في مناسبات الفَرح والكَره، حيث تكون فاطمة سيّدة الموقف، ومركز الحَدَث والاهتمام.
أمّا الرّجال فقد هلّلوا لها وعشقوها وحاموا حولها، وأصبحت الطّاغية على وجودهم. رجال من أطراف البلد يأتون للولدَنة وكثر الغَلبة، فمَن يرفض سهرة حول الموقد المهبرج وفنجانا من عشبة الزّوفا(ص22). وكم من رجل خبّأ العَقَفة حتى تقوم فاطمة وتشبُط على عِرْق التينة مثل الشيطانة فيقع نظر الرجال على كراعينها وهي تطلع على التّينة. كراعين بيضاء طريّة ماوية تنطف عليها الرّوح بعد أن يَشْقل الشنتيان الأسود الباهت.(ص23). وإذ يكشف لها أحد الرجال أنّه خبّأ العقفة قَصْدا تقول له متحدّية :
-بدّك تشوف كرشة إجري!! هه!!
وترفع إجر الشنتيان أكثر، والمتدينون يغضّون النظر قليلا، وبعضهم يستعيذ بالله ويترك المكان، والجهّال يُبحلقون.”(ص23)
“المهرّب غفّ عليها مثل كاسر الحجل:-البوسة الله محلّلها!!(ص28)
“في صفّ السّحجة وزيانة العريس تنزل على الساحة وترقص بالسّيف، وقبالة النار المشعلة يلمع حدّ السّيف في يدها. بريق يأخذ العقل في عينيها، ومع رقصة السيف يرمي الشباب الحطّات والعُقُل على الأرض بعد أنْ يُلوّحوا بها، في نخوات رجّاليّة، وكل واحد يكاد يلتهمها بنظرات ضارية، وهي تلتهب أكثر، والشّيوخ ترغرغ عيونهم بالدّمع على شبابمضى وزمن انقضى. يمسحون دمعهم بأيديهم الخشنة المشققة، والشّرر المشبوب في نوفرات يحطّ على الشّوارب واللحى”(ص31).”كل واحد من الرجال شرب من يدها طاسة مَيّ، أو تناول كَعْبولة كُبّة مصبوغة، أو غمّس طلمية في زيت وهي تخبز في الدّار، ولاقى ألف حجّة وسبب ليمرق من باب دارها ويطرح عليها الوقت، ويسمع صوتها العذب فيه بحّة ناعمة”(ص31). عندما ترقص بالسيف وتعطيه للغول وتترك الصّفتسمع التعليقات:
-“حطّت عينها عليه، وقع في الفّخ!! نيّال أرض اجْريه.”(ص32)
وعندما تُعَيّرها امرأة بأنّها تُغْري الرّجال وتوقع بهم، تجيبها:
-“أنا ملاهية الرّاعي يا عاطلات!! مين مِسكني،هو بَسّ رعيان!! وشيوخ بلد كمان. ويضحك الناس، ويغيّرون مجرى الحديث حتى لا تُفضَح الأسرار، وتصل إلى ديارهم.”(ص33). “والشاطر من الرّجال هو الذي يسبق ليُحمّلها الحجر على رأسها. وصاحب الحظ قربها يقول بمزح:اللي سبق شمّ الحبق.”(ص37). “تطلع على درجات السلّم لتناول الحجر إلى معلمي العَمار، والذين يرتاحون يسترقون النظر إلى رجليها البديعتين، حيث يكون الشّنتيان قد شمّر قليلا. والشّاطر من الرّجال مَن يشرب طاسة المَيّ بعد فاطمة: هذا حاسَب وراح على الجنّة!!نيّاله”(ص38).”والرّجال يمازحونها وهي ترميهم بالبلوط على وجوههم: يسلموا لي هالديّات. وهالوجه المحمرق. وهالعنق الغزلاني. وهالرّموش المحنيّة. وهالشّعر المعلبك.”(ص39).وإذا ذكر أحد فاطمة بالسّوء أسكتوه بنظرات شرسة عنيفة تفيض احتقارا:”ومَن أنت يا فاعل يا تارك حتى تطري اسمها على لسانكّ”(ص40).”