الرّبيع عربي… مؤامرة أم صحوة عربيّة جديدة؟

تاريخ النشر: 22/02/13 | 19:55

كثُر الحديث عن التحرّك الشّبابي بداية ثمّ الشّعبي لاحقاً في المدن والأرياف العربيّة. ومن ضمن الأحاديث المتداولة في الأوساط السّياسيّة والإعلاميّة والفكريّة العربيّة والعالميّة تأتي محاولات التّقييم السّلبي والإيجابي لهذا التحرّك الذي فاجأ الكثيرين خاصة الغرب.

وهذا التّقييم يعتمد على كيفيّة نظرتنا للحراك الشّعبي العربي، والقاعدة الفكريّة التي نستند عليها في قناعاتنا تجاه مختلف القضايا المطروحة على المواطن العربي منذ سنين.

الحراك الشّعبي العربي لم يستثن دولة عربيّة أو شكلا معيّنا للحكم، ولم يستثن ساحة تفاعل اجتماعي وسياسي واقتصادي في الوطن العربي بغض النّظر عن دعوى الحكومات المختلفة كونها تقدميّة أو محافظة، ودرجة قربها أو بُعدها من العلاقة بالغرب ومؤسّساته وحكوماتهِ بصيغة التبعيّة الكاملة أو التبعيّة المستترة أو المصالحة الدّائمة التي تؤمّن لها البقاء في السّلطة.

وبغض النّظر عن اختلاف درجات التقدّم الجزئي أو التّوازن الاجتماعي أو الاقتصادي، أو درجات القهر السّياسي والطبقي والنّفسي والاجتماعي لمجتمعاتها. إنّها السّذاجة السياسيّة وعدم إدراك كوامن الوضع العربي بعد حزيران عام 1967، واحتلال العراق عام 2003، والإحساس المزدوج للمواطن بالاضطهاد والظلم والاستغلال – داخلياً وخارجياً،- وانهيار العلاقة (إن وجدت) بين الحكومات وشعوبها، والتي تدفع البعض لتقييم الحراك الشّعبي العربي كونه – فوضى منظّمة مدفوعة الثّمن مقدماً.

– في حين أنّه -التّفكير الشّمولي المنغلق – الذي يدفع البعض الآخر لتقييم الحراك- الانتفاضة أنّها مجرّد جزء من – المؤامرة الكبرى – على الأمّة، المؤامرة التي قادها ويقودها الغرب والصّهيونيّة لتجزئة الأمّة.

والكارثة الكبرى هي في تبنّي هذا التّقييم من قبل من يعرفون أنفسهم أنّهم طليعة عربيّة سبق وأن قادت الحراك الشّعبي العربي قبل خمسين عاماً تحت نفس الأهداف: الحريّة وتوحيد الوطن، وإزالة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، والعدالة وبناء المواطن الصّالح، وبعث إنسانيته المفقودة، وتفجير طاقاته الكامنة لبناء الوطن والمجتمع الجديد.

إن أيّة دعوة أو فكرة أو عقيدة تستطيع أن تحفر مكانها في عقول البشر، وتتجذر في المجتمع من خلال تجسيدها الصّحيح لأمنياتهم وآمالهم وتطلعاتهم أوّلاً.

وثانيا، وهو الأهم، بتجسيدها عمليّا بشكل قوانين وإجراءات وفعل يؤدّي بالنّهاية إلى تغيير جذري ومتواصل للحياة اليوميّة للمواطن إلى الأفضل، وتغيير للمجتمع كبناء وعلاقات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، وكمؤسّسات وقوانين تمنح المواطن الشّعور بالأمان والرّاحة ويفجّر فيه كلّ مؤهّلاته الكامنة للعطاء مساهمة في بناء الدّولة والمجتمع.

أي أن يعيش المواطن – فعلياً – هذا التحوّل ويشعر به كتغييرات واضحة في حياته اليوميّة ويساهم فيه كجزء من مسؤولياته هو تجاه الوطن.

