نساء غزة، نساء ونصف
تاريخ النشر: 09/06/15 | 10:00“انما النساء شقائق الرجال “، أو كما قال عليه السلام في الحديث الشريف.
يذكر التاريخ العالمي، والإسلامي كذلك، ان هنالك من النساء من خُلِّدت اسماؤهن في مجالات شتى، وقدمن للبشرية الكثير من المواقف المشرفة، والبطولات الرائعة. فكما سطرت صحابيات جليلات مواقف كثيرة في ساحات الحرب، في الفقه، في الحياة اليومية، كذلك سطرت نساء عالميات بطولات ونهضة مجتمعية لا نفتأ نتحدث عنها في مناسبات عديدة. لا اريد، وليس القصد أن اغمط حق نساء فضليات على طول العالم وعرضه، لكنني- وبحكم موضوعي فقط- فإنني اتطرق الى نساء غزة الماجدات، وكيف سطرن مواقف رائعة على مستوى العائلة والوطن. وليسمح لي الشعب التونسي الشقيق أن اقتبس من عبقريته الثقل الأكبر من عنوان مقالي هذا. فالبعض من إخواننا في بلاد المليون زيتونة ، حين يريدون التطرق الى ذكر فضائل المرأة – وهي كثيرة بالطبع- فلا يجدون مندوحة من خلع أطيب الالقاب عليها، ومنها: ” نساء تونس، نساء ونصف- كما وصفهن الشاعر صغير ولاد حمد، وهن فعلا لجديرات بهذا اللقب الجميل.
أما نساء غزة هاشم، وما أدراك ما هنَّ، فالأمر يتطلب الأخبار الكثيرة والكراريس الأكثر لسرد القليل من فضلهن. فهن السند والمعيل لافراد العائلة إذما ترجل رب البيت، أو أصابته علة أو مرض مزمن أقعده عن العمل . هنَّ الامهات الولودات الودودات اللواتي لا يتأخرن في رفد الوطن باسود ضوار. ويكأن حليبهن ليس كحليب سائر الامهات؛ الابناء يشبون ويترعرعون رجالاً بمعنى الكلمة: يتحملون المسؤولية، ويتعاهدون الجار والقريب، ولا تغمض جفونهم عن حراسة وطن عزيز أحبوه- كما نحبه نحن- وتعلقوا به حتى أضحى الرائي لا يميِّز أهم قطعة من الوطن، أم الوطن قطعة منهم. فهل للغزيات من إسهامات جلية تجعلهن أكثر تميزاً وبهاءً؟
تألقت الغزيات في نزع مهنة كانت لأمد بعيد حكرا على الرجال، ليس في غزة فحسب؛ بل على بقعة حدودها من الماء الى الماء. أصبحن اليوم “مختارات” على قدم المساواة مع اشقائهن “المخاتير”. فهذا الأمر يتطلب الجهد الجسدي والعقلي على حد سواء. لم يُقدمن على هذا العمل طمعا في مكسب او وجاهة أو جاه، إنما للاسهام في دفع عجلة المجتمع قُدُماً، وفض منازعات تحيق ببنات الجلدة، كونهن الأقرب اليهن. فالمختارة ربما تدفع من جيبها وتضحي في الكثير من وقتها وعلى حساب عائلتها لأجل رسم البسمة على المحيا واحقاق الحق. فاحدى” المختارات” تقول أن مهمتها تصب في حل القضايا المجتمعية والاسرية ومناهضة العنف الذي يؤدي الى هضم حق النساء. وفي لقاء مع المختارة فاتن حرب و زميلتها سمية الحنفي، فإنهما تعبران عن مدى رضاهما من رد فعل اسرتيهما، خاصة حينما بدأت بوادر النجاح تفرض نفسها متمثلة في التوصل الى حل النزاعات بين الاسر. هل دور المختارات مناط بشؤون نون النسوة فقط؟ يبدو أنْ لا.
