سفن تبحر للسماء
تاريخ النشر: 23/02/13 | 10:33لو صادف المرء اليوم آنية فخارية، أي مصنوعة من الطين المحروق، لنظر اليها على أنها مجرد شئ ليس له قيمة ثمينة.
أما صناعة الأواني في مصر، والتي ترجع إلى عهد ما قبل الأسرات، فكان بمثابة إختراع تقني مذهل وتمهيد لتطور حضارة عصر الأسرات. إذ أن الأواني الفخارية التي تغلغلت في كل مناحي الحياة اليومية، تمثل أهم صناعة نشأت مع تطور القرى والمدن المصرية.
من هذه المدن في الصعيد مدينة "نقادة" في محافظة قنا. أما حضارة "نقادة الثانية "(3600-3200 قبل الميلاد) فقد امتدت شمالا من الصعيد حتى منطقة الدلتا، ووصلت جنوباً خلف الجندل الأول.
ويوضح عثور بعض تلك الأواني في مناطق بجنوب أسوان، كيف حدث التأثير المتبادل بين الثقافتين، المصرية والنوبية منذ عصر ما قبل التاريخ.
أما أواني الفخار الملون المزينة برسوم البشر والحيوانات والقوارب, فهي دليل استقرار المصريين الذين أرسوا قواعد الحضارة الزراعية في تلك الحقبة السحيقة من تاريخ مصر.
ومن يشاهد أقدم الرسوم الجدارية الملونة التي عثر عليها في مقبرة الزعيم بمدينة "نخن"، والتي قد تكون لمؤسس الأسرة صفر (عصر نقادة الثالثة) فسوف يلاحظ التشابه بينها وبين الرسوم الملونة, المنفذة على سطوح أواني "نقادة الثانية ".
وفي الحقيقة أن كل آنية منها هي بمثابة مصدر للمعلومات عن الحياة وعن طريقة العيش والتفكير، وعن مدى تفاعل الإنسان المصري مع بيئته التي استقر فيها ويستفيد من مقوماتها. فمن ضمن الرسوم المنفذة على سطوح أواني "نقادة الثانية" مشاهد صيد جذابة ومراكب شراعية تبحر، بمجاديف ومقصورات وصوارى نحيلة وأشرعة وعلى سطحها بشر ووعول.
واتخذت مقدمات بعض المراكب ومؤخراتها شكل رؤوس الحيوانات التي قد تمثل رموزاً مقدسة في عصرها، وتمائم وإشارات للمعبود، وكانت قطعاً تقام الطقوس لتقديسه.
أما الخطوط الزجزاجية فتشير في مثل هذه الرسوم إلى المياه الأزلية أو للنيل. وقد تفسر مثل هذه المراكب على أنها تمثل نوعاً من الإبحار الرمزي بصحبة رب الشمس عبر سماء العالم الآخر. وعادة تظهر الأشكال البشرية مرسومة في وضعية المواجهة, بينما ترسم الحيوانات والطيور والقوارب في وضعيات جانبية حتى تبرز هيئتها.
وتعطي البردية المحفوظة بالمتحف البريطانى للحكيم "آنى" صورة لفكرة الإبحار في العالم الآخر في قارب شراعي؛ حيث يستخدم "آنى" الحبال في توجيه الشراع. فلما كان النيل هو شريان الحياه الذي يربط كل أنحاء مصر ببعض, لذا كانت السفن هي وسيلة المواصلات الرئيسية في مصر القديمة.
وتعطي كذلك البردية تفسيرا لرسوم المراكب على سطوح أواني "نقادة الثانية"على أساس أنها تمثل التمهيد لبزوغ إعتقاد المصريين في فكرة" العالم الآخر في السماء" التي تتجاوز" الفناء" كحقيقة مجهولة رغبة في الخلود.
ويشعرالصانع – الفنان – وهو يشكل آنيته الفخارية بيده وكأنه يحقق نوعاً من "التوازن النفسي والعاطفي" ويخفف من معاناته في الحياة .
وبذلك تعكس الأواني كمنتجات فنية جميلة مشاعر وأفكار صانعها, وتتحول في يده إلى رموز، تحمل معان عقائدية، وتعكس تفاعلات اللاوعي مع الواقع، وتحقيق التوافق بين إيقاع النفس وإيقاع الطبيعة.
ومن المؤكد أن للآنية الفخارية البيضاوية الشكل بحافتها المسطحة التي تزود عادة برسوم على سطحها باللون الأحمر الداكن؛ لتصوير حيوانات صحراوية وقوارب مغزاها العقائدي.