كلّ النّاس يقولون إنّ خِلْقتها حلوة، أحلى واحدة في البلد، ويمكن بَريّة البلد. سبحان مَن خَلقها واللي خلقها أحسن منها. عندما تلبس المنتيان الأسود والكردينة السّوداء يصرخ بياضها المشرّب بحمرة صرخة تحرق القلب. ملعونة الوالدين بتْفور فوران مثل صبيّة بنت أربتعش. التطليعة فيها حرام، ردّيت نظري عنها، هذا إثم.”(ص116).”صار الزّلمة يوَزْوِز حواليها. صَحن كنافة وحدّه آفه. ريقها أحلى من قَصَب المصّ. داخ من نكهة عرقها، ارتخت بنايقه، وغلِظ خشبُه، وطلب العاطل منها.”(ص127)
وحدها فاطمة كانت تتصرّف بعفويّة وطيبة ويقبل النّاس منها أيّ عمل. فحين “أمطرت السماء، وتراكض الحرّاثون تحت زخّ المطر إلى الشقيف المرفرف،كانت فاطمة، مثل غيرها، غرقانة من الرّاس للمداس، منتيانها بلبولة يرشل ميّ ملزّق في لحمها. ونقط الماء تسحّ وتحبو على وجهها الغَرقان، وثيابها تكشف عن تقاطيع جسمها – في عزّ صباها ورونقها!! وتمسح وجهها بمملوكها، فصرخ أحد الرجال: يا ريتني نقطة مَيَ تكرج وتسحّ على هالوجه المفرفح الغرقان!! وعلى خصل الشّعر المهدّل!! كنت أوقف هناك. فأجابته فاطمة: أو على كعب إجري يا نمسْ. وتضحك ويضحكون” (ص16). وكذلك ما فعلته مع الغول حين طلب شربة مي من يدها على عين النّوم، “تناول طاسة النّحاس وأدارها على وجهه، وهي الملعونة تصفر له حتى يرغب، ويشرق في الضحك، والناس على العين يشقرقون”(ص19).
واتّفق معظم أهل البلد في حزنهم على فاطمة وعلى شعورهم بالفَقد بعد موتها لأنّها كانت شاغلة الجميع وموجودة بين الجميع.فهي”تشدّ على الكابوسة من حيلها وعزمها، وهي تسوق الفدّان وتنهره بتعليمات اعتاد عليها”. (ص15). و”صوت فاطمة، عنوة عن كل الأصوات، طري منعش كالنّسمة الشماليّة الجبليّة”(ص15). فاطمة صبيّة جبّارة ، حتى وهي تقوم بأود البيت، لا تكفّ عن الرودَحة في أغنية ما، تخزن مونة السّنة من القمح والزيت والحطب، بيتها نظيف مهفهف. كل سنة ترشق البيت والسدّة وحيطان وسقف الاصطبل وتدلك أرضية البيت، وتمسحها بالعَكر فتظل تفوح منها ريحة النظافة المتقنة الطيبة”(ص21).”بيت فاطمة عامر بالزوّار، جيران وأصحاب، وطلاب حاجات لعدّة الحراث قدّوم بلطة منكوش جلدة خرزات ودع”(ص21).”رجال من أطراف البلد يأتون للولدنة وكثر الغلبة. فمَن يرفض سهرة حول الموقد المهبرج وفنجانا من عشبة الزوفا. فاطمة لا تستطيع العيش بدون ناس. دبيكة راس. قوّالة في الأجر. معزبة وطبّاخة وخبّازة وفرّاكة كبّة في الأفراح. تشارك أهل البلد في كل الأعمال العامة. موقدتها حلوة متقنة. ومكنستها ناعمة مرتّبة غير منفوشة. طاستها نظيفة تلمع. وإكليل الشّيح تحت جرّة المَيّ في بيتها عنوة عن البقيّة”(ص37).”