طالما كانت النّخب السياسيّة، أو التي تعمل في حقول العمل الحزبي السّياسي، دون تحديد لتوجّهاتها وأفكارها، هذه النُخب مُقتنعة، وعلى المواطن أن يصدّقها ويتبعها سياسيّا. تطلب منه ذلك وحسب قناعاته في فترة العمل السرّي أو عندما تكون في جبهة المعارضة.

وتطلب منه ذلك، مقتنعاً كان أم لا، بالإكراه وبالأساليب القمعيّة حيناً وبغصن الزيتون حيناً آخر عندما تعتلي كراسي السّلطة بقوتها وهيبتها وإمكاناتها.

وهي لا تفتقد أو تنسى جُهداً أو وسيلة أو محاولة، شرعيّة كانت أم لا، لتُحقّق هذا الولاء والقناعة والذي يصل أحياناً إلى نقطة الولاء المطلق. فالمواطن في نظرها إنسان يحتاج إلى توعية مستمرة يمكن أن تمتد لسنوات طوال لكي يصبح مؤهلاً لإعطاء رأي بمنهاجها وسياستها التي تتبعها، بل وحتّى بأهليتها للحكم أو البقاء فيه.

لذلك عليه أي المواطن أن يترك القيادة والدّولة والسّلطة وكل ما يتعلق بها للنّخب السياسية. فهي التي تفكر وتقترح وتنفذ وتقيّم العمل، وما على المواطن إلا الرضى والاقتناع بحكم النخبة. فهي ( كما تفكر ) بأنها الأكثر وعياً وإدراكاً لمجرد أنها نظمت نفسها في مؤسسة حزبية وطرحت أفكاراً مستقبلية لتغيير المجتمع، وبهذا فهي تمثل طموحات الإنسان والمجتمع، ويعطيها ذلك الحصانة الكاملة والمستمرة من نقد المجتمع (بمواطنيه وحركاته السياسيّة والفكريّة والأدبيّة) أو رفض توجهاتها الخاطئة وتصحيح مساراتها.

هذا النوع من التّفكير الشّمولي المؤذي أدّى إلى كل النكبات والكوارث التي أحاطت بالمجتمع العربي، رغم كل الجهود التي بذلت من أجل التغيير أو الإصلاح، لأنّه:

1- اختزل المجتمع وطاقاته وأفكاره وطموحاته في عقل نخبة سياسيّة واحدة، وقناعة واحدة، وتوجّه واحد لتغيير الحياة نحو الأفضل، ومن ثُم لتُختزل في عقل إنسان واحد وقناعته.

2- ألغى وجود الفكر الآخر المخالف له (باختلاف الحياة والقناعات)، وبذلك ألغى وجود النُخب الأخرى.

3- ألغى وجود العقل الآخر غير المُنتظم حزبيا -(بجانب النُخب السياسية)- أيّا كانت أفكاره أو قناعاته أو مواقفه من مختلف شؤون الحياة اليوميّة أو مستقبل المجتمع ككل. بمعنى أنّه ألغى إحدى حقائق الحياة وهي حقيقة ديناميكية الاختلاف في المجتمع (في العقل والرّؤية والقناعة والإدراك والوعي والإنتماء والطموح والأمنيات.الخ)، والتي عاشتها البشريّة منذ بدء الحياة على الأرض.

4- النّتيجة المنطقيّة لما سبق هي السّيطرة غير المحدودة للنّخبة على كلّ مؤسّسات السّلطة دون وجود جهة مستقلّة (مدنيّة أو قضائيّة أو سياسيّة) تراقب وتحاسب السّلطة بمؤسساتها وأشخاصها.

كل هذا سيؤدّي حتما إلى تفشّي الفساد، بدأً من الحالة الفاسدة الصّغيرة في إحدى مفاصل الدّولة ليتوسّع، في غياب القانون والمحاسبة، ليشمل مفاصل أخرى، ثم ليصبح ظاهرة بنيويّة في جسم النّظام وينعكس على كلّ إجراءاته وسياساته الدّاخليّة والخارجيّة.

