سُقراط وعين كارم
تاريخ النشر: 23/02/13 | 23:26معنى اسم هذا الفيلسوف والحكيم اليوناني الشهير سقراط )468-BC.399( “المعتصم بالعدل” وهو معلّم أفلاطون. فلسفته إلاهية وحظيت الحكمةُ في فكره وقلبه بمكانة مرموقة جدا. كان يرى بأن الحكمة طاهرةٌ مقدسة وعليه فلا يجوز تسطيرُها على الجلود بل ينبغي أن تُحفظ وتُصان في العقل والوجدان. لذلك لم يصنّف هذا الفيلسوف شيئاً وما يُعرف عن حياته وأفكاره وفلسفته مستمدّ من كتابات أفلاطون ولا سيما حواراته. تبِع سقراط نهجَ أستاذه طيماتاوس الذي أجاب بما يلي حول مسألة تلخيص الطالب لما يسمعه من معلمه.
“ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأزهدك في الخواطر الحية! هَب أنّ انساناً لقيك في طريق فسألك عن شيء من العلم، هل كان يحسُن أن تُحيله على الرجوع إلى منزلك، والنظر في كتبك؟ فإن كان لا يحسُن فالزم الحفظ”.
هجر سقراط مادّيات دنياه ولذّاتها وحارب السفسطة وترفّع عن عبادة الأصنام والتماثيل فسيق إلى السجن حيث زُجّ فيه وجُرّع السُمُّ الزُّعاف ومات موت الأبطال. ومعنى السفسطة بكسر السين الأولى أو بفتحها، كما لا يخفى على الكثيرين، هو انتهاج القياس الواهي بغية تزوير الحقائق وتمويهها. قُتل سقراط جسداً أما روحه فبقيت حيّة فاعلة في عقول تلامذته وتلامذة تلامذته وأفئدتهم إذ بلغ عددُهم أكثرَ من اثني عشرَ ألفا. وكما قال أرسطو فيما بعد “من نازع السلطان مات قبل الأوان”. أسلوبه في التعليم والتحليل كان مبنيا على السؤال والجواب، وقد ترك ذلك أثراً عميقا وجليّاً في نفوس مستمعيه وأذهانهم. لم يرض بدنانير الملك وبجواهره وديباجه كي يغيّرَ رأيَه حول إيمانه بالخالق وتمسّكه بالحياة الإلهية حياة الروح والبرّ والحقّ. ابتعد سقراط عن الهيولانيات، أي الماديات وانغمس في عالَم كله روحانيات وتأملات. فقد كان يقول لا تدع حواسَّك الخمس تصول وتجول فيما لا ينفع كي تضيء نفسُك، ولا تتجاوز الميزان، أي كن عادلا وحاول اكتساب الفضائل والخيرات في كل زمان ومكان. تلك الفضائل والبرّ ونصرة الحق يمكن اكتسابُها إذا استغلّت أعضاءُ الجسم الاثنا عشرَ بالشكل الصحيح الإيجابي. وهذه الأعضاء هي: العينان والأذنان والمنخران واللسان واليدان والرِّجلان والفرْج.
ومن أقواله بل حِكَمه وأفكاره الثاقبة الصائبة ما يلي: لا لذّةَ إلا وبعدَها ألم ولا ألمَ إلا وبعده لذّة. النفس جامعة لكل شيء، فمن عرف نفسَه عرف كلَّ شيء، ومن جهل نفسه جهل كل شيء، وهناك قول شبيه بهذا لجالينوس الطبيب “معرفة الانسان نفسه هي الحكمةُ العظمى”، ما ضاع مَن عرف نفسه، النفس الخيّرة مكتفية بالقليل من الأدب والنفس الشريرة لا ينجحُ فيها كثيرٌ من الأدب لسوء مغرسها، لو سكت مَن لا يعلم لسقط الاختلاف، الدنيا سجن لمن زهد فيها وجنّة لمن أحبّها، رأس المودّة حسنُ الثناء ورأس العداوة سوء الثناء، خير الأمور أوسطُها، الصبر يعين على كل عمل، لا يكون الحكيم حكيما حتى يغلبَ شهواتِ الجسد، أقربُ شيء الأجل وأبعد شيء الأمل، إنما جُعل للانسان لسان واحد وأذنان اثنتان ليكون ما يسمعه أكثر مما يتكلّم به، أنفع ما اقتناه الانسان الصديق المخلص، رأس الحكمة حُسن الخُلْق، النوم موتة خفيفة والموت نوم طويل، لا ضرّ أضرّ من الجهل والخطيئة هي الجهل ولا شرَّ أشرّ من النساء، هنّ كشجر الدِّفْلى له رونق وبهاء فإذا أكله الغِرّ قتله، الجاهل مَن عثر بحجر مرّتيْن، استحبُّ الفقرَ مع الحلال عن الغنى مع الحرام. ويُقال إن شخصاً سأل يوماً سقراط قائلاً: لمَ صار ماء البحر مالحاً؟ فأجابه إن أعلمتني المنفعة التي تنالك من علم ذلك أعلمتك السبب فيه.