هي أجمل وأشلب بنت في البلد. لا ولد ولا تلد. لسانها حلو. ما حدا بزعل منها، وهي لا تزعل، ولكنّها لا تحطها واطية لحَدا”(ص75).”في المآتم فاطمة الندّابة، والأجِرْ بلا تناويح وقول فاطمة يظل أجْرا باردا. لا أحد يُنكر أفضال فاطمة. لا في الأجر ولا في ردّ الخشب. ولا في كرْي البئر من الميّة العتيقة، ولا في تعزيل عيون البلد. وفاطمة ليست خبيثة، ولا تحقدولا تتدخّل في القيل والقال والطوشات. تُساعد في دقّ اللحمة وفرك الكبّة في كل عرس، وفَتْل المغربيّة. كثيرون يتمنّون كَعْبولة كبّة من تحت ديّاتها. وفي الفرح تفرح مع أهل الفرح وتدبك على الرّاس وتُغنَي. وتعاون الناس على جول الزيتون ونقاوة القمح والتصويل والسّلق ونقاوة السميدة والجرش على الجاروشة والغربلة وفَرد الجريش الغليظ والرّفيع والصّراصيرة والنخالة للمخدّات. سبحان مَن خلقها ما أهْيَبْها وألبَقْها!! مثل التّفاحة.”(ص164-165). “الناس في ليالي الفرح ينتظرون صوت فاطمة وهي تُغنّي عن الشام والشاميّات. وصْفِه في الهيبة والجَمال. صوتها يتغلغل في عتمة الليل ولهب النار وسط الساحة والنسمات الطريّة والسّماء المنجّمة وتشحيط الغيم البعيد.سبحان المعطي على هالصّوت والنغمات والكلام. واحدة متديّنة ثقيلة، خجولة ملثّمة شحطتها فاطمة إلى الحلقة: دوري معنا دورة وَحده من شان البركة.فاطمة شحطتها ومسكتها في خاصرتها. والناس يغشّشون من الضحك. رقصت اللحى الورعة المباركة على الوجوه، بيضاء وبرشاء في عزّ عمرها. في عزّ التعليلة هرب الشيخ من المكان وفاطمة تتقدّم نحوه وقد فتحت ذراعيها لجرّه إلى حلقة الدبكة. وتسحب فاطمة السيف وتنزل إلى صفّ السّحجة وتثور ثائرة الصفّ،وتتطاير الحَطات والعُقلة ويرقص شعر الرؤوس المفرعة، القصير والطويل. لو كان لدى الناس ميزان الحقّ الذي يُنْصَب يوم القيامة ووصل دورها للحساب لكانت من كبار الموحّدين وأهل الخير”(ص200-201). “مخلوقة جبّارة. مع النّسوان حُرمة ومع الزلام زلمة”(ص254)”قبرها قبر وليّة، والولي تاني النبي. قبر وليّة شريفة على وجهها شفنا الخير والبركة”(ص281). و”فاطمة على كل لسان. لسانها بلون جمر السنديان، لا يلتوي إلى حلقها، وكم خَلق من حَكي وكلام، نَدْب وغناء وكلمات واقفة غاضبة ومَزْحات من الزنّار وتحت. لسانها مجلوخ ، طيّب مثل سكاكين ترشيحا، وهي في فكر وخيال كل واحد. بوجهها الأبيض المورّد المحمرق، وعينيها الحركتين ببريق مرغرغ يرمي ِالفارس عن الفَرس. كلّما عشقت الأرض كلما صارت أغلى على القلب. كانت مْفَضْلِة على كل البلد. إلها فضل علم الله. والشهادة أمانة. مين منّنا بلا ذنب!! المسامح كريم. قدّيش صحّحت ناس في رقوتها. بنت حلال في حياتها ومماتها”.(ص283)
هكذا كانت فاطمة في عيون الناس جميعهم. أحبّوها في حياتها، وحفظوا ذكرها، وحافظوا على قبرها بعد مماتها، وحوّلوها إلى وليّة مقدّسة لها مكانتها وهيبتها.