5- وهذا حتما ستكون نتائجه على العلاقة بين المواطن – المجتمع وبين السّلطة والنّخبة الحاكمة، بغض النّظر عن طبيعتها وشعاراتها وأفكارها. حيث يبدأ الافتراق بينهما وتتوسّع الهوّة الفاصلة بينهما كلّما حدث افتراق جديد وتراكمي بين الأفكار والشّعارات المطروحة على المواطن والمجتمع وبين مواقف وإجراءات الدّولة وسلطة النّخبة ومؤسّساتها المختلفة.

وعند نقطة الافتراق المتواصل تبدأ مبرّرات بقاء النّخبة على رأس السّلطة تتضاءل بخطّ بياني انحداري بعد أن تخضع أولاً لحالة المساءلة من قبل المواطن والمجتمع عن شرعيّة وجودها في قمّة السّلطة وخروج المواطن منها بعد السّنوات الطّويلة من الانتظار، وبعد فشل كلّ الوعود التي قدّمتها الأحزاب وسلطتها على الصّعيدين العام والخاص (سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً). والأدهى من ذلك هو انفراد الأحزاب وأعضائها ومؤيديها وأصدقائها بالسّلطة. وتحوّلها إلى سلطة معادية بعد أن طرحت أفكارها لتبنّي طموحاته.

لقد وصل المواطن والشعب في معظم الأقطار العربية إلى قناعة محددة من أن السلطة الحاكمة لم تعد تمثله أو ترعى طموحاته، وبدأ شعوره بالأحباط والخيبة منها الى درجات عالية، بعد أن اعطاهم ثقته لفترة طويلة وصدقهّم، ليخدعوه بالشعارات وليسيطروا على كل شيء.

وأكثر من هذا أن السلطة عاملته بقسوة وأضطهاد دون واعز أخلاقي، أو مانع قانوني، أو تقليد مجتمعي متوارث، وانتهت السلطة إلى حالة إهانته في كرامته، وأمعنت في إفساده وإفقاره. في المجتمعات المحكومة من قبل نُخب قبليّة أو عائليّة أو عشائريّة أو مذهبيّة أو طائفيّة، فإنّنا لا نستغرب مُطلقا النّتائج أعلاه في إلغاء الأفكار الأخرى والقناعات الأخرى في المجتمع وتزايد حالة الافتراق مع المواطن – المجتمع لأنّها جزء أساسي من حالة التخلّف التي يعيشها المجتمع. ولن تكون عاملاً للتغيير بل جزءاً من حالة الفساد وتقوم بتبرير إجراءاته تجاه المجتمع، حتّى لو استطاعت لفترة زمنية طويلة من إخفاء هذه الحقيقة.

بل يمكن اعتبارها ظاهرة حتميّة وأكيدة، نظراً لنوعيّة أفكار وقناعات من يعتلي السّلطة. والحراك الشّعبي الرّافض لها يُعتبر أيضا حالة حتميّة مهما طال بها الزّمن في قمّة السّلطة نظراً للتقاطع والتّصادم الحتمي بين طموحات المواطن ومستقبله وبين طموحات رجال السلطة، رغم وعي الأخيرة لخطورة الحالة ومحاولات التغيير والإصلاح الجزئيّة (سياسيا واقتصاديا) لاحتواء أيّة حالة رفض متوقعة، أو حراك شعبي متقدم يطرح أفكاراً تهدد سيطرة هذه النُخب على السلطة والقوّة والثروة.

ولكن في حالة الأحزاب والحركات ذات الأفكار التقدميّة والتي منحها المواطن تأييده وبنى عليها طموحاته وآماله وكان مستعداً للوقوف معها في عملها لإنجاز حالة التغيير التي ترفعها كشعارات أو تطرحها كمناهج وأفكار، ثم تتحول إلى نُخبة حاكمة، وسلطة تستمد قوتها من وجودها الأمني وامكانات الدولة، وتعتبر أمن الحزب وسلطته مهمتها الأولى، وتضع مهمّة التّغيير الحقيقي للمجتمع في المرتبة الرابعة من مهماتها، ويُختزل الحزب فيه إلى قيادة أفراد فكراً ومنهجاً ومواقف وإجراءات ويصبح وكأنّه إحدى مؤسّسات الدولة ليضمحل دوره الجماهيري الرّائد ودوره الرقابي على السّلطة وتصبح كل مهماته هي تبرير أجراءات السّلطة وقيادتها. مثل هذه الأحزاب تفقد دورها القيادي بعد حين بسبب الافتراق الذي يتصاعد بينها وبين الأرض الخصبة التي نبتت فيها وترعرعت وكبُرت، وهي أرض الشعب والمجتمع، كنتيجة لكل ما سبق من أسباب .