كما أن لتكرار مشاهد السفن الشراعية التي تبحر في رسوم أواني "نقادة الثانية" تفسير يتعلق بمدى تقدم صناعة السفن في تلك الحقبة السحيقة, والتعامل مع نهر النيل كطريق يصل بين شمال وجنوب الوادي، ويرتبط بحقيقة انتقال المنتجات والأفكار والمعتقدات، كنواة للحوار بين الثقافات المتنوعة.
أما الأدوات فهي بالنسبة لصانع الأواني بمثابة الإمتداد لذاته التي تبدع الجمال, وتنفس عن عوطفها.
وسماح الصانع – الفنان – لعاطفته بأن تنفذ عبر طينة الآنية, هو السر وراء تنوع معاني الأواني. إذ منها الأواني التي تتصف بالرقة والأخرى الغامضة أو الزاهدة، ومن بينها كذلك التي تشعر من يشاهدها إما بالبساطة أو بالفخامة.
ولعل ذلك يدل على قيمة الأواني الفخارية كأعمال فنية لها أبعادها الجمالية والتعبيرية، بالإضافة إلى كونها تمثل مرآة للحياة في عصرها.
وإن إختلاف أشكال الأواني وتنوع زخارفها, حتى كاد المرء أن لا يصادف إنائين متماثلين في الشكل أو في الرسوم من الحقبة نفسها، يوضح مدى تفكر الفنان وشحذ ذهنيته ويكشف عن مستوى نمو حساسيته الجمالية ومقدرته الإبداعية.
وحتى الخطوط المتكسرة التي انتشرت بمسارات عبر مسطحات أبدان بعض الأواني، في اتجاهات متوازية وأخرى حرة، بالإضافة إلى الخطوط الحلزونية التي تلتف في مساحات دائرية، وكذلك الخطوط المتقاطعة، والأشكال المثلثة المصمتة، وكلها تمثل الشكل المجرد من الرسوم، فإن لها مع ذلك دلالتها الرمزية المتعلقة بالحياة الدنيا أو بالآخرة.
لذلك تمثل أواني نقادة برسومها رمزاً تاريخيا وحقيقة إنسانية؛ لأن الإنسان الذي صنعها ركز على الحياة، ومن الناحية الأخرى منحه فن الأواني وعيه بذاته وبعصره، ومهد لأسباب الوحدة الثقافية ولنشأة ونضوج شكل الدولة الموحدة.
ومنذ الأسرة الأولى في الدولة القديمة اتخذ المصريون من "بتاح" رأس ثالوث "منف" (بتاح، سخمت، نفرتوم) رباً للفنون والحرف وكان راعياً للحرفيين والفنانين، حتى أطلق عليه إسم"الصانع" إشارة إلى دوره كراعٍ للفنون.
ومع التراجع الحضارى لمصر خلال العقود الأخيرة لم يولى النظام أي عناية بمشكلة العمالة ولا بقضية رفع مستوى مهارتهم وكفاءتهم المهنية التي تخلفت كثيراً عن مواكبة الأساليب والتقنيات الحديثة, إذ ما تزال أشهر قرى مصر التي اشتهرت منذ القدم بصناعة الفخار تعتمد علي طرق بدائية متوارثة عبر آلاف السنين، مثل الدولاب الذي يدار بالقدم، ومثل فرن الحرق الذي وقوده حطب الذرة. ويريد أصحاب الفواخير الحرفيين في مدينة الفخار بمصر القديمة (الفسطاط) تطوير صناعتهم واستخدام أفران الغاز بدلاً من الحرق الذي يلوث البيئة. وقد تسبب تهميش الحرفييين الفقراء ومنهم الخزافين وصناع أواني الفخار، في اضطرارهم للهجرة.
وليس من علاج لهذه ا لظاهرة التي تتسع، إلا بالقضاء على الفساد وتوسيع المشاركة الشعبية في السلطة، وبتحقيق العدالة الاجتماعية.
ويضاف إلى مشكلة البطالة إغلاق الورش، بعد هروب العمالة، وبسبب ارتفاع أسعار خامات صناعة الفخار وقلة التوزيع، نظراً لتوقف السياحية. ومع كل ذلك لا تهتم الدولة بصناعة الفخار. رغم أن مصر التي أبهرت العالم على مر التاريخ، ومنذ العصر الحجري القديم، بإبداعاتها الفنية في كل المجالات، لا تستحق إغفال دورها الريادي في صناعة الأواني على المستوى الفني العالمي.