وكما تمازجت الطبيعة وفاطمة، هكذا كانت اللّغة على لسان فاطمة. اللغة الجميلة الرقيقة بلفظها للكلمة بحلاوة ورقّة يقبلها منها كل مَن يسمعها حتّى ولو كانت مهينة أو متّهمة. فالكلمات والجمل وكل الألفاظ مقبولة إذا خرجت من فم فاطمة، فهي تتحدّى الرجل الذي يظهر رغبته في رؤية رجلها: “بدّك تشوف كرشة إجري!! هه.أسرط في ريقك أسرط”(ص23).وتخاطب نفسها عندما تشعر بالتعب:”أرتاح شوية على بين ما يبرد عرقي”(24). وتهاجم مَن يطلب خصلة من شعرها ليتزنر بها:”تزنّر في مصارينك” (ص50).وتجيب حبيبها في مشهد حبّ جميل: “أنا كمان بدّي أعمل لك حاكورة”(ص66). وتقول بعد أنْ تعبت في إيقاظ حبيبها الذي قضت معه ساعات الليل: ” بِرُدِّش بعده مجَخِّم السّايب. خلص فِزْ عاد بلا كُثر غلبة. أخذت الحقّ والمستحَق. يلله بدي أروح وراي شغل”(ص71). وتجيب الذي يعيّرها بأنّها كانت برفقة الرّاعي: “عملتها وخلّصت وقزّ عينك تقدح نار في القدّوم وفي المنشار” ( ص74). وتجيب مَن يحاول نصيحتها:”لا توصي حريص. كون في حالك يا بو عَجايز. اللي على بال الشيخ بهدس فيه”(ص77). “وانت الثاني ليش نكّست في الأرض”(ص77)”سيفك مصدّي عتيق بحتّش في اللبنة والسّمن”(ص81). وتعلّق على مَن نهرها وحذّرها من المسّ بمَن يعتبرهم زعامة البلد:”هذول أوادم!! هذول مَثْعَب البلد”(ص83).”وانت يا جعموص البركة هاي شغلتك”.(ص83). وتطلب من الفتى مساعدتها: “حَطّطني الجرّة عن راسي خلّيني آخذ شويّة نفَس يا عفريت.بتغدَر تْشيل!! إذا صعب عليك خلّيك. هات نشوف مَراجلك إصْحى تِنِقْرق”.(ص88). وبدَلال وخِفّة دمّ تحاور عاشقها الفتى الصغير:”كيف ولا إشي أحشيك في صُرمايتي حَشي. مالك مْبَحْلق لتَحْت يا صاعور المعزى شو شايف”. (ص90). وفي الشقيف المرفرف إذ يحشُرها الغول تقول بخِفّة دمّ ورقّة:”إبعد يا نمس همّسْتني. فيجيبها بكلام حلو تترقبّه منه: لكن الحِشْرة حول النار مَقبولة. الحِشرة مْنيحة، هيك أدْفا. وخيال اللهب المزغرد يتلاعب على وجهها البَشوش”.(ص19-20)
الأمثلة كثيرة. وقد رغبتُ في مقالتي هذه عن رواية “فاطمة” إبراز هذه الميّزة الخاصّة في إبداع كاتبنا، وإلى أيّ مدى كان للمرأة والطبيعة بكلّ ما فيها، وللّغة، التميّز والفَرادة التي من الصّعب أن نجدها مجتمعة في إبداع كاتب آخر. لقد قصدت أن آتي بكلّ الأوصاف والتّعابير التي كتبها محمد نفّاع وجاءت على لسان فاطمة، أو في وصف الطبيعة بكل ما فيها من ناس وأعشاب وأشجار وطيور وحيوانات ورياح وغيوم إلخ، وبالتعابير الجميلة والمفردات الخَلّاقة التي لفظت بها فاطمة وغيرها من الشخصيّات لأثبت فّرادة محمد نفّاع وتميّزه وقُدرته على الخَلق والتّجَدّد والإبداع الدّائم في نطاق أقانيمه الثّلاثة التي تَميّز وتَفَرّد وعُرف بها ” المرأة والطبيعة واللغة”.
د. نبيه القاسم