ثم تفقد مبرر قيادتها لعملية تغيير المجتمع . ويبدأ الرفض الحتمي لقيادتها من قبل المواطن والمجتمع بشكل صامت ويأخذ أشكالاً عدة من الصمت والرفض. وتبدأ السلطة حينذاك بمواجهة الرفض والأستياء بأجراءات غبية أساسها المواجهة الأمنية للمواطن والمجتمع.

والعقل الأمني تحكمه أفكار المؤامرة واجراءات القوة والقسوة والاضطهاد والتخوين التي لا تُعرف لها حدود… إلا البقاء في السلطة. وهنا تلتقي كل أنواع النُخب السياسية التقدميّة منها أو الطائفيّة والعائليّة والعشائريّة في موقفها من رفض المواطن لها.

بل يمكن أن تكون أجراءات المواجهة مع المواطن والمجتمع أكثر قسوة وبغي من قبل النُخب – التقدمية! – مقارنةً بالنُخب الأخرى بسبب العقليّة الشمولية التي تحكم قادتها .

إنّ الأفكار والأطروحات النظريّة التقدميّة لتغيير أوضاع المجتمع للأحزاب، وطنية كانت أم قومية، تتعارض في أحيان كثيرة مع مصالح الدول الكبرى الصناعية لأسباب عديدة أوصلت هذه الدول لمرحلة محاولة أستعمار العالم بطرق واساليب متعددة ومتطورة.

وهنا بدأ الصراع بين قوى وطنية وقومية تحاول بأفكارها تحقيق مصالح شعوبها وبناء دولها الجديدة، وبين قوى كبرى تحاول بالمقابل تحقيق مصالحها التي تعتمد على أستغلال ثروات الأمم الأخرى حتى لو تطلب ذلك خوض الحروب الطاحنة والمتواصلة وحصول الكوارث الإنسانية. ولنا في تاريخ البشرية أمثلة لا حصر لها على هذه المواجهات.

هنا تتضح المفارقة الغريبة جدا.

الدّول التي تقودها أحزاب وطنيّة لها أفكار وطموحات لبناء بلدانها وتغيير حالة شعوبها، نرى شعوبها تفترق عنها وتبتعد عن أحزابها وتصل الحال بالمواطن إلى أن يبحث عن نفسه كمواطن له حقوقه مثل ما علية من واجبات تجاه وطنه… ثم يتحسس بافتقاده للشعور كمواطن على أرضه وفي وطنه وبين أهله ومواطنيه.

ليبدأ دور القوى الكبرى بأجهزتها الإعلاميّة والمخابراتيّة والإقتصاديّة والثقافيّة وبتفوّقها التكنولوجي الهائل، يبدأ في التسلل إلى داخل المجتمع وعقل المواطن الرافض للسلطة، ثم في توسيع الهوة الموجودة أصلا بين المواطن والدولة وأحزابها.

وتلعب الدول الكبرى وأجهزتها على كل الأوتار الحساسة ( ثقافية – إعلامية – طائفية – عشائرية مصلحية – أقليات عرقية ودينية – مصالح أقليمية وغيرها العديد) التي تزيد من الأفتراق بين الدولة ومواطنيها، ولا تبخل على نفسها أستخدام كل الطرق المتيسرة لعزل الدولة والنخبة الحاكمة وأحزابها عن مواطنيها.

وهنا أيضا وبالتوازي يعمل العقل – المتخلف والغبي – للسلطة وأجهزتها بتوسيع الأفتراق مع مواطنيها كردود أفعال لتوجهات القوى الكبرى وإجراءاتها ومواقفها، بدلا عن احتضان مواطنيها والشعور بالمسؤولية الحقيقية عنهم وعن الافتراق الحاصل بينهم، ومحاولة ردم الهوة بعد الأخرى معهم بدلا من توسيعها.

