حدث هذا قبل خمسين عاما
تاريخ النشر: 23/02/13 | 1:36اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين وفي بداية فصل الصيف يحلو لي أن أتذكر حكايتي مع طلابي والتي طوت نصف قرن بالضبط، حكاية حدثت في مثل هذا الموسم سجلت فيها أسمى معاني المودّة والاحترام والتكريم ما بين المعلم وطلابه بل قُل أبنائه يوم كنا نحن المعلمين معالم بارزة في قرانا ومدننا ومجتمعاتنا ليس بين طلابنا فحسب بل لكل سائل توجه إلينا بالسؤال أو الطلب، يومها حق علينا أن نقولها وبملىء أفواهنا: " كاد المعلم أن يكون رسولا" كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي، وحكايتي هذه مع طلابي أحبائي كانت عام 1962 أي قبل نصف قرن بالضبط دونتها آنذاك في دفتر يومياتي لأثرها الحسن الذي تركته في نفسي ولبصماتها الإنسانية والأخلاقية، وفوق كل ذلك لجمال وروعة مشهدها… والطلاب الذين أتحدث عنهم منهم من قضى نحبه وغادرنا إلى الدار الآخرة فلهم الرحمة والمغفرة من الله العلي العظيم، أما المنتظرون فقد تجاوزوا العقود السبعة من أعمارهم… وأنا مرّب متقاعد أزحف نحو الثمانين، أحمد الله الذي أحياني وأنعم عليّ بهذا العمر لأرى وأشاهد بل وأتذكر المئات العديدة والتي لا تحصى من أمثالهم من الذين كان لي شرف تربيتهم وتعليمهم… وهؤلاء الذين أحكي حكايتهم اليوم فلهم مكانة خاصة في قلبي، رافقتهم أطفالا صغارا وغادروني وهم فتية يافعون، وكلما تذكرت عيادتهم لي في مرضي انتابتني نشوة عارمة وذكريات عطرة.
كان ذلك في اليوم العاشر لانقطاعي عن مدرستهم، وفي عصر ذلك اليوم جاء من يزّف لي البشرى "الليلة سيعودك أبناؤك، طلابك" وللتّو انتابتني رعشة فرح وهي مزيج من الوّد والاعتزاز، وقفز قلبي مسرورا جذلا فقد كنت في شوق جارف لرؤيتهم وأتحدث إليهم، وأستمع إلى حكاياتهم ونوادرهم ومقالبهم… وقبيل غروب شمس ذلك اليوم الجميل، جاءا اثنان فقط، جاءا وهما يحملان صندوقا من الموز، هو تقدمة من الصف، كل الصف، تعبيراﹰ عن التهنئة بالشفاء، جريا على عادة أهل البلدة دفعا بالصندوق قائلين لوالدي: "سنحضر الساعة السابعة واختفيا بسرعة البرق كما نقول، اختفيا كلقطة مثيرة وممتعة من شريط سينمائي مثير وجذّاب… ومرّت الدقائق والسويعات وأنا انتظر أبنائي الأعزاء على أحرّ من الجمر، وأنظر إلى ساعتي بين الفينّة والأخرى وكأني استّحث عقاربها أن تسرع الخطى، وأعيش الدقائق التي بعد الغروب في ترقب حذر… وما حانت الساعة السابعة مساءاوإذ بطرق خفيف على باب غرفتي… فقلت: من الطارق؟ تفضّل ادخل بسلام، فتح الباب علي مصراعيه وإذا هم بأكثر من وافد، إنهم أبنائي طلابي، خفق قلبي حينما رأيتهم أكثر من خفقة فرح، وقفوا بمحاذاة الباب مترددّين في الدخول، يحاول الواحد منهم دفع الآخر، ناديت أحدهم باسمه وقلت: تفضل يا أحمد أنت وزملاؤك أهلا وسهلا بكم… تفضلوا… فتقدم أولهم مصافحا مهنئا ليلحق به بقية الزملاء يحذون حذوه، وكان عددهم اثني عشر طالبا.. طلبت إليهم الجلوس فجلسوا، رحبّت لمقدمهم شاكراﹰ لهم صنيعهم هذا، سألتهم عن أحوالهم وأحوال بقيّة زملائهم فاعتذروا باسم بقية الزملاء محملَّين بتحياتهم وتهانيهم الحارة… ورويدا رويدا زالت الكلفة وزال معها الخجل وبدا كل شيء طبيعيا تقريبالتصبح غرفتي أشبه بصف دراسي تفيض حيوية تتجاوب في أرجائها أصداء الأحاديث والنكات الممتعة الشيقّة والمتنوعة . وعلى هذا الحال انقضى وقت يعادل ثلاث حصص تدريس دون أن نشعر كيف مرّ هذا الوقت دون أن انظر إلى ساعتي كما جرت العادة في نهاية كل حصة تدريس ودون أن يقرع جرس أو تقال كلمة "قيام" التقليدية ومن ثم انصرف…
وكان مسك الختام أن وقف أحدهم وأستأذن للانصراف. شكرتهم على زيارتهم الكريمة هذه وأنا أغالب لوعة وحرقة الفراق وليتقدموا مني كما دخلوا واحدا واحدامصافحين مودعين.
“كما تزرع تحصد” – هكذا قال السلفُ الصالح، وأنت، عزيزي أبا إياد، زرعتَ في قلوب طلابك بذور المحبّة فنمت وترعرت وأتت أكلها اليانعة من الاحترام والتقدير! بوركتَ وبوركَ غرسُك!
تحية احترام ومحبه للعم ابو اياد
ان اجمل ما يحظى به الانسان بعد تقاعده من عمله او انهاءه لاي ظرف .. هو التكريم من القائمين على عمله او اصحاب هذا العمل ولو بشق تمره
( اعني ولو بشهادة تقدير ) , على ما بذله وافنى عمره فبه مبدعا , مطورا ,
نموذجا ومعطاءا..كما كنت انت .
ولكن الاجمل من ذاك هو العرفان والتقدير والمحبة التي يلاقينا بها طلابنا بعد عشرات من السنين وقد اصبحوا رجالا ..وهذا هو التكريم وانت اهل له يا ابا اياد .