فالمختارة ام أحمد، وبلسان زميلاتها الخمس المختارات في القطاع، تقول أن افراد الشرطة والرجال يتجهون اليهن في أغلب الاحيان، وخصوصا إذا ما تعلق الامر بقضايا زوجية وميراث. ويشيد الفاضل عبد المنعم الطهراوي وهو مدير المشاريع في المركز الفلسطيني بالدور المميز الذي تقوم به تلكم الفاضلات معتبرا دورهن بالمؤسسي الضروري. فهل ما زال في جعبة الغزيات من اشراقات؟
ما يحسب للنساء الغزيات شعورهن الجارف نحو دعم اسرهن، وتقديم ما يمكن تقديمه من عمل شريف تجاه السمو بمستوى العائلة ماديا. فقد التجأت بعضهن- ممن فقدن المعيل، أو أقعده المرض أو فقد عمله- الى ابتكار مهن تصون انسانيتهن و تسمو بهن نحو الاستقلالية وهزيمة الفقر والبطالة؛ زراعة الفطر. فقد تم استغلال اسطح البيوت أو اي غرفة في البيت لاستنبات الفطر وبيعه الى المهتمين، وخاصة المطاعم. فبهذا العمل تستطيع النساء- على قلة ما يكسبن- الإسهام في تدريس الابناء في الجامعات، والمساعدة في جلب المتطلبات المنزلية. وماذا بعد؟
فإذا كانت الغزِّيات قد تألقن في حل المشاكل الاسرية وا ستزراع الفطر، فإن البصر والبصيرة، مدعومتان بالإبرة والأنامل الماهرة، قد فعلتا الأفاعيل. فتحت عنوان” نساء غزة يطرِّزن ويصرفن على عائلاتهن”
فقد عمدت بعض الفاضلات الغزيات الى تطريز الألبسة وبيعها الى من يهتم بهذا الفن الفلسطيني الضارب في عمق التاريخ الى العهد الكنعاني. نساء كخلاليا النحل، لا يتوانين عن الإسهام في دفع اسرهن وتقديم ما يستطعن من جهد للتغلب على متطلبات الحياة. البعض يرتدين نظارات مكبرة، ويندفعن في في عملهن بكل ثقة وإخلاص وتمكن. في السابق كانت مهنة التطريز تسهم بشكل أكبر في الدعم الإقتصادي للاسرة، أما حين اغلق المعبر، فالأمر أضحى صعبا. فيما مضى، كانت بعض الاعمال المطرزة تصل الى بلاد الغرب وأمريكا وكان الطلب عليه جيدا جدا.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة / على الفتى من وقع الحسام المهندي نساء غزة يتقن الإسهام في إدارة عجلة الحياة رغم الشقاء ورغم القصف ورغم كيد الكائدين. فهل ابلغ من كلمة لفاضلة غزيَّةٍ- حينما اطلقت كلمات مدوية مزلزلة تقصم ظهور العدوان- حين صدحت على احدى الفضائيات بالقول:” تدمرون، نبني. تقتلون، نخلِّف”. إنه زخم متواصل يأبى التوقف ولا يعرف المستحيل. فكفى بالله شهيدا حين وصفهم ب” الجبارين”. هم شعب يتقن الحياة رغم الجراح الغائرة. يقدم الشهداء تلو الشهداء ولا يفتأ يحتسب ذلك الأمر لله ولا لأحد سواه. فلو تعرض شعب آخر من شعوب الكون لما تعرض له شعب غزة، لربما انقرض، ولكن تأبى الدماء النابضة في العروق إلا أن تضخ الشرف والعنفوان والكرامة. وما زلنا في محراب الغزيات وقهرهن للظروف التي فرضت عليهن.
كما يقال في الأمثال المتداولة في مصر الكنانة- ذلك الشعب العظيم-: ” اليد البطالة نجسة”، ولذا فقد عمدت الماجدات الغزيات الى الإلتحاق بما هو متاح من عمل نظيف وشريف، مفضلات ذلك على تلقي الإحسان من هنا وهناك. فهاهي الفاضلة ام أحمد- بعد فقد الزوج لعمله إثر تدمير العدوان لورشة كان يعمل فيها- تعمل في روضة اطفال لإعالة اطفالها، رغم الآلام الجسدية التي تعانيها. لا همَّ لها إلا أعالة أبنائها الخمسة الصغار وتقديم ما تملك لهم لأجل حياة كريمة. أما الفاضلة شيرين فعملت كفرد أمن في منتجع سياحي خاص بالنساء بعد فقدان الزوج لمهنته التي كانت تقيم اودهم. بعض الغزيات انخرطن في مهن تتطلب الخبرة والمهارة في اعداد الطعام.