قبل إعدام سقراط سأله أصدقاؤه وتلامذتُه عمّا يوصيهم بالعمل اتجاه أهله، نسائه وأولاده الثلاثة فردّ عليهم: “لستُ آمرُكم بشيء جديد، بل هو الذي لم أزل آمركم به قديماً من الاجتهاد في إصلاح أنفسكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سررتموني وسررتم كل من هو مني بسبيل”.
ومن سقراط الفيلسوف إلى قرية عين كارم فاتنة الجمال الواقعة في وادٍ يبعد حوالي ثمانية كيلومترات إلى الجنوب الغربي من مدينة السلام، القدس الشريف. أربعون قرية عربية تقريباً في منطقة القدس مثل دير ياسين ولِفتا والمالحة وبيت مَحْسير ودير الهوى والبُريج والقَسْطَل وبيت نَقّوبة وسَريس وبيت أم الميْس وراس أبو عمّار هُجِّر أهلوها ودُمّرت عن بِكرة أبيها إثْرَ حرب 1948 باستثناء عين كارم ولِفْتا. تمّ سقوط عين كارم ما بين التاسع والثامن عشر من تموز عام 1948 وبلغ عددُ سكانها حوالي أربعة آلاف نسمة. تراوح عدد العرب الفلسطينيين أبناء تلك القرى ما بين أربعين ألفاً إلى خمسين ألفا موزّعين على عشرة آلاف منزل. هذا بالإضافة إلى أحياء عربية معروفة في القدس مثل الطالبية والبقعة والقطمون والشمّاعة والنمّرية والوعرية ودير أبو ثور. زِد على ذلك أحياء مختلطة من العرب واليهود في روميما وشيخ بدر ولِفتا. باستثناء قريتين عربيتين اثنتين هما بيت صفافا إلى الجنوب وأبو غوش إلى الغرب لم يبق أي شاهد حيّ ناطق على الوجود العربي الفلسطيني في منطقة القدس الغربية بعد حرب 1948. والجدير بالذكر أن الأملاك في هذه المنطقة في ذلك العام كانت مقسّمة كالآتي: 40% للفلسطينيين، 26% لليهود، 14% وقف للكنائس، 20% ملك لحكومة فلسطين. ولا بدّ هنا من ذكر الجالية اليهودية التي نزحت من مكان إقامتها في الحيّ اليهودي في القدس القديمة إلى الجانب الغربي من المدينة المقدسة. كان لهذه الجالية حوالي خمسة دونمات في القدس القديمة من أصل 800 دونم.
عين كيرم أي “عين الكَرْم، البستان” قديمة العهد وتحتلّ مكانة هامّة لدى المسيحيين إذ أنها، وفق الاعتقاد المسيحي منذ الِقدَم، مسقط رأس القدّيس يوحنّا بن زكريّا الكاهن المعروف بالمعْمدان لأنه عمّد يسوع المسيح. كما وقصدت المكان مريم العذراء والدة يسوع المسيح لزيارة نسيبتها أليصابات والدة المعمدان ومكثتْ هناك مدّة ثلاثة أشهر. وُلد يوحنّا هذا في مغارة بجانبها اليوم دير الفرنسيسكان. عاش يوحنّا المعْمدان الملقّب أيضاً بـ “السابق” لأنه سبق المسيح في المعمودية حياة عبادة وتقشّف في البريّة. لاقى يوحنا حتفَه بقطع رأسه بناء على طلب سَلومة ابنة هيروديث إلى الملك هيرودس حوالي العام 30م. ومما يجدر ذكرُه هنا في بلاد الشمال بأنّ الاحتفال بعيد Juhannus في 26 حزيران من كل عام هو ذكرى لهذا القدّيس. ومن أقواله الجديرة بالذكر ما يلي: لوقا: 3: 7-11 “وكان يوحنا يقول للجموع الذين جاؤوا ليتعمّدوا على يده: يا أولاد الأفاعي، مَن علّمكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ إثمروا ثمراً يبرهن على توبتكم، ولا تقولوا لأنفسكم: ها هي الفأس على أصول الشجر، فكل شجرة لا تعطي ثمراً جيدا تُقطع وتُرمى في النار. وسأله الجموع: ماذا نعمل؟ أجابهم: مَن كان له ثوبان فليُعْطِِ مَن لا ثوبَ له. ومن عنده طعام، فليشارك فيه الآخرين”.