ولأن القوى الكبرى لا تهمها مطلقا مصالح الشعوب الأخرى، بل مصالحها وفقط، فهي تستثمر حالة الافتراق المتصاعدة هذه وتقوم بتوسيعها بذكاء مفرط، مقابل الغباء المفرط من قبل الحكام المتمثلة بالإجراءات الأمنية المتصاعدة ضد مواطنيها، ومزيدا من فقدان الثقة بينهم، ومزيدا من القسوة والاضطهاد. المواطنين الذين يلجؤون في نهاية المطاف إلى الحضن الذي يستقبلهم حتى لو كان كاذبا وعدواً حقيقيا لمصالحهم ومستقبلهم.

وهنا يتمثل القصور الكبير والكارثي في موقف الدولة وأحزابها القيادية، التي تدفع المواطنين دفعاً قسريا وغير واعي إلى أحضان العدو الذي يستقبلهم ويستثمر وجودهم في مواجهة السّلطة والدّولة التي يُفترض بها أن تجسّد طموحاتهم بالحياة الكريمة. هناك أسباب وعوامل كثيرة تؤدّي إلى حالة الافتراق بين السّلطة وبين المواطن والمجتمع.

ولكن السّلطة في البداية والنّهاية هي المسؤولة عن هذا الافتراق وتوسّعه وشحنه بالكثير من الإجراءات السّياسيّة والأمنيّة والإقتصاديّة والقانونيّة. فالسّلطة تملك القوّة بكلّ أنواعها، وتهيمن عليها وتستطيع استخدامها متى شاءت وكيفما شاءت وبأي مستوى مطلوب لتحكم حركة المجتمع وتحفظ توازنه وأمنه وتحقّق العدالة فيه من خلال القانون. فهي القادرة، إذن، على التحكّم بحياة المواطن والمجتمع وبقائه على الحياة.

وهي تستطيع كسب ثقة المواطن والمجتمع أو خسارتها جزئيا أو كلياً. وهي بالتّالي تستطيع- إن أرادت – غلق كل المنافذ أمام الأعداء للدّخول إلى المواطن والمجتمع وتخريب علاقتها بهم.

ولو التزمت السلطة، أي سلطة، بمفردات الدّستور الذي وضعته هي، والتزمت بالعمل على تحقيق هذه المفردات ولو تدريجياً، لاستطاعت تحجيم هوّة الافتراق مع مواطنيها، ولاستطاعت أيضاً غلق مُعظم المنافذ التي يتسلل منها العدوّ رغم امكانياته الهائلة في التصرّف.

ولكنّها – أي السّلطة – تنسى وجود الدّستور، بل تنسى وجود المواطن، كإنسان له من الحقوق ما لأيّ مسؤول في الدّولة، وعليه واجبات ما لأيّ مسؤول في الدولة من واجبات.

بل تنسى وجود القانون إذا تعلق الأمر بتطبيقه على أحد المسؤولين أو أحد أفراد النظام المهمين أو أحد أقربائهم أو معارفهم. وتقوم السلطة بتطبيقه بالقوة وبحذافيره وبقسوة غير مُبررة أحيانا على المواطن العادي. نكون في قمة الغباء إذا فكرنا أن الأعداء لن يستغلوا هذا الافتراق وكل الإجراءات المؤذية التي تمارسها السلطة على المواطن.

ويمكننا وصف الأعداء بالغباء إذا هم لم يستغلوا حالة الافتراق (وفق مصالحهم) للتقرّب من المواطنين، الشّاعرين بالغبن والظلم من السّلطة، واحتضان أفكارهم ومواقفهم في مواجهة السّلطة، وتقديم المساعدة لهم أي كان شكلها ودرجتها.

وهنا أيضا نكتشف غباء السّلطة وقيادتها وأجهزتها عند مواجهتها مواطنيها بقسوة أكبر (إعلاميّا وإجراءات أمنيّة وأوصاف رذيلة تصل إلى حدّ التّخوين وغيرها) تُزيد من حالة الافتراق التي يسعى إليها الأعداء، بدلا من العمل الضروري للسّلطة لتجسير الهوة مع مواطنيها وإلغاء حالة الافتراق وإفقاد العدو إحدى أهمّ الطرق لدخوله للمجتمع والمواطن.