منهن من تألقن بعمل المعجنات في جمعيات خيرية نسائية. فالخبرة هنا هي الفيصل ولا شيء غيره، وهن عند حسن الظن. والبعض من نساء غزَّة يتكاتفن ويبدأن مشاريع صغيرة لتوفير الحد الادنى من المصروف للاسرة. فهذا العمل يساعدهن في الهروب من العوز والفقر والبطالة. ومن طريف ما قاله مصطفى كامل ذات يوم:” لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس”، فمن الأجدر أن نتعرف على مهنة أخرى تتألق فيها شابات غزيات شهدَ لهن عملهن بالنجاح.
شهرزاد المصري شابة غزيَّةٌ أرادت مشيئة المولى أن تفقد نعمتي السمع والنطق معاً، لكن ذلك لم يثنها عن إثبات جدارتها في مهنة محببةٍ الى قلبها وهي تصفيف الشعر للسيدات. نجحت نجاحاً باهرا في عملها رغم نصائح الكثيرين بالتوقف والخروج من هذه المهنة. شهرزاد أكرمها الله تعالى بدخول دورة في مجال تصفيف الشعر لبنات جنسها وقد انعقدت تلكم الدورة في جمعية المستقبل للصم الكبار بغية دمج هذه الفئة في المجتمع المحلي، بعد رفض الكثير من اصحاب العمل توظيفهن. وهنالك الكثير من زميلات شهرزاد قد اتيحت لهن دورات في تصفيف الشعر ونجحن بجدارة. جدير بالذكر أن من يعانون من
اعاقات سمعية من الجنسين فوق 18 عاما بلغ 2409، و1243 شخصا تحت 18 عاما حسب وزارة الشؤون الإجتماعية الفلسطينية.
فإنَ كان الشقاء وشظف العيش والإبتلاءات على موعدٍ مع الشعوب العربية قاطبة، فنصيب الغزيين منه يشكل نصيب الأسد. فلا أحد ينكر أو ينسى ما حل بأهل القطاع جراء العدوان المتكرر، وخاصة الصيف الفائت. فقد هطلت على غزة حمم وذخائر تصهر الصخور والمعادن، وتجعل بيوتاً وأحياء بأكملها قاعاً صفصفا، وأثراً بعد عين. عائلات بأكملها كانت الوقود لهذه الحرب الغاشمة وغير المتكافئة. الأشلاء في الشوارع، المستشفيات تعج بالجثث الزكية الطاهرة. أمهات وآباء رأوا مصرع فلذات أكبادهم أمام أعينهم، وأبناء شهدوا مصرع والديهم عياناً. أمام هذ المشاهد والمناظر المرعبة والمخيفة، فقد عانى البعض من الغزيات الفضليات اتعاباً نفسية وهواجس قضت مضاجعهن. ولذا، فقد انبرى مركز الصحة بغزة بإدارة مريم زقوت بتوفير خدمات رياضة اليوجا لأجل سحب الطاقة السلبية من الاجساد عن طريق الاسترخاء . هذه إحدى الطرق التي اتقنتها الفاضلة الغزيَّةُ لمساعدة أخواتها ممن يعانين من تبعات اهوال الحرب.
فما أصاب هذا الشريط الضيق والاكثر ازدحاما في العالم جراء حرب الصيف الفائت لا يتصوره عقل. فطبقا لمراكز حقوق الانسان، فقد قتل ما عدده 293 امرأة، وهجِّرت ما ينوف عن 34 الف سيدة جراء دمار بيوتهن بشكل كلي أو شبه كلي، ناهيك عن تدمير أكثر من 2000 منزل تعود ملكيتها للنساء. وتستمر عجلة العدوان والتخريب والدمار لتتسبب في فقد مئات النساء لازواجهم، اضافة لحالات اجهاض تعد بالمئات.
ظروف لا يقدر على تحملها إلا من سلَّم أمره لله، وعاهده على تدبير امور حياته بنفسه دون اراقة ماء الوجه لهذا أو ذاك. فمن مد يد العون، فأجره على الله، وهذا واجبه تجاه اهله وبني جلدته، وتطبيقا لقوله عليه السلام:” أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ، جائع فقد برئت منهم ذمة الله”.مهما عملت الفضليات الغزيّات واشتغلن، فعملهن هو لسد الرمق وللحفاظ على عجلة الحياة مستمرة. كل معاناة الشعب الغزي يقف وراءه الحصار الجائر من الأعداء ومن يبارك ذلك أو يغض الطرف عنه. فك الله اسركم ورزقكم خيري الدنيا والآخرة.
يونس عودة/ الاردن