عالمٌ متحرّك
تاريخ النشر: 21/06/15 | 15:08ما زالت النظرة إلى السياسة الدوليّة، خاصّة في البلدان العربيّة، مشبَعة باعتقادات تنتمي إلى حقبة الحرب الباردة ذات الاستقطاب الثنائي. لكن العالم تغيّر كثيراً منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأضحت التعدديّة القطبيّة سمته الرئيسة، وغدت التحالفات فيه معقّدة ومتحرّكة دوماً، وبات أكثر تعرّضاً لعدم الاستقرار، في حين تبحث الدول عن إرساء علاقات إستراتيجيّة متعدّدة التوجّهات تحفظ مصالحها وأمنها القوميّ.
الصين لها علاقات إستراتيجيّة مع السعوديّة التي تغذّيها بالنفط وتفتح لشركاتها ولمنتجاتها أسواقاً اقتصاديّة، وهي حريصة أيضاً على أن تكون علاقاتها مميّزة مع إيران بحيث تمدّها بالسلاح والتقنيّات، وقد استخدمت «الفيتو» ضد قرارات لمجلس الأمن كانت السعوديّة قد دفعت إليها. وتحرص تركيا وإسرائيل على علاقات نوعيّة مع روسيا مع أنّهما، كما يسمّى في العرف السياسيّ القديم، حليفتان إستراتيجيّتان للولايات المتحّدة.
بعض مراكز الأبحاث وصنّاع الرأي في أميركا يُساهمون أيضاً في خلق أوهامٍ تنتمي إلى حقبةٍ خلت. فهم ينتقدون سياسات أوباما، ويمنّون أنفسهم بأنّ الرئيس القادم بعده سيُبرِز بلاده من جديد كقطبٍ وحيد يفرِضُ ما يريده على العالم ويدافع بجيوشه عن مصالح حلفائه ضدّ خصومه. خلق الأوهام مفهومٌ عاطفيّاً، لكنّه بعيد عن الواقع، ويُمكن أن يأخذ بعض الدول والقوى التي تعيش تغيّرات جيوسياسيّة كبرى إلى سياسات قد تهدّد مصالحها بل استقرارها على المدى المتوسّط.
من هنا يأتي اندفاع العربيّة السعوديّة لإرساء علاقات نوعيّة مع روسيا كخطوة طبيعيّة، كانت ضروريّة منذ زمنٍ طويل. ولا ينبغي النظر إليها كتحدًّ للولايات المتحّدة، بل كنتيجة طبيعيّة للقاء كامب ديفيد الأخير، وكأمرٍ يُمكن البناء عليه في سياق خلق منظومة استقرار في الخليج الذي يتشاطر فيه العرب مع الفرس، خاصّة أنّ البديل هو ذهاب السعوديّة بعيداً في منظومة أمن إقليميّة، تكون إسرائيل هي العنصر الأساسيّ فيها.
بالمقابل، لا يُمكن التوصّل إلى حلّ لصراعٍ في اليمن أضحى يهدّد استقرار الخليج على المدى الطويل من دون توافقٍ سعوديّ – إيرانيّ مدعّمٍ بتوافقٍ بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. وإلاّ فستأخذ السعوديّة نفسها، كما الولايات المتحّدة في عهد بوش، إلى مستنقع اضطرابات قد تنتج ما هو أسوأ من «داعش». كذلك لا يُمكن أن تبدأ التحّولات التي ستأخذ إلى دحر «داعش» في العراق وسوريا إلاّ من خلال توافق سعودي – إيرانيّ – تركيّ، يؤسّس لما بعد «دولة الخلافة» هذه، التي يعرف قادتها جيّداً كيف يلعبون على صراعات إقليميّة متعدّدة الأقطاب. والأمر سيّان بالنسبة لإنهاء الصراع في سوريا، الذي لا يُمكن أن يأتي من دون توحيد الجهود ضدّ «داعش» وحلّ معضلة تحالف قوى في المعارضة السوريّة (وقوى إقليميّة أيضاً) مع «جبهة النصرة» المرتبطة بـ «القاعدة».
في هذا العالم المتعدّد الأقطاب، تبرز التنظيمات المتطرّفة كأدوات تستخدمها الدول كي تقوّض الاستقرار عند خصومها. إلاّ أنّ هذه السياسات التي دشّنتها الولايات المتحدة في أفغانستان تؤدّي إلى كوارث. فثمن هذه اللعبة أميركيّاً كان اعتداءات 11 أيلول، الأولى والأهمّ تاريخيّاً على الأرض الأميركيّة البعيدة. وثمنها إقليميّاً هو عدم استقرار مزمِن في أفغانستان وباكستان تصنعه «طالبان». «داعش» تعلّمت هذا الدرس جيّداً واستفادت منه، وها هي تذهب حتّى لمنافسة «طالبان» في عقر دارها. والكثير من دول الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل وتركيا، ما زالت منخرطة في لعبة التنظيمات هذه، بانتظار ما قد يخلق استقراراً وتوزاناً للمصالح.
التخوّف الكبير هو أن تصرّ الدول على مواقفها ومصالحها كاملة، أو على نظرة ثنائيّة القطب. الفوضى هي التي سوف تنتصر وحدها آنذاك.
سمير العيطة