رحلة مع كتاب "عرائس المجالس في قصص الأنبياء" لأبي إسحاق الثّعلبي
تاريخ النشر: 06/03/13 | 4:441– يمكن اعتبار القرن الخامس الهجري قرن تدوين وتنظيم الغرض السّردي المسمّى "قصص الأنبياء".
فهناك مجموعة من المؤلّفات ظهرت فيه من بينها كتاب "عرائس المجالس" للثّعلبي وكتاب "قصص الأنبياء" لابن مُطرّف الطرفي (454هـ/1062م)2 و"قصص الأنبياء" للكسائي (القرن 5هـ/11م) و"قصص الأنبياء" لأبي إسحاق إبراهيم بن خلاف (القرن 11م) وغيرهم.
لكنّ كتاباً واحداً سيعرف طيلة قرون كثيرة مدحاً من العلماء وقدحاً من آخرين، وكلّ قارئ له لا يخلو من استغراب وافتتان وسؤال.
إنّه كتاب "عرائس المجالس في قصص الأنبياء" لأبي إسحاق الثّعلبي (ت.427هـ/1035م) وتبقى علاقتي الشّخصيّة بهذا المؤلّف لا تخلو كذلك من افتتان واستغراب. فأنا لا أتذكّر كليّاً كيف كان اللقاء الأوّل مع هذا النصّ.باستثناء بعض الذّكريات الخجولة التي مازالت تراود خاطري، والتي أحاول بين الفينة والأخرى تسجيلها!
فربّما كان اللّقاء الأول مع هذا المؤلف في زاوية من زوايا مكتبة غابرة في مدينة أجهلها، أو على رصيف من أرصفة الكتب التي تباع قرب المساجد أو في حاشية كتاب قرأته في سنوات مضت ولا أذكر عنوانه.
المهمّ أكثر من ربع قرن مرّ على هذا اللّقاء الأوّل وهذا التّعارف الغامض. وطيلة هذه الفترة الطويلة لم يفارقني الكتاب إلّا سنوات قليلة. أقرؤه وأعيد قراءته باستمرار.
فهمتُ في سنّ مبكّرة الشقّ الأوّل من عنوان الكتاب (قصص الأنبياء)، في حين بقي الشقّ الثاني (عرائس المجالس) غامضاً ولم أفهمه إلاّ بعد سنوات. عنوان فتّان راودني لسنوات عديدة وفي أمكنة مختلفة.
ولم أكن أظنّ آنذاك أنّ أبا إسحاق (الثّعلبي) سيصاحبني كلّ هذه السّنوات وأحمله معي في حقيبتي وفي ذاكرتي وأجعل منه سنوات طويلة بعد ذلك، في أُفق بعيد، بحثاً للمعنى. فقد لعب وسطي العائلي المتديّن دوره في تقريبي من هذا الخطاب الدّيني الذي يدافع عنه الثّعلبي على طيلة صفحات أخباره العجيبة والممتعة.
وكجميع أفراد جيلي كنّا نستمع لحكايات الأنبياء في كلّ الأمكنة والبيوت والمساجد وساحات القصّ العموميّة. واكتشفت من خلال مساري الدّراسي الجامعي كتاباً آخر، (قصص الأنبياء للكسائي) ورواة قدامى (كعب الأحبار ووهب ابن منبه وآخرون)، إلتقيت بهم جميعاً في بطون مصادر التّراث الإسلامي الوسيط التي قضيت بصحبتها ساعات عديدة أتصفّحها وأقرؤها لأسباب شتّى. لكن كتاب الثعلبي كان له طعم خاص ووقع نادر عليّ.
فقد أحببتُ هذا كتاب لا لجانبه اللغوي، فلغته عاديّة جدّاً كلغة السّرديّات العربيّة القديمة، ولكن لطريقته في الحكي وإعطائه الحريّة السرديّة لعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات التي لا تخرج دائماً عن قدرة الله. وأنا صغير، كنت أقرأ قصص هؤلاء الأنبياء التي تتحدّث عن الخير والشرّ والطّاعة والكذب، والعصيان والإمتثال، ومع الزّمن، زمن البحث، أصبح هؤلاء الأنبياء نماذج يمكن الغوص في سبر أعماقها وتتبّع متاهاتها السّرديّة.