ما الذي نتوقعه من شخص يفتقد الشّعور بأنّه مواطن داخل بلده وعلى أرضه؟ ماذا نتوقّع من مواطن يشعر بفقدانه الكلي لحريته؟ ماذا نتوقع من مواطن لا يأمن أن يتحدث أمام آخرين بسوء استخدام السلطة من قبل مسؤولين في الحزب أو الدولة؟ ماذا نتوقع من مواطن يسعى بجهد متواصل ليكفف الدّمع من عيني طفله بسد حاجته وشعوره بعجزه عن ذلك وهو يرى بعض المسؤولين في الحزب والدولة يملكون كل شيء ويتصرفون بأموال المجتمع والدّولة وكأنّها ملكهم الخاص؟ ناهيك عن انعدام رهيب لتكافؤ الفرص الذي يعيشه المواطن يوميا.

نعم… يمكن أن نتوقع خوف المواطن وصمته واستكانته لزمن، ولكن عند توفر أوّل فرصة للرّفض سيكون أوّل من يرفض السّلطة ويقاومها، لأنّ خسارته قليلة جدّا مقارنة بخسارة أهل السّلطة. بل إنّه يتوقع أن يربح كل شيء… من الحريّة والكرامة والعيش المُرضي والأمان وأنّه مواطن حقيقيّ ينتمي إلى الأرض التي يعيش عليها.

ألم ندرك بعدُ (كنُخب سياسيّة) أن المجتمع العربي أصبح رهينة التعايش القاسي بين حديّ الخوف اليومي من قوة السّلطة وجبروتها، وبين عجزه الدّائم عن التخلّص من الظروف المعيشيّة القاسية، ومن الأزمات المستمرّة في أساسيات حياته اليوميّة، بل محاولة عدد من الحكومات إلى إطالة هذه الأزمات وتجديدها لإبقاء المواطن تحت رحمة السّلطة وأجهزتها؟ ألم ندرك بعد ما يترتب على هذا الوضع من ردود فعل شعبيّة وتبعات تجاه السّلطة ومن يقودها؟

بئس من فكر ويفكر أن المواطنين الذين خرحوا إلى الشوارع في أكثر من دولة عربيّة، في حراك – يذكّرنا بالحراك الوطني الشّعبي في أربعينيات وخميسنيات القرن العشرين الماضي – طال انتظاره، أنّهم موجّهون من الأعداء، وأنّ ثمن حراكهم الشّريف مدفوع ثمنه بالدولار، وأنّهم حفنة من العملاء تم تنظيمهم لينجزوا مخططاً عجز الأعداء عن تنفيذه. إن الحزب، أو السلطة، أو الفئة التي تفكر بهذا الشكل وهذه العقليّة تريد أن تتنصّل عن إلتزاماتها الحقيقيّة تجاه مواطنيها، وتريد تبرير فساد سلطتها وإدارتها للمجتمع، وتبرير اضطهادها لمواطنيها، لرمي الكرة في ملعب الأعداء كغطاء لفشلها المزمن في تحقيق الأهداف والأفكار التي تعلنها يوميّا على المواطنين والمجتمع، وتثقف الشبيبة والمجتمع عليها منذ زمن طويل.

في دراسة بعنوان "الشرق الأوسط يتغير – ماذا عن السّياسة الأمريكية"؟ للكاتب – ميشيل ساينه – ونشرت في مجلة Harvard International Review عدد آذار 2011 تحدث الكاتب عن (( أن الشرق الأوسط يندفع بقوّة في اتّجاه جديد، وأنّ على الولايات المتحدة الأمريكيّة اللحاق به أو أنّها ستُترك بالخلف. وأنّ الأحداث المميزة في تونس ومصر وليبيا والبحرين ودول أخرى في المنطقة قد هزّت النّظام الإقليمي الذي بقي نسبياً مستقرّا منذ عام 1979. وتسببت في بعثرة المصالح الأمريكية التي وإلى ما قبل أشهرٍ معدودات كانت تبدو أمينة.