وقد جاء في إنجيل لوقا أيضاً 1: 39-45 “وفي تلك الأيام، قامت مريم وأسرعت إلى مدينة يهوذا في جبال اليهودية. ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات. فلمّا سمعت أليصابات سلام مريم، تحرّك الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس، فهتفت بأعلى صوتها: مباركة أنتِ في النساء ومبارك ابنك ثمرة بطنك! مَن أنا حتى تجيء إليّ أُمُّ ربّي؟ ما أن سمعتُ صوت سلامك حتى تحرّك الجنين من الفرح في بطني. هنيئاً لكِ، يا مَن آمنتْ بأن ما جاءها من عند الربّ سيتمّ”.
في القرية آثارٌ تاريخية دينية، سبع كنائس وأديرة ومسجد ومقابر وعين مريم. من هذه الكنائس كنيسة القدّيس يوحنا المعمدان التي هدمها السامريون الذين ثاروا ضد البيزنطيين المضطهِدين في القرن الخامس للميلاد فأعاد بناءها الصليبيون في القرون الوسطى ثم رممتها العائلة الإسبانية المالكة في أواخرالقرن السابع عشر. أقامت إسرائيل في شمالي القرية الوادعة الخضراء حيث المسارب والأزقّة وشجر الزيتون والكرمة واللوز الفنادقَ وبِِرك السباحة تشجيعاً للسياحة. كما وأن بعض المنازل العربية القديمة قد حوّلت إلى فنادق. على أراضي “عين كارم” الطيّبة أقيم أيضاً مستشفى هداسا عام 1912 وبعد ذلك متحف “يَدْ ڤَشم” أي “يد واسم” الذي يخلّد ذكرى ضحايا النازية من اليهود. والشيء بالشيء يُذكر، عمارة الكنيست وفندق هيلتون مُقامان على أرض قرية لِفتا وحديقة الاستقلال في مركز القدس كانت مقبرة إسلامية في منطقة ماميلا، مأمن الله، وهلمّ جرّا. ويحضرني قولٌ لوزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه ديّان 1915-1981 المخطِّط للحروب الثلاث مع العرب في الأعوام 1956, 1967, 1973 فإنه قال في أواخر الستينات ما معناه “لا يوجد مكان واحد مبنيّ في هذه البلاد لم يكن فيه من قَبل سكّان عرب )صحيفة هآرتص 4 نيسان 1969(. أما زميله البروفيسور بن تصيون دينور وزير التربية والتعليم الأول في إسرائيل فقد صرّح عام 1954 ”في بلادنا مكان لليهود فقط”. سنقول للعرب: أخرجوا! إن لم يوافقوا، إن قاموا فإننا سنطردهم بالقوّة”. ومما يجدر ذكرُه في هذا المجال بأن عدد لاجئي منطقة القدس بلغ في صيف 1999 حوالي أربعمائة ألف نسمة.
Socrates أي سُقراط، اسم لبرنامج عمل لمجموعة الاتحاد الأوروبي في مضمار التربية )The European Community Action Programme in the Field of Education( بدِىء العمل فيه عام 1995. من أهم أهداف هذا البرنامج الخماسي رفع مستوى التربية والتعليم والأبحاث والاستفادة القصوى من التباين في الأساليب المتبعة في دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة. يشمل هذا الإطارُ كافةَ مراحل التعليم وفروعه المختلفة. يقدّر عدد سكّان دول الاتحاد الأوروبي بـ “360 مليون نسمة وفيها أكثرُ من خمسة الاف جامعة أو معهد تعليمي عالٍ يدرس فيها حوالي أحدَ عشرَ مليون طالب وطالبة. ومن سمات هذا التعاون تبادل محاضري الجامعات لفترة أسبوع أو اثنين.
في إطار هذا البرنامج “السقراطي” وصل إلى جامعة هلسنكي مؤخّراً محاضِر من إحدى جامعات باريس ليُلقي بعض المحاضرات بالعبرية )والإنجليزية عند الحاجة( على طلبتنا في قسم اللغات السامية حول تاريخ اليهود في القرن التاسع عشر في شرق أوروبا. إحدى المشتركات في هذه الدورة التي استغرقت أسبوعاً كانت شابة إسرائيلية يهودية عرّفتني عليها إحدى طالباتي الفنلنديات التي تُحسن الحديث بالعبرية. وعندما علمتُ بأنها تسكن في مدينة القدس التي عشتُ فيها قرابة عقدين من الزمان سألتها على الفور وأين في القدس؟
أجابتْ: في عين كيرم
قلتُ: مكان رائع
قالتْ: أخذناه من العرب
الأستاذ د. حسيب شحادة صديقي منذ أيّام دراستنا معًا في الجامعة العبرية في القدس، أعرف حبّه الكبير، وإلمامه الواسع الثريّ للغتنا العربيّة وللغة العبرية. تعجبني كتاباته بعمقها وشموليتها. له منّي ألف تحيّة قلبيّة!