فقد كنت أحياناً، وفي لجج الخيال، أتخيّل الثعلبي وهو جالس في بيته ليلاً، بعد صلاة العشاء أو نهاراً، بعد الفجر أو العصر، مُنقّباً في كتبه عن وحدات إخباريّة وقصصيّة، واضعاً الخبر جوار الخبر والعنصر جوار العنصر، متتبّعاً أثر قصصه ومطلقاً لخياله العنان. يؤلف السّرد "ألفة" ويصنّف أنواع متنه المتعدّد المشارب تصنيفاً.
وأحياناً كنت أتخيّله جالساً السّاعات الطّوال في مسجده "بنيسابور" حاكيا ًوواعظاً مستمعيه، وكنت أتساءل ما الذي دفعه إلى القيام بهذه الكتابة؟
وفي يوم بارد من سنوات ولّت فتحت ملفاً كنت أحمله معي رافقني في رحلتي من الضفّة الأخرى (المغرب) ليستقرّ معي في الضفّة الباردة في مدينة باريس. وطلع عليّ وجه الثعلبي مرّة أخرى من خلال صفحات كتابه ذي الأوراق الصفراء، وقرّرت هذه المرّة تعميق التعارف وأن أجعله موضوع مرحلة من مراحل تكويني الجامعي وأعيد له اعتباراً حرمه الزمن منه، وبدأت أغوص في عالمه القصصي الممتع متسلحاً هذه المرّة ببعض القراءات التاريخيّة والنّظريات المنهجيّة.
ومنذ ذلك الوقت وأنا حبيس هذا الكتاب.كُلّما أخفيته في رفّ من رفوف مكتبتي إلاّ أطلّ عليّ بأوراقه الصفراء، فلم أكن أتصوّر قطّ أنّه سيُرافقني كلّ هذا الزّمن.
2- تتكوّن السّرديات المسمّى بـ "قصص الأنبياء" من كمّية هائلة من القصص تتمحور حول الأنبياء والشّخصيات والأمم الغابرة السّابقة لنبوّة الإسلام. حكي ديني قديم حافل بمرويات نشأت بداية في ظلّ سيادة مطلقة للمشافهة وعرفت بعدها عمليّة الكتابة حفّتها روايات شفويّة يصعب تأريخ تطوّرها.
فنحن أمام موروث محكيّ يحمل مواضيع كثيرة ويطرح على كلّ باحث أسئلة شتّى. قصص نجدها بشكل معيّن في النصّ القرآني ومتواترة بشكل آخر في بطون التّفاسير وكتب الحديث والتّاريخ قبل أن تستقرّ أخيراً في مؤلفات تحمل عنوان "قصص الأنبياء".
نماذج عديدة لشخصيّات (الأنبياء) تدخل في سياق تعبير ديني تولّى روايتها رواة قدامى اختلفت مراتبهم وطرق رواياتهم.
حكايات غذّت، ومازالت، المخيال الدّيني لملايين من المستمعين والقرّاء في العالم الإسلامي بلغات مختلفة وذلك لقرون عديدة. عرف هذا النّوع من القصص اهتماماً من طرف الباحثين خصوصاً داخل بنيته القرآنيّة.
فقد تعامل الباحثون معه بشتّى المناهج6. فهناك قراءات نقديّة متعدّدة يصعب حصرها، وعدد كبير من الأطروحات والدّراسات الجامعيّة. وهذا الاهتمام بهذه السّرديات ناتج عن مكانتها، كما قلنا، داخل المخيال الدّيني المشترك للمسلمين من ناحية، ومن ناحية أخرى للقيمة المعرفيّة التي أنتجها هذا النّوع من السّرد الدّيني.
3 – لماذا طالت رحلتي مع الثعلبي؟
جدير بالذّكر أنّ" قصص الأنبياء" قد عرفت بداية جنينيّة منذ بداية القرن الثّاني للهجرة عن طريق كتابات منسوبة لراوية كبير يُدعى وهب بن منبّه وتكلّف بروايتها غالبيّة أفراد عائلته، يروون وينشرون "إرثه" القصصي الذي سينهل منه لاحقاً مجموعة من المفسّرين والمؤرّخين ورواة قصص الأنبياء. وعليه فوهب بن المنبه يُعتبر، من هذا المنطلق، من الرّواة "الأوائل" الذين طوّروا القصص القرآني وجعلوه هيكلاً لتاريخ النّبوات وتاريخ البشريّة منذ بدء الخليقة حتّى ظهور الإسلام.
وبجانب وهب يمكن اعتبار محاولة أبو حذيفة إسحاق بن بشر (ت.204/821) من بين الكتابات الأولى لتنسيق القصص النبوي، لكن مع الأسف لا نملك معرفة موثقة عنه، إضافة إلى المحاولة التي قام بها ابن وثيمة (القرن 3 الهجري) وكتّاب آخرون ما زالوا مغمورين.
ويعتبر، من وجهة نظرنا، كتاب "عرائس المجالس" للثّعلبي حلقة مهمّة داخل سلسلة الرّوايات والكتابات المتعلّقة بالسّرديات الدينيّة في الإسلام الوسيط. فخطابه له خصوصيّة بالنّسبة إلى الكتابات العديدة التي تطرّقت لنفس الموضوع قديماً وحديثاً.
وقد تميّز الثعلبي كذلك عن سابقيه ولاحقيه، الذين كتبوا واهتمّوا بهذا النّوع من القصص، بخاصّيات عديدة نذكر بعضها:
أوّلا، هناك ملاحظات لها علاقة بشخصيّة الرّاوية وتكوينه العلمي. فنحن برفقة راوٍ مشهور في تاريخ التّفسير القرآني، ومُتمكّن كذلك من تاريخ القصص الدّيني ووحداته السّرديّة المتعدّدة المشارب والمصادر.
فنحن أمام راو يتأرجح بين ثقافة عالِمة وأخرى تهتمّ بخطاب يُعطي للمتخيّل والعجيب حريّة الذّكر. ثانيا، تمكُّن هذا الرّاوي من موضوعه ومحاولته توصيل خطابه لجمهور واسع من القراء، وعدم اقتصاره على مستمع معيّن له مواصفاته الخاصّة. فقد ترجم، بواسطة هذه المنهجيّة وحسب منظوره، الخطاب الدّيني الإسلامي، والمقدّس بصفة عامّة، عن طريق كلّ ما هو سردي وعجائبي.
ثالثا، تمكّن الثعلبي في كتابه من ترتيب روايات قصص الأنبياء داخل ما أسماه "بالمجالس" (سنذكرها لاحقاً)، ممّا أدّى إلى رصفها في سياق قصّة واحدة تطمح إلى الكمال.
فهو يذكر غالبا رواة قدامى مشهورين ينقل عنهم أو يشاطرهم النّقل، صحابيون ومحدثون ومؤرخون وأصحاب أخبار وسير، مما يطرح سؤال علاقة سرديات قصص الأنبياء بأنواع كتابيّة وسرديّة أخرى عرفها الإسلام النّاشئ.
فالثّعلبي من النّاحية الشّكليّة وضع نوعا من النّظام والتّكامليّة والاستمراريّة في بناء السّرد الدّيني.
فقد نظّم الثّعلبي كتابه على شكل مجموعة من الحكايات والقصص برمجها في بنيات سرديّة سمّاها "المجالس" وجعل موضوعها الأساسي الدّرس الدّيني والعبرة، بحيث يكون تصوير الخطاب الدّيني مستفاداً من المعارضة المُتمثّلة في نماذج دينيّة قديمة كفرعون وهامان وغيرهما.
فهذا القصص، الذي يحمل في طياته بنية دينيّة عتيقة والذي يمكن القول إنّه اختزل دون مغالاة وجهاً من تاريخ الفكر الدّيني الإسلامي في عصر البدايات، بسّط أفكارًا دينيّة كالخضوع للإله ومسألة الطّاعة والثّواب والعقاب والجنّة والنّار والموت والبعث والقيامة والعذاب والنّجاة والعبرة. برنامج وعظيّ موجّه إلى عدد كبير من المتلقين المسلمين عبر عصور عديدة. وممّا لاشكّ فيه أنّ هذه النقط هي التي أطالت عمره وجعلته يصمد أمام التّاريخ.
فمن النّاحية الشّكليّة تُعيد القصص نفس الموضوع لكنّ الأشخاص والديكور والتّشويق والتّخويف والتّأثير في الوجدان، كلّ ذلك يتغيّر من قصّة لأخرى. فنحن أمام مشروع واضح المعالم يمكن وضعه بسهولة في خانة الوعظ والاعتبار.
رابعاً، حضور كتاب "العرائس" وتداوله وقراءته من طرف سلسلة طويلة من القرّاء وذلك خلال قرون عديدة، ممّا أعطاه شهرةً وصيتاً16 .
4- كلّ هذه العناصر وأخرى أطالت رحلتي مع هذا الكتاب ودفعتني أن أولّيه اهتماما وآخذه كنموذج أحاول من خلاله دراسة البنيات المؤسّسة لقصص الأنبياء في الخطاب الإسلامي الوسيط. مشروع بحثي يصبو إلى مقاربة هذا الخطاب الدّيني المتراكم لمدّة قرون عديدة وإظهار عمليّة البناء التّفسيري القديم الذي طوّر هذا السّرد وجعله يأخذ مضامين دينيّة تضع شخصيّة نبيّ الإسلام (انتظار نبوّته) في قلب البناء السّردي والحدث الإيماني قبل تاريخ وقوعه وبعده.
فنحن أمام خطاب غامض البدايات ساهم فيه كلّ الفاعلين المسلمين الأوائل من روّاة وقُصّاص ومفسّرين وإخباريين، كلّ بطريقته، وأدخلوا هذه السّرديات في سياق أنتجه "العقل الإسلامي الوسيط" على شكل أخبار متواترة وحكايات دينية متكرّرة بنيت لتُسرب أفكارا وتعاليم دينية (إسلامية) كان ومازال المتلقّي المسلم في انتظارها.
فقراءتنا لهذا الخزّان الدّيني من الأخبار، التي حافظ الثعلبي على شكل من أشكالها، تنطلق من المساءلات التي نعرض بعضها على الشّكل التّالي
– اعتبار كتاب العرائس وثيقة مهمّة وأرضيّة خصبة لكلّ باحث ومهتم "بأركيولوجيا" القصص والسّرديات الدينيّة القديمة التي عرفها الإسلام في بداياته.
– كيف تطوّرت الآية إلى قصّة وما هي العناصر التي ساهمت في ذلك؟
– مساءلة هذه السّرديات الدّينية التي وصلتنا على شكل نصوص ووحدات سرديّة متنوّعة – التّنقيب وافتراض مكوّناتها الأولى وتتبّع نسيجها المتكوّن من أخبار مبثوثة في مجموعة من الكتب والمصادر القديمة والأجناس الأدبيّة.
– كيف أصبحت هذه الأخبار "مادّة سرديّة مشتركة" محترمة يمكن الاعتماد عليها في بناء علوم ومعارف هامّة مثل التّفسير والتّاريخ؟
– التّساؤل عن ماهية الوظيفة الفاعلة لهذا النّوع من السّرد في بناء مخيال ديني وقيم إسلاميّة. – ماهية طبيعة التصوّر الدّيني للعالم الذي تدافع عنه القصص من خلال بناء نصوص سرديّة، وإن بقيت على هامش الفكر الإسلامي الوسيط، إلاّ أنّها أثّرت فيه وساهمت بدورها في بناء وعي ديني مشترك.
– دور المتخيّل وإبداعاته وإعادة إنتاجه لأخبار وأساطير قديمة حيث أصبح الخطاب القصصي مؤسّساً للسّرد الدّيني.
– التّساؤل حول كيفيّة تأثير هذه السّرديات وخدمة مشروع الدّفاع عن الإسلام وتربية المتلقي المسلم.
– وأخيراً علاقة المسلمين الأوائل بالخطاب التّوراتي وتمثلّه، والتّعامل معه إمّا كإسرائيليات، لا تستدعي أي اهتمام، أو كخزّان من السّرديات يمكن أن تساعدنا في فهم "الوسط" الذي ظهر فيه الخطاب الإسلامي الناشئ.
كل هذه التّوجيهات والتّساؤلات وغيرها هي عبارة عن حقول خصبة للبحث في هذا الميدان الذي استوجب سابقاً مجموعة من البحوث والباحثين والذي مازال يُسائلنا، لأنه مكوِّن هامّ من مكوّنات خطابنا الإسلامي المعاصر.