لذا فهي تتطلب إعادة تقييم السياسة الأمريكية في المنطقة. وإنّ مايحدث في المنطقة لا يعتبر فشلا في المعلومات المخابراتية بقدر ما يعتبر فشلا سياسيّا.

وبعد العرض الشّامل لوضع المنطقة ومتطلبات الإصلاحات المطلوب دفعها في المنطقة، وتأثير الفساد في الدّول المعنيّة بهذه الإصلاحات، فإنه يصل إلى استنتاج مفاده: أنّ الهيجان السياسي الحالي المنتشر في الشرق الأوسط عبّر عن التحديات التي تواجه الولايات المتحدة وتتطلب إعادة تقييم لسياستها في المنطقة.

وأن هذه الثورات لا تعني حتمية ضمان مصالح القائمين عليها أو الولايات المتحدة. هذا التقييم الأمريكي للأحداث والصادر في آذار 2011 يعطينا صورة واضحة عن تخبّط السّياسة الأمريكيّة في المنطقة، والتي تفاجأت بالحراك الشعبي العربي على مدى مساحة الوطن العربي.

من هنا يمكننا القول – بشكل جازم – بخطإ تصوّر البعض أنّ الحراك هو مؤامرة خارجية. أمّا المتظاهرون فقطع شطرنج تحرّكها الدوائر الخارجيّة حسب مصالحها. وكان الأجدر بالحكام والقوى السياسية الغافية أن تعترف بخلل تفكيرها وتحليلاتها السياسية، وبخلل علاقاتها مع الشعب ومطالبه الأساسيّة، وتخلفها المقيت عن تطلعاته وطموحاته، وبالتالي عدم إدراكها لمتغيرات السّاحة وحركة الجماهير وتأثير الكوارث الوطنيّة والقوميّة على تحفيز الحس الشعبي نحو المطالبة بالحريّة والخبز والكرامة الوطنيّة والقوميّة مجتمعة.

وكان الحراك الشّعبي وانتقاله السّريع وتفاعله على مساحة الوطن الكبير دليلاً واضحاً على الوعي الوطني – القومي العربي الوحدوي للحركة المتوقدة والكامنة في نفوس المواطنين من المغرب إلى سواحل الخليج العربي، والرفض الجريء جدا لأي نوع من الظلم والاضطهاد والكبت والاستغلال الذي كانت القوى الكبرى ترعاه ضماناً لمصالحها في المنطقة وتحت مسؤوليّة الحكام العرب.

ليس هناك من عجب ودهشة من استثمار الغرب للخلل الذي تُحدثه وتجذرّه وترعاه – بوعي أو دونه – الحكومات العربية في مجتمعاتها، ولا عجب من محاولة الحكومات المتخلفة في الخليج من استثمار هذا الحراك لتوجيه ضربة موجعة، كما تعتقد، لحركة النهوض القومي العربي الذي يمثله الحراك الشعبي في بعض جوانبه.

ولكنّنا يجب أن نشعر بالذّعر من مواقف الحركات التقدميّة وتصوراتها تجاه هذا الحراك، وبعضها قد قاد حراكا مماثلا قبل عشرات السّنين على شكل تظاهرات وإضرابات ونضال سرّي وعصيان مدني أدّى بالنّهاية إلى تسلمها السّلطة لوقوف الجماهير معها.

إنّ القوى والحركات القوميّة والوطنيّة مدعوّة لدراسة حالة الحراك الشّعبي بكل جرأة وموضوعيّة، والقيام بإعادة تقييم مواقعها الحالية في إطار هذا التحرّك الشّامل، ودراسة إمكانيّة القوى المعادية الداخليّة والخارجيّة من استثماره لصالحها.

ثم اتخاذ موقف وطني – قومي منه، واتخاذ إجراءات متتالية لتحجيم الاستثمار الخاطئ له من قبل الأعداء، أو توجيهه بالاتجاهات الخاطئة سياسياً حفاظاً على مستقبل الوطن والمجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة